قراءة في رواية: مقهى الياسمين

أحمد العربي

مناف السيد روائي سوري، ينتمي للثورة السورية، روايته مقهى الياسمين، تتناول الواقع السوري قبل الثورة ولحظة انطلاقتها الأولى، يعتمد الكاتب في الرواية على أسلوب السرد المتابع للحدث، بحيث يتوارى الراوي خلفه. تتطور أحداث الرواية عبر التسلسل في الزمان، ومن خلال المتابعة لتكتمل الرواية مع نهايتها، موصلة المراد الذي أراد الكاتب أن يقوله عبر الرواية. كما يعتمد الكاتب أسلوب التورية في سرد الحدث الروائي، لكنه رغم ذلك لم تخرج الرواية عن أن تكون رواية سياسية بامتياز. فلن يغير واقع تحويل سورية إلى مقهى كبير أسماه مقهى الياسمين، من أن يتحدث عن سورية في كل التفاصيل، ولا أن يكون مدير المقهى هو بشار الأسد أيام الحدث الروائي، وأبوه من قبله. وهكذا في كل تفاصيل الرواية تعود سورية الحدث لتكون حاضرة وترتفع ستارة التورية وتغيب.

تبدأ الرواية بالحديث عن واقع التقسيم المجتمعي السوري من خلال تقسيمات المقهى، حيث النظام الحاكم في كل مفاصل الحياة، يلتف حوله طبقة من الانتهازيين والمنتفعين ومن يحمونه ويراقبون حياة الناس، إنهم الأمن والمخبرين، وتشير إلى حالة الإذلال اليومي المجتمعي الذي تمارسه السلطة على الناس من خلال تلقي المواطنين يومياً صفعة المدير المذلة، وقبولهم ذلك برضى وحب وتبجيل. ثم تنقل الرواية متحدثة عن شخصيات محورية فيها. طبعاً غير المدير، وتتكشف هذه الشخصيات تباعاً في الرواية. ونحن هنا سنتحدث عنها بكمال حضورها، مع ما تقترن من واقع ووقائع.

محمود شاب من أسرة مثقفة، نجح بتفوق في البكالوريا، ودرس هندسة الاتصالات، تعرف على “مايا” أجمل الفتيات في فرعه. وهي اهتمت به لكونه متفوقاً. استعارت دفاتره لأكثر من مرة. هي ثرية، تبادله مشاعر الحب، تعاهدا على الزواج بعد أن يتخرج ويعمل ويؤسس مستقبله. نجح بتفوق كان ينتظر أن يحصل على بعثة إلى خارج البلد ليكمل دراسة الماجستير والدكتوراه. لكنه لم يحصل على البعثة لأنه لا يمتلك الواسطة. أما “مايا” التي نجحت أيضا بمعدل عادي، فقد حصلت على البعثة بواسطة والدها، وهكذا كان قدر محمود أن يتوظف في مديرية الاتصالات في البلد. وأصبح يطل على المحادثات الهاتفية التي تحصل بين الرئيس وأزلامه ومن يتعاملون معه. وهنا كانت مفاجأة أذهلت محمود. فقد عرف بأن في سورية طبقة من المستثمرين الذين يحصلون على مشاريع الدولة، يرشون المسؤولين، ويحصلون على المرابح، كل ذلك على حساب التلاعب في التنفيذ، ويحصل هدر للمال العام، ويعود إلى جيوب أبناء السلطة وطبقة الانتهازيين المحيطين فيها. سيعرف من هو دعبول رجل السلطة القوي الذي يمثل باب التواصل مع المدير، المنتفع الأكبر من السلطة، كذلك سيتعرف على المقاول نذير المتزوج من العاهرة سهى، الذي سينقذ صفقته ورأسماله عبر اتصال زوجته العاهرة مع دعبول رجل المدير، ومن بعد ذلك بالمدير ذاته. ليكتشف محمود أن سهى تلك على علاقة جنسية مع دعبول والمدير. ولها أدوار مهمة معهم حيث أعادت الفحولة والقدرة الجنسية لدعبول والمدير.

