الوحدة والمستقبل العربي

د- عبد الناصر سكرية

في كل حديث عن الوحدة تثور في الذهن والنفس وبشكل عفوي  مقارنة مليئة بالحسرة والألم؛ بين واقع العرب الراهن وبين ما عرفته الأمة من أيام زاهية شهدت صعود حركة التحرر العربية بقيادة مصر وزعامة جمال عبدالناصر .
وفي كل حديث نقدي متذمر  عن الوضع العربي الراهن المفرط بالضعف والتفكك والهوان يصعد إلى الذهن استذكار عفوي أيضًا، مليء أيضا بالحسرة والألم،  لأيام الوحدة المصرية – السورية التي شكلت أملا لمستقبل باهر واعد ؛ وما كان فيها من شجاعة وتقدم وبطولة..
الأمر يبين مقدار ارتباط الوحدة بالقوة وبالتقدم وبالأمل بالمستقبل الأفضل. فيما الوهن رديف الانقسام. ليس في وجدان العربي فقط بل في تاريخه القريب والبعيد أيضا. لا يشكو عربيان من واقع التردي الراهن إلا ويتحسران على الحال ويتمنيان الوحدة  : ” لو يتوحد العرب لكانوا شأنا آخر ” …هذا حديث الشارع في كل بلد..
فهل يسمح الوضع الراهن بتجربة مماثلة تتكرر فتعيد الأمل إلى النفوس ؟؟
وهل تتوفر لنا بعض تلك المقدرات التي صنعت الوحدة ؟؟
ماذا يقدم لنا الواقع من معطيات راهنة ؟؟
تعيش بلاد العرب مرحلة غير مسبوقة  ، حيث حالة من التشتت والضعف وضياع الأفق مترافقة بهيمنة أجنبية شبه تامة على مقدرات البلاد ونزوع رسمي صارخ نحو الاستقواء بالأجنبي لترسيخ سلطاته وبقاء امتيازاته ..استقواء أدى إلى عودة الاحتلال العسكري المباشر لأطراف متعددة من رؤوس النظام العالمي المعادي الفاسد والنظام الإقليمي الطامع الحاقد..
مرحلة تتسيد فيها أذرع النفوذ الدولي وادواته المباشرة والمستترة. مرحلة بدأت بالظهور المتصاعد في الخمسين سنة الماضية من حياة الأمة ، فبلغت ذروتها في العقدين الأخيرين ولا تزال منذرة بمزيد من الانحدار والهوان..
وإن تكن البلاد تعرضت في مراحل تاريخية سابقة لكثير من تلك الظواهر السلبية بما فيها الاحتلال العسكري المباشر واستقواء الممالك بالأجنبي للحفاظ على السلطة الذاتية ، إلا أن المرحلة الراهنة تختلف عن كل ما سبق من مراحل الضعف والهوان القديمة ؛  ببعض العوامل الأخرى التي تزيد المشهد الراهن مأساوية وسلبية.((.أما بالمقارنة مع أيام الصعود القومي الحديثة فلا شك فالمقارنة مؤلمة جدا.))
– الأول :
أنظمة التجزئة الإقليمية ومفاعيلها على مستوى الحياة اليومية للإنسان والمجتمع. أول وأخطر تلك المفاعيل ترسيم الحدود وتجسيد القيود وتصنيع السدود إمعانا في منع تواصل الأجزاء – الأوطان وتفاعل الناس فيها إلا وفقا لما يرسمه السلطان صاحب الشأن ومالك الأرض والعمران..
كانت البلاد مفتوحة على بعضها لا حدود ولا قيود على حركة المواطن وتنقلاته واختياراته المعيشية والمهنية..
هذه الحرية في الحركة والتنقل تركت أبواب التفاعل الحر مشرعة مع ما يعني هذا من بقاء الشعب ككتلة واحدة موحدة تستطيع أن تفعل وتؤثر وتقرر وتمنح وتمنع. حتى في تلك الفترات التي ظهرت فيها دويلات وممالك وامارات؛ بقيت حركة التنقل والحركة متاحة مصانة لا تحدها حدود ولا تمنعها قيود..
