عبر التاريخ، لم يقدّمِ العلوّيون أنفسهم تقديماً كافياً، للتعرّف عليهم من مصادرهم، أو كما يعرّفون أنفسهم، كما فعلتِ المذاهبُ الشيعيّةُ الأخرى، ويُرجّحُ السبب العزلة، والتهميش الاجتماعي والاقتصادي الذي رزحوا تحته قروناً طويلة. وعندما تأسستِ الدولةُ السوريّةُ الحديثة، كانت النخبةُ العلويّة علمانيةً غير متدينة، ولا ترى نفسها مشغولةً بخدمةِ المذهب العلوي ونشره، وإنما كانت منخرطةً في التياراتِ السياسية والفكرية السائدة في المشهد العربي، آنذاك. لذا كان من الطبيعي أن تنشأ في أجواءِ السريّةِ والكتمانِ حالاتٌ كثيرةٌ من الأوهامِ وسوءِ الفهم عن الطائفة (الغامضة)، خصوصا أنّ أوّلَ تعدادٍ فرنسي أثبت أنّ العلويين لم يشاركوا السنّةَ العيشَ في بلدةٍ يتجاوز عدد سكانها مائتي نسمة، على الرغم من تشاركهم مع طوائف أخرى. وعند وصولِ حافظ الأسد إلى السلطة، قدّم تنازلاتٍ جمّة للسنّة، من أجل حدّ نفوذِ رجال الدين في المجال السياسي، بينما حيّدَ العلويين، من خلال منحهم سلطة متزايدة في المجال الاجتماعي. وفي المقابل، أجبر المشايخ على التوافقِ مع الفكرةِ الإسلامية السنيّة عن “الإسلام الصحيح”، بدلاً من بناءِ مجتمعٍ علمانيّ حقيقيّ، ففي حين كان نظامُ الأسد يقرع طبولَ سياسةِ الاندماج ظاهرياً، كان، في الوقت نفسه، يؤسسُ لثقافةِ الانفصالِ، والتفرقةِ بين مكوناتِ المجتمع السوري كافة.
وعلى الرغم من وصول العلويين إلى أعلى مناصب الدولة، إلا أن خوفهم (الأقلويُّ) ظلَّ على حاله، فقد بقيتْ ذاكرتُهم الجمعيّةُ تحملُ المجازرَ التي تعرّضوا لها على يد العثمانيّين. وقد عملتِ السلطةُ على رفع منسوبِ الإحساس بهذا الخطر عند كلّ منعطف، ومنعتْ حدوثَ الاندماج الاجتماعيّ لإبقاءِ الأمر في إطار حسن جوارٍ طائفيٍّ، ولم يتطرّقِ النظامُ أبداً لحلّ مشكلة “الفوبيا السنيّة”، فقوّته كانت تنبع من عدم قيامِ تفاهماتٍ اجتماعيةٍ، بأيّ شكلٍ بمعزلٍ عنه. لذا لم يسمح بتشكيلِ أيّ تمثيلٍ أهلي للطائفة، كمجلسٍ علويّ أعلى، أسوةً بغيره، ولم يكن هذا بسببِ علمانية النظام التي يدّعيها دائماً، بل من أجلِ ربط ِالطائفة بمصيرِ العائلة الحاكمة، ووطّد هذا الارتباط عندما سمح بظهورِ الولاءاتِ العشائرية الضيّقة ضمن الطائفة الواحدة، إلى جانب عمله الدؤوب لزيادةِ تفقيرها، وسلخِ أبنائها عن بيئاتهم الأصيلة، عبر الهجرةِ من قراهم إلى المدن، ليعيشوا براتبٍ محدودٍ، كوظيفةٍ مدنيةٍ أو عسكرية، بينما لم يتطوّر الساحلُ السوري، وبقيتْ مظاهرُ الغنى مرتبطةً بالضبّاط الكبار، والفاسدين المعروفين بالاسم. وفي الحقيقة، كانت علاقةُ العلويين بالمسؤولين شخصيةً بحتة، تتبع أشكالاً مختلفةً نابعةً من المصالحِ المتبادلة، والولاءاتِ العائلية، أو العشائرية الضيقة، على عكس التصوّر السائد أنّ كلَّ العلويين ضباطٌ أثرياء أو “شبّيحة” يسكنون القصورَ الملأى بالخدمِ والسياراتِ الفارهة.
واستطاع النظامُ استثمارَ خوف الطائفة (المنغلقة) بشكلٍ ممنهج، كأيديولوجيةٍ مقدّسةٍ لبقائه، معتمداً على التلاعب بذاكرةِ الخوف الجمعية، والتي لا تحوي فترةَ عزّ على الإطلاق، عن طريق الدعايةِ الطائفيةِ الرخيصة، والألعاب الأمنية، ففي عام 1980، اختار حافظ الأسد الاحتفالَ برمضان في القرداحة، مسقط رأسه، بدلاً من الجامع الأموي في دمشق، كما كان يجري التقليدُ. وجمع إليه، بهذه المناسبة، أهمَّ زعماء الطائفة العلويّة الدينيّين، وأوصاهم برصِّ الصفوف لمواجهةِ الأزمة مع الإخوان المسلمين، وهي أول واقعةٍ تاريخيّةٍ تثبت توجّهَ الأسد إلى طائفته بشكلٍ رسميٍّ وعلني، لأجلِ حماية حكمه. ومنذ تسعينيّات القرن الماضي، ستشهد الطائفةُ تحوّلَ الضبّاط والمساعدين في الجيشِ إلى الدين، سيّما بعد انتهاءِ خدمتهم، كما سيؤدي ضبّاطٌ، على رأس عملهم، زياراتٍ إلى مشايخَ مقرّبين من السلطة، وربّما صنيعة السلطة ذاتها، ضدَّ مشايخَ آخرين لم تتمكّنِ السلطةُ من تدجينهم، ولكنّها قطعتْ جذورَهم الاجتماعيّة. وقد طاولتْ حملتُه كلَّ معارضي النظام العلويّين، وهذا يعني خلوّ الساحة من أيّ نشاطٍ سياسيّ يمكن أن يجمعَ الطائفةَ بعيدًا عن السلطة الحاكمة.
وبعد اندلاعِ الثورة السورية، تبيّن وجودُ فوبيا حقيقية عند علويين كثيرين من السنّة (كهويّة)، وفوبيا من المساجد ومن كلّ ما يخرج منها. لذا أظهروا فشلاً واضحاً في التعاطف، الأخلاقي والإنساني، مع ضحايا قمع النظام الانتفاضةِ الشعبية، بل وتورّطوا فيها من دون رجعة، كما حدث في الثمانينيات حين زجَّ رفعت الأسد سرايا الدفاع في حماة في البداية، لتدخلَ لاحقاً الوحدات الخاصة، بقيادة علي حيدر، وتحسم الأمر نهائياً. على الرغم من هذا، معظم العلويين الذين سكنوا مدناً قريبة من حرب الإبادة تلك، عادوا ليستقروا في الساحل، بسببِ مشاعر مختلطةٍ من الشعورِ بالذنب، وعدمِ الأمان من المستقبل، وتكرّر مسلسل الرّعب نفسه عام 2000، عند وفاة حافظ الأسد، حيث تركتْ عائلاتٌ علويةٌ كثيرةٌ دمشقَ، وعادتْ إلى قراها، ولم ترجعِ َإلا بعد ثبيتِ حكمِ الأسد الابن.
ومعزّزين بخطابِ سلطةٍ متفقّهةٍ بعلمِ تحريك المخاوف الطائفية، شعر العلويون أنّ خطرَ العودةِ إلى لعبِ شخصية “المرابع” باتتْ قريبةً، بعد عام 2011، خصوصا أنّ هناك فهماً جمعياً داخل الطائفة يذهب إلى أنّ بدايةَ الخلاصِ من حقبةِ الانسحاق الطويلة كانتْ مع وصولِ حافظ الأسد إلى سدّة الحكم، وبالثورة ِعليه، وتهديمِ أركان سلطته، ستذهبُ طائفتُه إلى الجحيمِ، كعمليةٍ ثأريةٍ، قديمة حديثة، وأنّ ما يحدثُ إعادةَ تدويرٍ للتاريخ، بشخصياتٍ مختلفةٍ وفكرٍ واحد. وما عزّز قراءتهم هذه أنّ المسجدَ هو القاسم المشترك بين الثوراتِ على نظامِ الأسد، فكيف يرُاد لابن الطائفة العلوية أنْ يصدّقَ أنّ السنيَّ الخارجَ من المسجدِ بلحيةٍ متروكةٍ، وشاربٍ مجتثّ، طالبٌ للحريةِ والعدالة الاجتماعية، ولا يريدُ الثأرَ لما فعله الأسدان الأب والابن، عبر خمسين سنة؟ فبدا شارع الأقليّة العلوية مرتاباً من أنْ تكونَ مخادَعةً يجيدها الفصيلُ السنّي المتطرّف. وهذا صاحب حقدٍ ثأري ومطمعٍ سلطوي، لا يموتان، ولعلّه أجرى تحالفاً مع المثّقفين لكسبِ التأييدِ والتعاطف، وتحديثِ خطابه العنيف، بعد فشل ثوراته السابقة، على اعتبار أنهم “عثمانيّو القرن الجديد”. وما زاد الطين بلّة أنّ الشخصياتِ العلويةَ التي وقفتْ صراحةً مع الثورة، تمَّ اغتيالُ سمعتها، وتصفيتها، بتلفيقاتٍ رخيصة.
والسؤالُ الواجب طرحه هنا: هل سينتخبُ العلويون مجدّداً بشار الأسد؟ هم الذين ساهموا في صناعةِ استقلالِ سورية، وشاركوا في كلِّ تفاصيلِ الحياةِ السياسيّة منذ الاستقلال وحتى بداية السبعينيّات، وحضنوا أهمّ الحركات اليساريّة، والعلمانيّة التقدّميّة، بين الخمسينيّات وبداية الثمانينيّات. (بالتأكيد سيفعلون). هم المحبوسون في عنقِ الزجاجةِ يعيشون سرّاً خوفَهم الأعظم، ليس من الآخر، فقط، إنّما من السلطةِ، لأنهم الأعرفُ ببطشها وفاشيّتها، لكون أغلبِهم يخدمون في أجهزتها الأمنيّة، وينقلون إلى بيئتهم الاجتماعيّة ما يجري في الفروع الأمنيّة من تعذيبٍ وقتلٍ، خصوصا العلويين منهم، ليكونوا عبرةً للطائفةِ، وللسوريّين في آن .. (بالتأكيد سيفعلون)، بعدما أثبتتِ المعارضةُ، بأطيافها كافّةً، جهلَها المخزي بطبيعةِ النظام السوري، إضافةً إلى البياناتِ الخبيثة التي أصدرتها الدولُ الكبرى، عازفةً على نغمة “حماية الأقليّات”. ومع أنّ النظام هو المسؤول الأوّل عن دفعِ التخوّفاتِ الطائفية إلى العتبةِ الحاليّة، إلا أنّ قوى دوليّة كثيرة شاركت في تعزيزها، لكن أفظع ما حدث أنّ قوى معارضة “معتدلة” استسهلتْ هذه النغمة، واستخدمتْها بمنطقٍ كيديٍّ للنيٍل من القوى المنافسة الأكبر عبرَ اتّهامها بالطائفيّة، لا يوازي هذا الرخصَ في الأداء سوى أداءِ بعض المتطرّفين (حقّاً) الذين هدّدوا بالانتقامِ من العلويّين، واسترجعوا بتشفٍّ مرويّاتِ الطائفةِ ذاتها عن مرحلةِ الاضطهاد، مهدّدين بإعادتها إليها.
المصدر: العربي الجديد