لدى محمود صديق عمره بدر، يلتقيان ويتبادلان الرأي في كل شيء. محمود يحمل قناعة بأن هذا النظام لن يسمح لأي أحد من الشعب أن يحصل على أي منصب يفيد الناس أو يؤثر. بل الكل يصل إلى كرسي المسؤولية ليخدم النظام أولاً. ثم ليحصل هو على بعض المكتسبات. ولأن النظام يريد الظهور كنظام ديمقراطي، فقد قرر أن يعطي بعض المقاعد في مجلس الإدارة يكون للمستقلين. مع العلم أن أغلب المقاعد تذهب للنظام وحزبه والأحزاب التي تدور في فلكه، لذلك فكر بدر أن يدخل في انتخابات مجلس الإدارة في منطقته عن المستقلين لأنه يعتقد أنه سينجح، فالناس يعرفونه ويعتقدون أنه إن وصل لمجلس الشعب ينفعهم. كان رأي محمود أنه لن ينجح، وإن نجح لن ينفع الناس، فمجلس الشعب فقط لتأكيد الولاء للنظام وتحقيق مكتسبات شخصية على أفضل احتمال. مع ذلك رشح بدر نفسه وفشل في النجاح من خلال تزوير أصوات الناس.

كما أن هناك مسار آخر في الرواية يعود لسرد واقع النظام السوري منذ عهد حافظ الأسد، وكيف وصل إلى السلطة عبر انقلاب على زملائه. وأن هذا النظام كان قمعياً ودموياً وفاسداً. مشيراً إلى ما فعله في الثمانينات، حيث تحرك الشعب بقواه الديمقراطية، وكذلك تنظيم الطليعة المقاتلة الإسلامية وجماعة الإخوان المسلمين، حيث قمع الشعب وقتل الآلاف من الناس، ودمر بعض المدن، وأهمها حماة. كما تحدث عن محاولة حافظ الأسد توريث الحكم في سورية منه إلى ابنه باسل الذي مات في حادث سير، ومن ثم كان بشار الأسد الوريث للسلطة، وكيف جمع مجلس الشعب ليغير الدستور، لتغيير سن الرئيس من ٤٠ سنة الى ٣٤سنة، حيث كان عمر بشار الأسد وقت ذلك.

ترصد الرواية حياة شاكر كنموذج عن ابن السلطة بكل سوئها. شاكر ابن القرية من الساحل السوري القادم من حياة كان فيها أقرب لعبد عند والده. وكيف بدأ حياته العملية كمخبر للنظام. حيث جعله دوره الاستخباري قريباً من السلطة حاصلاً على رضاها. فقد وصل إلى الجامعة بفضل دورة المظليين. وهناك بدأ دوره الاستخباري بتوريط كل من يحتك به وتسليمه للأمن ينكلوا به. استثمر ذلك أيضاً مع أحد مدرسيه في الجامعة وورطه بما لا يجب أن يقوله، وكان مصيره الاعتقال. أصبح الدكاترة يحتاطون من شره ويساعدوه على النجاح رغم عدم كفاءته لذلك. وهكذا تخرّج من الجامعة وحصل على ابتعاث ليكمل الدراسة في الخارج. وهناك كان مندوباً أمنياً. خرب بيوت الكثير من المبتعثين الآخرين، وكان سبباً لاعتقالهم ودمار حياتهم، كما اعتبر قدراته الأمنية وسيلة لابتزاز زملائه بالتهديد والوعيد. يأخذ منهم المال والأعطيات كي لا يرفع بهم التقارير. أصبح ثرياً. استطاع أن يستثمر علاقاته هذه ليحصل على شهادة الماجستير ويعود. وليكون له مركزه الذي يشغله مباشرة، ويزيد ماله واستثماره. لقد عين مديراً عاماً لصناعة السكر وهنا كان للفساد والإفساد والنهب والسرقة حضور كبير ليحصل على مزيد من الثروة. وأصبح حضوره كبيراً وماله كثير. ووصل إلى لحظة استدعاه فيها الرئيس الأسد إليه ليخبره بتاريخه كاملاً. وليأخذ منه أغلب ثروته. لكن يتركه مديراً لمعمل السكر، وهكذا تبين أن المدير ومن حوله يتركون الفاسدين ينهبون البلد ثم في لحظة ما يستردون منهم ما نهبوا. طبعاً لجيوب المدير وعصابته.

وبالعودة إلى محمود ومايا نكتشف أن محمود هو ابن الدكتور محمد الذي كان مبتعثاً أيضاً، وكيف لم يستطع شاكر أن يبتزه أو يجد ما يشي به عنه عند الأجهزة الامنية. ومايا سيكون والدها شاكر ويلتقي الرجلان حيث يعرفان عن بعضهما كل شيء. يتجاهلان معرفتهما ببعضهما سابقاً، يلتقيان لأجل خطبة مايا لتكون زوجة محمود.

تتحدث الرواية عن الربيع العربي بتورية في التسميات، حيث جاء بداية في تونس ثم مصر واليمن وليبيا. وتبدأ ارهاصاته في سورية. وما فعله أطفال درعا وكتاباتهم على الحيطان، وردة فعل أجهزة الأمن من تعذيب وتقتيل لهم. كذلك المعاملة السيئة واللّاأخلاقية مع وجهاء درعا. وكانت شرارة الثورة الأولى حيث توسعت بعد ذلك لتشمل سورية كلها.