انقسمت الدولة المركزية أحيانا ونشأت دويلات وإدارات رسمية متعددة ولكن بقي المجتمع واحدا موحدا. وكان لهذه الوحدة أثر كبير في صيانة وجدان الشعب وحماية هويته وتراثه الحضاري التاريخي من العبث والضياع.
بقي الإحساس الجامع بالانتماء الواحد، موحدا ضامنا يشكل وعاء لنشأة محاولات كثيرة متنوعة لتغيير الواقع المتردي وتحرير الأمة.
أما أنظمة الإقليمية الراهنة التي نشأت بفعل سايكس – بيكو ، فقد صنعت من الحدود والقيود ما تسبب في قطع التواصل الحر والتفاعل المباشر بين الناس  عبر تقطيع الأرض ومصادرة حرية التنقل والحركة والإقامة.. أكثر من هذا فقد وضع من التشريعات والقوانين ما يجعل التواصل جريمة يعاقب عليها القانون؛ وجعل التفاعل الحر شبهة تستدعي الاستنكار وتثير الشبهات. بل مارست القهر والتسلط والقمع من خلال أجهزتها الأمنية المتشعبة لمراقبة وضبط ومنع كل تواصل ولو بالقوة والتخويف.
كانت تلك أولى وأبرز واخطر المهمات المطلوبة من سايكس – بيكو وأنظمته الإقليمية التي راح بعضها يتفنن في ابتكار وسائل للتقطيع ومحاربة التواصل بما يثبت كفاءته الوظيفية فيحصل على ثقة معلميه ويفوز برضاهم فيبقونه في سدة الحكم ..
والحاصل أن تمازج القهر والقمع أدى إلى تكون مستوى معمق من الخوف بل الرعب أدى إلى إحجام الكثيرين حتى عن مجرد التفكير بما هو خارج الحدود أو تجاوز القيود ..ومن كانت له طاقة إيجابية لم يستطع كبتها ، استغرق في الهم المحلي – الوطني وانغمس في التصدي لمشكلاته الكثيرة المعمقة فخسرته حركة التحرر القومي العام وفقد إمكانية الإسناد التي تأتيه منها. الأمر الذي سهل للقوى المعادية المحلية مزيدا من القدرة على الضبط والربط وتعطيل التواصل وإعاقة التفاعل الحر بين الناس. الأمر الذي أضاف إلى متطلبات التحرر والبناء، معركة إضافية ملحة تتمثل في تأمين مسارات للتواصل والتفاعل بغية تمتين الاواصر النضالية وزيادة فعالياتها العملانية. وتلك مهمة إضافية في سجل العمل العربي الراهن لن يقدر عليها إلا من كان وحدويا قوميا متحررا من كل هيمنة أو تبعية أو وصاية ..
– الثاني:
الهوية الواحدة: لم تكن الهوية العربية الواحدة مسألة خلافية حادة أو مشكلة صراعية في أية مرحلة من مراحل التاريخ العربي كما هي راهنا. وفي أسوأ فترات الضعف والانقسام القديمة لم يحصل خلاف على قضية الهوية والانتماء.. قامت ممالك ودويلات وإمارات بعضها حكمها أجانب أو ذوو أصول غير عربية لكنهم تعربوا فكانوا كأبناء الامة ثقافة وقيما دافعوا عنها والتزموا بأمنها وحمايته. كما هو حال المماليك مثلا ثم محمد علي الكبير وابنه إبراهيم. وغيرهم…استوعبتهم الهوية العربية الواحدة المتأصلة العميقة الجذور فصاروا من أبنائها ولم يكن بوسع أي منهم الاحتفاظ بثقافة مغايرة أو هوية مختلفة نظرا لما كانت تتمتع به الهوية العربية من حيوية واصالة وثبات وتسليم الجميع بها وتفاعلهم الحر في إطارها ومشاركتهم في كل أنواع العطاء والعلم والأدب والإبداع بلغتها العربية الراقية المتميزة..
لم يكن أحد يشك في عروبته وكان العكس صحيحا إذ كان الجميع يفتخر بهذه الهوية والانتساب إليها. حيث كانت توفر لهم الأمن والأمان والثقة والمنعة والقوة والجزالة بما يشعرهم بشخصيتهم وأنها مرتبطة فقط بتفوق الهوية العربية ودوام رابطتها ووحدويتها التي تشملهم أيا كانت أصولهم. وهكذا شارك في العلم والأدب والثقافة وحتى في العلوم الدينية كثيرون من أصول خارجية لكنهم تعربوا وانتسبوا إلى هوية الأمة وغرفوا من معين قيمها وحضارتها وثقافتها.
أما اليوم فقد بلغت الأخطار حدا متقدما جعل الهوية موضع خلاف وتناحر ورفض وتخل وتنصل..
بلغ التراجع حدا يكاد يجعل من الهوية العربية نقيصة أو مذلة أو ما يدعو إلى الشماتة أو الاستهتار.. فهذه ذروة عدوان أعداء الأمة عليها. وحينما يتنكر إنسان لهويته ، فإنه يضع ذاته على طريق العدم أو على درب الاستكانة والتسليم وبالتالي العطالة الكاملة عن الفعل والحركة إن لم يصبح قوة مضافة إلى معرقلات التقدم ومعوقات التحرر والانتصار إذ ينضم إلى قوة أعداء الأرض والوطن والشعب…يصبح قيمة سلبية يخرج من كل حساب لقوة العمل الإيجابي والبناء المستقبلي المأمول..
فكان هذا حال من يطالب بهوية انفصالية مناقضة للهوية العربية الجامعة ؛ أو من يتنكر لهويته العربية مستخفا بها أو متعاليا عليها. من هنا نشأت ما يسمونها مشكلة الأقليات الراهنة والتي لا يخفى على أحد محق تأثير التدخل الأجنبي في تكوينها ورعايتها وتدعيمها بكل أسباب القوة..
كان تدخل القوى الأجنبية الاستعمارية السبب في تأسيس كيان مصطنع اغتصب فلسطين ليقيم عليها دولة معادية بالتمام والكمال للهوية العربية ومعها الوجود العربي ذاته.
ثم يضيفون إلى هذا الكيان المصطنع كيانات أخرى مصطنعة أيضا تتكامل معه وتقويه وتبرر له عدوانه واغتصابه للأرض العربية. جميعهم يعادون الهوية العربية ويحاربونها بكل شراسة وحقد..
وعلى قاعدة رفض الهوية العربية ها هي عدة مجتمعات عربية تتعرض للتفتيت والتقسيم واصطناع هويات وضيعة معادية وتجسيدها في كيانات تقسيمية هزيلة لا تقوم وتستمر بغير الحماية الأجنبية المستمرة..
اليس هذا ما يصنعونه في العراق وسورية وليبيا واليمن ولبنان والسودان وغيرها ؟؟
فلا يكتفون بتقسيم البلد الواحد إلى ممالك وأمارات هزيلة بل ينزعون عنها جميعا الهوية العربية لتكون إحدى أذرعهم المستقبلية لإبقاء الأمة جميعا تحت سيطرتهم مسلوبة الإرادة غير قادرة على التحرر والنهوض والتقدم لمئة سنة أخرى ربما..
وتلك أخطار متعاظمة تهدد ليس الهوية وحدها بل الوجود بأجمعه. فمن ذا الذي يستجيب للتحديات فيبدأ رحلة التصدي لها غير العروبيين القوميين أصحاب المشروع التوحيدي الجامع ؟؟
– الثالث:
العولمة الرأسمالية: فيما سبق كانت بنية الإنسان العربي الثقافية والفكرية والنفسية تتشكل مما هو سائد حوله في بيئته ومجتمعه ومستقر في كينونته ووجدانه وضميره من قيم وهوية وثقافة واحدة.. كان لا يزال عقل الإنسان العربي – وإلى عهد قريب – سليما من الشوائب والنزعات الغريبة المعادية أو المتنكرة. كان لا يزال عربيا بكل ما يعيقه من جهل أو قصور؛ وما يحيط به من فقر وتخلف وظروف بائسة مضعفة…
كان عربيا بكل أبعاد العروبة. كانت القيم العربية الأخلاقية تشكل أساس بنيانه وعاموده الفقري .تجعل الناس على اختلاف ميولهم وأديانهم وطوائفهم ومذاهبهم وأصولهم ؛ يشكلون كتلة اجتماعية واحدة متماسكة متضامنة ..
لم تكن تائهة مترددة خائفة وكان  الإنسان الفرد فيها يستقوي بالجماعة التي تشبهه وتحيطه من كل جانب..
كان هذا أحد مصادر قوتها وأسباب صمودها على مر الأزمنة المتقلبة. فكان تمردها المتواصل ؛  وكانت ثوراتها المتكررة طلبا للحرية والاستقلال وسط أجواء نضالية تضامنية واضحة متميزة..
ومع بروز وسيطرة ظاهرة العولمة الرأسمالية بأدواتها وتقنياتها الذكية بل العبقرية ؛ صار الإنسان العربي خاضعا لمؤثرات ثقافية وعقلية وأخلاقية بأسلوب حديث جذاب وخبيث في الوقت ذاته. وبعد أن فقدت الأمة قياداتها الوحدوية التاريخية وإطاراتها النضالية ؛ واستفرد الإقليميون والشعوبيون والخانعون بالمقدرات العامة وغاب عن دنيا العرب مشروعهم التحرري الجامع ورؤيته النهضوية  المستقبلية  ؛ وبرزت دعوات التقسيم والتفتيت والعصبيات من كل نوع ؛ فقد الإنسان العربي أهم مصدرين لتشبعه بثقافته العربية ووعيه ثم التزامه بهويته العربية ؛ كما باحتفاظه بقيمه الأخلاقية المتماسكة المصونة .. فقد المصدرين الرئيسيين معا وفي وقت متقارب مما جعله يتأثر بمفاهيم وقيم العولمة فيتخلى عن بعض قيمه أو كثير منها ؛ ثم تهتز ثقته بهويته العربية نتيجة افتقاده الوعي بها ومصادر معرفتها والتفاعل معها..
فقد كلا من :
١ – تجانس الكتلة المجتمعية المستقرة المتماسكة حوله بعد صعود دعوات العصبيات التمزيقية خصوصا تلك التي تتستر بالدين والطوائف والمذاهب ..
٢ – المشروع التحرري العربي الذي كان يشكل فضاء ثقافيا وفكريا مشبعا بمقومات تشكيل الوعي وامتلاك المعرفة والتمسك بالهوية. كان انخراط الناس بالعمل العام والاهتمام بالشأن السياسي والمستقبلي والمصيري؛ شبه تام. وكان المشروع يمتلك رؤية واضحة وكثيرا من وسائل صناعة الوعي وتعميم المعرفة..
وبفقدان هذين المصدرين بدأت ضعضعة الوعي ثم الالتزام بالهوية وبالقيم معا..
تعتمد العولمة أولا على تفكيك المجتمعات ليصبح الإنسان الفرد ضعيفا أمام سطوتها ، تسهل السيطرة عليه وتوجيهه حيثما تريد ..
ثم على تفكيك الإنسان الفرد ذاته إلى أجزاء مبعثرة تائهة تتفوق فيها وعليها نزعات المادية الغرائزية ومعايير النفعية الاستهلاكية ؛ فتجعل الإنسان فريسة لقدراتها التقنية على التحكم به والسيطرة على سلوكياته وتحديد احتياجاته التي تصبح مادية استهلاكية ذاتية المعيار متخلية عن القيم الأخلاقية – وإن بحكم ضغط الوقائع إن لم يكن بفعل القناعة -..
وقد استطاعت العولمة اختراق النفوس والعقول والتأثير فيها سلبا ؛ بفعل ما صنعته وتملكته من تقنيات إعلامية مذهلة – سمعية وبصرية – شديدة التأثير على الإنسان المعاصر ولا سيما في غياب ما يقابلها أو من يدحضها..
– الرابع :
غياب القاعدة المساندة..
في كل المراحل التاريخية السابقة ، قديمة أو حديثة ، كانت تتوفر قاعدة وطنية – عربية غير خاضعة للنفوذ الأجنبي وتحتفظ بقدرات ذاتية وإرادة وطنية مستقلة توظفها للدفاع عن الوجود العربي وتدعم بها الوطنيين في غير بلد عربي ومن هم خارج نطاقها الجغرافي – السياسي..
أما راهنا فلا وجود لأية قاعدة من هذا النوع حيث يستغرق كل بلد بمشكلاته الخاصة المحلية فيمتنع عن مساعدة أي طرف وطني في بلد آخر. فأصبح الوطنيون المستقلون أيتاما مشردين لا يسلمون من القمع والملاحقات والحصار. الأمر الذي ساهم في زيادة الهوة بين السلاطين والهموم الوطنية – العربية..
فوق هذا يستنكف الجهاز الرسمي عن تبني أية رؤية وطنية مستقلة بما يفاقم الأمور سوءً. ولما كان النظام العربي الإقليمي – بتبعيته وإرتهاناته وتسلطه – هو المسؤول المباشر الاول عن حال التردي الراهن فقد أصبح خارج حساب القوة العربية بل أصبح عبئا عليها مضافا إلى قوة الخصوم والأعداء. الأمر الذي يبقي الوطنيين المستقلين في حالة صعبة غير محسودة أبدا يعانون ما يعانون دون سند من أية قاعدة عربية تتوفر لها رؤية واضحة ومشروع مستقل..
وبالمقارنة مع عقدي الخمسينات والستينات من القرن العشرين، فقد وفرت مصر بقيادة جمال عبد الناصر قاعدة نضالية آزرت ذاتها أولا ثم كل حركة تحررية وطنية عربية وأفريقية بل وعالمية. فكانت ملاذا لكل وطني أو قومي يبحث عن خلاص أمته ونهضتها ووحدتها وتقدمها.
بعدها شكل العراق تلك القاعدة الوطنية التي يستقوي بها المناضلون العرب في مواجهة ما استجد من عدوان ومشاريع شعوبية حاقدة أضيفت إلى ما كان قائما من مشاريع عدوانية ..ولا يزالون يفتكون بجسد الأمة وعقلها وروحها والمقاومون لا سند لهم ولا حماية..
وهذا ما يزيد الوضع تفاقما وضعفا وتراجعا..
– الخامس :
السلبية..
تضافرت جميع العوامل الآنفة الذكر فتسببت بانفضاض أعداد متزايدة من ابناء العرب عن المشاركة الإيجابية الفاعلة في الحياة السياسية العامة…فلم تلبث أعداد المنصرفين عن الشأن العام تتزايد إلى أن اندلعت أحداث ” الربيع العربي ” لتنخرط جموع شعبية غفيرة في المطالبة بتغيير الأوضاع السيئة واسترداد الحريات المسلوبة والكرامة المسكوبة. لكن أسبابا كثيرة أدت إلى منعها من تحقيق تغييرات أساسية؛ فكان التدخل الأجنبي وإختراقاته الكثيرة وإجرام الطغاة والمستبدين في مواجهة الشعوب المنتفضة وغياب الإطارات التنظيمية القيادية من أهم تلك الأسباب وكانت النتيجة انكفاء قطاعات واسعة عن الاهتمام بالشأن العام مجددا. فقد تطورت صناعة الرعب على أيدي طغاة ” الرسمية ” العربية وقوى الاحتلال الأجنبي لتسفر عن سقوط مئات الآلاف من الشهداء والضحايا والمعاقين والمنكوبين في غير بلد عربي..
كل هذا أدى ويؤدي إلى إحجام أعداد كبيرة من الناس عن الانتفاض ضد الواقع مجددا. لا سيما وأن الأحزاب التي يفترض بها أن تكون أداة تثوير وتحريض للناس على المشاركة والتصدي لمهمات تغيير الواقع؛ كانت ومنذ عقود في حالة من التراجع والجمود والابتعاد عن الوجدان الشعبي والضمير الوطني، إلا القليل.. أما الانتفاضات الشعبية فلم تبلور قيادات تنظيمية محددة الأهداف والبرامج لكي تقود حركتها وتحميها من أخطار التسلل والإحباط والتحريف. وعلى الرغم من أن الجماهير الشعبية قد كسرت حواجز الخوف والقهر التي تمارسها السلطات الإقليمية وقدمت من الأثمان ما يفوق أية مقدرة على التحمل؛ إلا أن استمرار صمودها في ميادين التمرد والنضال والثورة يحتاج إلى حماية أكيدة تتمثل في الادوات التنظيمية الجامعة وبرامج العمل المرحلية المنبثقة من رؤية وطنية عامة ومشروع تحرري نهضوي مستقبلي؛ وهو ما لم يتبلور حتى اليوم رغم المحاولات الكثيرة. وما لم يتبلور مثل هذا المشروع وأدواته فإن أعدادا إضافية من الناس مهددة بالعودة إلى سلبية الانكفاء والانتظار..

– النموذج  الوحدوي :
في مقابل كل هذه العوامل المعرقلة للتوجه الوحدوي التوحيدي أو المعادية له العاملة على دحره وتيئيس الناس منه بادعاء عدم صلاحيته للحياة وعدم قدرته على البقاء أو حل مشكلات الحياة العربية ؛ كيف كان النموذج الوحدوي – الذي صعد مع زعامة جمال عبدالناصر الشعبية القومية –  وماذا قدمت القيادات الوحدوية للأمة والشعب من عطاءات أو إنجازات توحيدية تقدمية :
١ – يكفي أن النموذج الوحدوي كان تعبيرا عن وحدة الوجدان الشعبي العربي حول مجمل القضايا القومية حتى الوطنية. فهو بحق تجسيد لشخصية الأمة ومقتضيات نهضتها وتقدمها..
٢ – الوعي العام كان في مرحلة متقدمة من الصدق والوفاء والالتزام.. وأهمه وعي الهوية والذات القومية. وعلى أساسه انطلقت المشاركة الشعبية الفاعلة في كل ميدان ومجال. وكان النموذج الوحدوي هو الذي يضخ ذلك الوعي في معظم مقوماته وأوجهه..
٣ – المشاركة الشعبية كانت على أوسع نطاق عرفته الأمة في تاريخها الحديث.. فكانت هذه المشاركة هي الطريق الأنجح لفتح قنوات التواصل والحوار والتفاعل كأبرز خطوات الجدل الاجتماعي الذي يفتح آفاق التقدم والتطور. ولعل هذه المشاركة الواسعة المتحررة من القيود كانت أحد أسباب ذلك الالتفاف الشعبي المنقطع النظير حول قيادة جمال عبدالناصر ؛ وتلك العلاقة السحرية بينه وبين الجماهير الشعبية العربية..
٤ – الانصهار الوطني : لما كان النموذج الوحدوي ملتزما مستقبل الأمة لكل أبنائها فقد عزز كل ما يعمق الانصهار الوطني والالتحام الشعبي بين كافة المكونات على تعددها. فعلي سبيل المثال لا الحصر كانت الوحدة الوطنية الشعبية في مصر بين أبنائها المسيحيين والمسلمين في أوجها.. وفي زمنه اقر الأزهر تدريس المذاهب الإسلامية كافة في كلياته وكات مصر قبلة الطلاب العرب من كل الانتماءات والميول.. شهادة البطل جول جمال السوري المسيحي فداء لمصر العربية تكفي للدلالة البالغة على عمق الانصهار الشعبي في النموذج الوحدوي. حيث المصير العربي الواحد سلوك وعمل والتزام..
وكانت ولا تزال أغنية المطرب السوري الدرزي فهد بلان : ” وحدة ما يغلبها غلاب ” تعبيرا صادقا عنه فلا تزال حتى اليوم أنشودة كل الوحدويين الأحرار..
وكان كثير من الشباب السوريين العلويين يدرسون في كليات ألأزهر إبان دولة الوحدة ، ممنوحين مبتعثين على نفقة الدولة المصرية..
لأن النموذج الوحدوي هو التعبير الصادق الملتزم بنهضة الأمة فقد كان ذا رؤية وطنية ومشروع عربي نهضوي تحرري ؛ فجسد وحدة الشعب سلوكا وممارسة ؛ على عكس من خالفه فكان فئويا مذهبيا عرقيا انقساميا فجر الأوطان ودمر العمران أو أدخلها عالم التهميش والضعف والهوان….
٥ – المكاسب الشعبية : وكانت ذروتها في مصر ..كما تعممت إلى أغلب البلدان العربية بتأثير وهج التجربة الناصرية وعمق التفاعل الشعبي معها..
يكفي مقارنة موضوعية بما كان للجماهير الشعبية من مكتسبات وحقوق آنذاك بما هي عليه اليوم لا سيما في البلدان التي شهدت بروز النموذج الوحدوي..
٦ – سيادة القيم الأخلاقية : النموذج الوحدوي أكد التزامه بها وتعزيز دورها وفعاليتها الاجتماعية…فهي جزء من شخصية الأمة الحضارية وتكوينها التاريخي. ولما كان هو ملتزما هوية الأمة معبرا عن شخصيتها فقد جسد قيمها الأخلاقية في تعامله وسلوكه..
وإذا كان ما نشهده اليوم من تراجع الالتزام بتلك القيم فإن العولمة الرأسمالية المتوحشة هي السبب الأساسي في ذلك. وإن كان غياب النموذج الوحدوي قد أفقدها سندا ودعما وحماية فضعفت أمام ضغوط العولمة…
٧ – العزة والكرامة:
فقد كانت معنويات الإنسان العربي في مستويات متقدمة وكان اعتزازه بأمته وحضارتها وتاريخها يضاهي تصميمه على تغيير واقعها وبناء نهضتها وتحررها وتقدمها…وهو ما لم يستمر لأسباب متنوعة أبرزها وفي مقدمتها غياب القيادة التاريخية للنموذج الوحدوي. وهي معنويات وثقة لن تعود إلا في إطار مشروع وحدوي رابط جامع موحد.
الإتحاد قوة وثقة وأمل.. والفرقة ضعف وهزيمة نفسية قبل أن تكون هزيمة مادية..
٨ – التقدمية:
وبقدر ما كان النموذج الوحدوي يعمل لبناء المستقبل الأفضل وتقدم الامة جميعا؛ كان كل من عاداه أو عاكسه يعمل لعودة الأمة إلى الوراء حيث الضعف والتبعية والهوان، مهما تحدث عن المستقبل.. فكان الأول تقدميا والآخر رجعيا أيا كانت شعاراته وأفكاره الدينية أو الاجتماعية..
فمن ليس وحدويا ليس تقدميا ولا يمكن أن يكون ..بل لا يستطيع وإن أراد مهما إدعى ..
– ” إن التقدم العربي لا يمكن بناؤه على التجزئة ” ..
قال جمال عبدالناصر وأكدت التجارب والوقائع والميادين..
تبين هذه المقارنات الفارق النوعي بين النموذج الوحدوي وبين ما تلاه من نماذج طائفية او مذهبية أو فئوية أو إقليمية قاصرة ؛ من تلك التي تعيش الأمة تحت وطأتها إلى اليوم. مقارنة موضوعية حقانية تجعل النموذج الوحدوي هو المشروع المستقبلي للأمة كلها القادر على إنقاذها وتحريرها وتقدمها مجددا على طريق العزة والكرامة. آخذا في الاعتبار كل المتغيرات والمستجدات والإفادة العقلانية الموضوعية من تجارب الماضي وأخطائها ونواقصها ودروسها …
وتلك مهمات لن تكتمل إلا بوحدة الوحدويين الأحرار وتقدمهم الصفوف ومرابع المسؤولية.
فهل يفعلون فيتقدمون وينجزون؟؟

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى