لا بد من التأكيد، من دون مبالغة، على أن السوريين أنجزوا إحدى أعظم الثورات في ماضي البشرية وحاضرها، وأن ثورتهم انطلقت على الرغم مما كان قائما في سورية من موازين قوى بين الأسدية وبينهم، ومرّت بأطوار إعجازية، أبدى المواطن السوري فيها من البطولة ما ينتمي إلى عالم الأساطير، فلا عجب أن بلغت مآلاتٍ سيكون مستحيلا بعدها استعادة الوضع السابق لها، بالنسبة لطرفيها كليهما، فلا الأسدية ستتمكّن من ردّ المواطن إلى الزمن السابق لعام 2011، ولا المواطن سيقبل، تحت أي ظرف، الرجوع إلى الذل الذي ثار عليه، واستشهد بالملايين ليتخلص منه، ويعيش بكرامة وحرية وعدالة ومساواة، في ظل نظام لا يستعبده بعد نظام الأسدية الذي خال أن رضوخ السوريين له صار أبديا، وأن ما اصطنعه من استبداد منظّم يحول بينه وبين أن يكون إنسانا جديرا بالحياة، أو مؤهلا لها.
إذا تذكرنا موازين القوى التي كانت قائمة بين تماسك جيش وأجهزة الأسدية وتنظيمهما، وتأملنا ما أعداه ليوم كرسا له طاقاتهما، هو يوم المعركة ضد الشعب، والتي ترجمت إلى انقضاض وحشي عليه في كل مكان، واستخدمت ما راكمته من قوة وسلاح ضده، وحملته من حقدٍ عليه، وقارنا وضعها هذا بوضع مجتمعنا الذي استهدفته، منذ اليوم الأول لاستيلائها على السلطة، وعملت لتقويض لحمته الجامعة، وشحنته بتناقضاتٍ أوكلت إليها تمزيق صفوفه وتوتير علاقاته وإبعادها عن العيش المشترك، وإخضاعها لقدرٍ لا يني يتزايد من العداء، بينما سلطت عليه عالما سفليا منظّما ومزودا بكل ما يلزم لسحق المواطنين، جسّدته أجهزة رأت في حريتهم خطرا يهدّد وجودها. ومع ذلك، تخطى الشعب، بعفويته وشجاعته، فارق القوة بين السلطة وبينه، منذ بدأ حراكه السلمي والمدني. ولم تبدّل هذا الواقع تنظيمات إرهابية مذهبية، قاسمت الأسدية عداءها للحرية ولوحدة السوريين شعبا تجمعهم سوريته، ونجح المجتمع السوري الذي خالت الأسدية أنها حطّمته بما عرّضته له من ظلم واضطهاد، فأخبرها أن ظلمها واضطهادها هما ما دفعاه إلى الثورة، وإلى تمسّكه باستمرارها، مهما كان الثمن الذي تتطلبه، ما دام ثمن كرامته وحريته أغلى وأعلى قيم تجعل الحياة جديرة بالبشر والبشر جديرين بقيمتهم الإنسانية التي لا تعادلها قيمة.
الإنجاز الآخر للثورة إنه كسر نظاما همجيا ووحشيا بتلقائية الإنسان التي تحتضنها الحرية المتأصلة فيه، ومكّنته من أن يواجه بما حبته الطبيعة به من صلابة قوة وظلم وكذب استبداد بني على الغدر والخديعة، مارسه من بدا قويا طوال عقود على من خاله ضعيفا، وانتهي بنزال قوته ما كان كامنا في أرواح السوريين من طاقة، لم يحسب الاستبداد حسابا لها، وهو يزهو بجيشه وأجهزته السرية، ويضحك، في سرّه، وهو يتأمل الخراف التي أعدها للذبح، واكتشف، خلال ثورتهم، أن حرّيتهم جعلتهم نسورا غرست مخالبها في لحمه، وألقت به إلى مهاوي هزيمةٍ لن يخرج منها، أو يتجاوز نتائجها، بعد أن أنزل شعبه به قدرا من الدمار لن يستعيد بعده وضعه قبل النزال العظيم، أي قبل الثورة التي أبلى أبناؤها، إناثا وذكورا، من البطولات ما لم يكن يخطر ببال أحد!
بهذا الانقلاب الثوري، صارت الأسدية وراءنا، مهما فعلت، واستنجدت بالمحتلين والغزاة. ولن تكون سورية القادمة لها، بل ستكون بالأحرى لنا، بما أننا سنواصل ثورتنا التي باغتنا أنفسنا وأعداءنا والعالم بها، وسنعزّز حريتنا التي طردت الأسدية من نفوسنا، قبل أن تقوّضها في واقعنا، وستستكمل القضاء عليها، وعلى أي مظهرٍ من مظاهر الاستبداد، مهما طال الزمن، أو كان التيار والمذهب الذي ينتمي إليه، فالحرية ثورة ومعركة، والسوريون أثبتوا عشرة أعوام أنهم رجالها.
المصدر: العربي الجديد