تتحدث الرواية عن الدور الروسي والإيراني، بتورية أيضاً، عن دعمهم النظام للقضاء على الثورة السورية. كما فصّلت عن تشكيل خلية الأزمة، وأفكار النظام عن الوسيلة الأفضل للقضاء على الثورة. بدءاً من مواجهة المتظاهرين بالعنف ومروراً باختراقها بالمخبرين والشعارات والطروحات الفكرية، وأنه يجب وسم الثورة بأنها إرهابية وعنفية وعميلة للخارج. وإسلامية جهادية، لكي يحمي النظام نفسه أمام القوى العظمى، ويصمتون أمام استعماله العنف القاتل ضد الشعب السوري. وكان أخطر المقترحات هو اختراق الثورة نفسها. وخلق الصراعات داخلها. على الأجندة الفكرية والتوجهات العقائدية، والمكاسب الشخصية، ونزعات التزعم، والذاتيات المريضة.

لقد اعتمد النظام كل هذه الأساليب ونجح في ضرب الثورة وخرقها وخلق الصراعات البينية فيها.

هنا تنتهي الرواية.

في تحليلها نقول:

ربما كان السرد الروائي أقل مقاربة في مقارنة سورية بالمقهى، رغم إضافة الياسمين التي تشير بوضوح إلى سورية، كما الأهرام يشير إلى مصر، أو الرافدين يشير إلى العراق، فما حصل في سورية وصلت شظاياه لكل العالم. وبدا ذلك بتخلي الكاتب عن أسلوب التورية، خصوصاً عندما تحدثت عن الماضي وحافظ الأسد ومن ثم ابنه وما حصل في سورية على كل المستويات.

لقد استطاعت الرواية بالمضمون، بعد تجاوز تخفّيها، أن تعيد سرد الوضع السوري بالعقود الماضية إلى لحظة الثورة وما تلاها. دخلت إلى واقع السلطة وآليات عملها، والشخصيات الأمنية والانتهازية الحاكمة. المصلحية والفساد والقمع والتخريب المجتمعي والضياع الإنساني. كل ذلك تم إعادة إحيائه بقوة في الرواية. لكن كان ينقصها أن تكون أكثر غوصاً في البنية الطائفية “العلوية” الأمنية العسكرية للنظام. وهذا أصبح خارج موضوع أن نُتهم بأننا طائفيون، وأن الكثير من أبناء الطائفة أصبحوا متورطين بالدم السوري، وأنهم مسؤولون عن ذلك، وأن المحاسبة يجب أن تطالهم. ولن نستطيع إعادة خلق اللحمة الوطنية الديمقراطية دون محاسبة وعدالة انتقالية، وترسيخ روح المواطنة، وعيش التوحد المجتمعي والمساواة والعدالة وصناعة الدولة العصرية التي تحمي الإنسان وتصون كرامته وإنسانيته أولًا وقبل كل شيء.

أخيراً إن ما حصل في سورية عبر نصف قرن من مظلومية وختامها العقد الأخير من عمر الثورة السورية، مع ما قدم الشعب السوري من تضحيات وصلت لملايين من المهجرين ومليون من الشهداء، ومثلهم من المعتقلين والمخفيين قسرياً وغير المعروف مصيرمن. ومثلهم من المعاقين والمصابين، وملايين داخل سورية في منافي قسرية وحياة مأساوية. ملايين داخل مناطق النظام يعيشون حياة ضنكة، وظلم مستديم. والملايين يعيشون في المناطق المحررة، وشبهة الإرهاب في بعضها. وسيطرة حزب العمال الكردستاني وفرعه السوري ب ي د على ثلث سورية وبدعم أمريكي، والنظام يدعمه الروس والإيرانيين وحزب الله والمرتزقة الطائفيين.

سورية واقعيا مقسمة ومحتلة، وشعبها وصل إلى كل بلاد العالم. ملايين في دول الجوار وملايين وصلت لأوروبا وغيرها من دول العالم. الثمن الإنساني والحياتي والمادي والمعنوي الذي دفعناه كبير. لكن ليس أمامنا إلا أن نأمل بصناعة مستقبل أفضل لكل السوريين، ونعمل له. نسقط النظام المستبد ونحاسبه، ونخرج الدول المحتلة، ونبني الدولة الوطنية الديمقراطية للشعب السوري، ونحقق الحرية والكرامة والعدالة والحياة الأفضل…

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى