تحولات المشهد المصري – السوداني

أماني الطويل

أهمية الاتفاق العسكري بين القاهرة والخرطوم تعود إلى طبيعة المجريات التي شهدها القرن الأفريقي وموقف إثيوبيا في سد النهضة.

يشكل الاتفاق العسكري الذي وقّع بالخرطوم بين الجيشين المصري والسوداني متغيراً مهماً، ليس في العلاقات الثنائية بين البلدين فقط، لكن ستكون له تداعياته الإقليمية على مستوى القرن الأفريقي ومنظومة حوض النيل، وذلك في ضوء اتجاهات القاهرة المستحدثة إزاء الخرطوم في هذه المرحلة، التي تستند إلى الأهمية الاستراتيجية لسلامة السودان والاستقرار السياسي كأحد محددات الأمن القومي المصري، إلى جانب المحددات التقليدية، وهي الأمن المائي.

ويبدو أن أسباب الأهمية الكبيرة لهذا الاتفاق العسكري تنطلق من أمرين، الأول طبيعة التحولات التي شهدها القرن الأفريقي أخيراً، وأصبحت ضاغطة على السودان، ومهددة لسلامة ترابه الوطني، والثانية طبيعة الموقف الإثيوبي في ملف سد النهضة.

وبطبيعة الحال، ستكون لهذا الاتفاق انعكاسات إيجابية على المعادلة السياسية السودانية من زاويتي تطبيق اتفاق جوبا للسلام، ودعم المؤسسة العسكرية السودانية الرسمية على مستوى القدرات العسكرية واللوجستية، وفتح الباب أمام تطهيرها من الولاءات الأيديولوجية التي نهشت صدقيتها المؤسسية خلال العقود الثلاثة الماضية، حين خاصمت قاعدة الولاء للوطن، وكان بديلها الولاءات الأيديولوجية التي دشنها انقلاب الجبهة القومية الإسلامية بزعامة الترابي عام 1989.

أسباب الاتفاق العسكري

شهد القرن الأفريقي تحولات مهمة خلال العامين الماضيين، بناء على رغبة في صعود إقليمي إثيوبي، مستنداً إلى النجاح في استكمال سد النهضة، على حساب المصالح المصرية والسودانية، وعدم الالتفات إلى طبيعة الأضرار التي يمكن أن تلحق بالبلدين.

كما اعتمدت أديس أبابا على تحالفات سياسية مع كل من إريتريا والصومال، تضمن لها وزناً إضافياً في منطقة القرن الأفريقي، فضلاً عن إقدام رئيس الوزراء الإثيوبي على القيام بمصالحات داخلية إثيوبية، وكلها تحركات في المجمل أسهمت في تسويق شخص آبي أحمد بوصفه سياسياً يجنح إلى السلام وإنجاز المصالحات الداخلية والخارجية، وذلك إلى حد حصوله على جائزة نوبل للسلام.

لكن، في هذا السياق يمكن القول إن هناك مؤشرات تقول إن آبي أحمد “قد يكون” وقع في عدد من الأخطاء الاستراتيجية خلال 2020، وذلك في المحيطين الداخلي والإقليمي، كشفت إلى حدّ ما عن عدم إلمامه بتعقيدات بلاده الداخلية ومدى حساسيتها، كما أسهمت في تصعيد مؤشرات التوتر على المستوى الإقليمي بمنطقتي حوض النيل والقرن الأفريقي، وأيضاً أسهمت في تخفيض وزن إثيوبيا لدى الإدارة الأميركية الجديدة، وجعلتها في ما يبدو غير مرشحة أميركياً للعب أدوار مهمة في المرحلة المقبلة لا في القرن الأفريقي، ولا في منظومة حوض النيل.

جنوب السودان وإثيوبيا

أما على المستوى الداخلي، فقد كوّن آبي أحمد حزب الازدهار، وفكك به عملياً بنية النظام السياسي الإثيوبي الذي أنجز تعايشاً داخلياً سلمياً معقولاً على مدى عقدين ونيف، وتوّج تفتيت التعايش بحربه على إقليم “تيغراي”.

وفي ما يتعلق بالمستوى الإقليمي، أنتجت الحرب على الإقليم مشهداً جديداً في القرن الأفريقي، حيث برز تحالف عسكري بين إثيوبيا وإريتريا أصبح مهدداً للسودان في المرحلة الحالية، على نحو غير مسبوق، كما أن تحالف آبي أحمد مع عبد الله فرماجو الرئيس المنتهية ولايته في الصومال، شجّع الأخير على الاستمرار في الحكم من دون مظلة دستورية، الأمر الذي أسهم في تسارع التوتر الداخلي الصومالي والتهديد بحرب أهلية، لا ترحب بها أيضاً الإدارة الأميركية في ضوء تداعياتها على أمن البحر الأحمر.

في هذا السياق، فإن إقدام جنوب السودان على خطوة توقيع تفاهمات عسكرية مع إثيوبيا، كان بمثابة ضوء أحمر للقاهرة والخرطوم في ضوء أزمة سد النهضة، التي لا تبارح مكانها بسبب الموقف الإثيوبي.

وقد لعب تصاعد التهديدات الأمنية في إقليم الساحل الأفريقي دوراً إضافياً لعقد الاتفاق العسكري بين القاهرة والخرطوم، خصوصاً مع اتجاه الأوضاع في تشاد نحو نوع من السيولة السياسية على خلفية الرفض الشعبي للتجديد للرئيس أدريس ديبي، وهو ما استدعى زيارة مدير الاستخبارات المصرية إلى تشاد أخيراً.

إن إجمالي المشهد، طبقاً للتفاعلات الإقليمية، مفتوح على تصاعد مستوى التهديدات الأمنية في دول وادي النيل الثلاث، وهو الأمر الذي استلزم من القاهرة تحركاً يتوج مسارات سابقة من التفاعل الإيجابي مع الخرطوم، خصوصاً على مستوى المؤسستين العسكريتين، ومنها اتفاقات تأمين الحدود الثنائية والثلاثية مع تشاد، وكذلك المناورات العسكرية بين الجيشين المصري والسوداني في منطقة مروي، فضلاً عن المساهمة العسكرية السودانية في قاعدة محمد نجيب العسكرية، وذلك بمشاركة دول الخليج.

تداعيات الاتفاق

على المستوى الإقليمي، يبدو أننا أمام مشهد استقطابي بامتياز يرفع مستوى التوتر بين دولتي السودان، بسبب إقدام الجنوب على عقد تفاهمات عسكرية مع إثيوبيا في وقت تسهم فيه الأخيرة في الإضرار بالخرطوم بمستويات جسيمة تهدد 20 مليون سوداني، وذلك بسبب سد النهضة.

وفي سياق مواز، فإن التحالف بين إثيوبيا وإريتريا يبدو قابلاً للتفكك في هذه المرحلة، خصوصاً مع التوجهات السلبية من جانب الإدارة الأميركية الجديدة إزاء كل من أديس أبابا وأسمرة على خلفية الحرب على إقليم “تيغراي”، وطبيعة الانتهاكات ضد الإنسانية التي بدأت وسائل الإعلام العالمية في إبرازها، وطبقاً لإجمالي هذه المعطيات فإن المنطقة قد تكون مرشحة لحرب إقليمية متعددة الأطراف.

أما على المستوى الداخلي السوداني، فإن لهذا الاتفاق تأثيرين مباشرين، الأول دعم الجيش السوداني على المستوى اللوجيستي، في وقت تتوافر لهذا الجيش إمكانية تنويع مصادر سلاحه، خصوصاً في ضوء التكالب الروسي- الصيني- الأميركي على السودان في هذه المرحلة.

كما يمكن القول إن الجيش المصري سيعمل على دعم العقيدة التقليدية التاريخية للجيش السوداني، التي كانت منزوعة الولاءات الأيديولوجية، وهو الأمر الذي سيسهم في عمليات إصلاح واسعة داخل الجيش السوداني، ويعزز من وزنه الداخلي إزاء بقية المكونات العسكرية التي تورطت في حروب مرتزقة بالإقليم غير لائقة بالسودان، ولا بتاريخه السياسي والعسكري.

وطبقاً لما طرحه رئيس أركان الجيش المصري في السودان، فإن دعم القاهرة للخرطوم لن يكون في السياق العسكري فقط، لكن سيكون له منظوره التنموي في مجالات متعددة، منها تطوير الصناعات الدوائية السودانية، وذلك على سبيل المثال لا الحصر، ولعل هذا الدعم التنموي المصري يستطيع موازنة التكالب العالمي على السودان بسبب موارده، بينما لا تبدو أمام القادمين الجدد خطط تطوير القدرات السودانية كما تهتم مصر.

ومن المهم الإشارة هنا إلى أن الصمغ العربي استُثنى من العقوبات الأميركية على السودان بعد فترة قليلة جداً من إقرارها، بسبب تحرك الشركات الأميركية لدى إدارة كلينتون التي قالت إن منع استيراد الصمغ يعني توقف صناعة الكوكاكولا الأميركية، فضلاً عن الذهب الذي هو مورد أساسي للدول المصنعة للذهب مثل دولة الإمارات التي تعد السودان مصدرها الأفريقي الثالث للحصول على الذهب بعد السنغال والنيجر.

روسيا وإسرائيل

روسيا لم تتأخر كثيراً، حيث تعاقدت شركة “روس غيولوغيا” الروسية للمسح الجيولوجي مع السودان للتنقيب عن النفط في القطاع 15 بالبحر الأحمر، لكن ربما الخطوة الأهم من جانب الشركة الروسية هي التعاقد في يوليو (تموز) 2018 مع وزارة المعادن السودانية لوضع خريطة للموارد المعدنية للبلاد.

كما أن فرص الاستثمار الزراعي هي ما تثير اهتمام إسرائيل حالياً، بعد التوقيع على اتفاق السلام الإبراهيمي، فهو القطاع الذي حاز إشارة من جانب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في خطاب احتفائه بالاتفاقية مع السودان.

وهذا الموقف الإسرائيلي لا ينفي اهتمامها بالاستثمار في القطاع العسكري أولاً، لأنه قد يكون هو المدخل الأكثر تأثيراً والبوابة الصحيحة لكل القطاعات الأخرى، وهو سلوك إسرائيلي معروف في كل أنحاء القارة الأفريقية، وربما هو ما يفسّر الزيارة التي أجراها رئيس الاستخبارات الإسرائيلي أخيراً إلى السودان ومكوثه هناك أياماً عدة.

المعادلة السياسية السودانية

وفي ما يخص المعادلة السياسية السودانية، فسوف تبرز مخاوف لدى المكون المدني من المعادلة من أن زيادة وزن المؤسسة العسكرية السودانية بدعم مصري سوف ينعكس على قدرة الجيش في السيطرة على الحكم، وعلى الرغم من أنني أراه خياراً ممكناً في ضوء سيولة المكون المدني السوداني وتشرذمه النسبي، فإنني أعتقد أن هناك عدداً من الكوابح أمام هذا السيناريو، الأول هو الخبرة المصرية التي جرى اكتسابها في ليبيا، التي لم تستطع أن تفرض خليفة حفتر صانعاً للاستقرار الليبي، ومن ثم جرى التفاعل الإيجابي من جانب القوى الصلبة المصرية مع المتغيرات الليبية إلى حد التفاعل مع قوى غرب ليبيا على رغم وجود مكون الإخوان المسلمين هناك.

وهذه الخبرة عبّر عنها وزير الخارجية المصري، في مؤتمره الصحافي مع نظيرته السودانية مريم الصادق، بالقول إن القاهرة حريصة على سلامة الفترة الانتقالية في الخرطوم، وهو ما يعني تأكيد مسار مصر في دعم خيارات الشعب السوداني، وهو المسار الذي بدأ مع ثورة السودان في 2019، ويتأكد مع زيادة خبرة النخب السياسية المصرية الرسمية في أن التنوع السوداني لا يمكن إدارته إلا عبر تحول ديمقراطي يمثله، حتى يمكن ضمان استقرار سياسي سوداني، مطلوب وجوده حالياً كأحد متطلبات المصالح المصرية.

وفي تقديرنا، أن ثمة كوابح أمام المكون العسكري السوداني في إنتاج حكم عسكري بالسودان، سواء بإنهاء الفترة الانتقالية عنوة، أو بهندسة انتخابات ما بعد الانتقالية لصالحه، منها قانون الانتقال الديمقراطي الذي جرى إقراره في الكونغرس مع نهاية 2020، ويقضي بضرورة إنهاء سيطرة الجيش السوداني والأجهزة الأمنية على مفاصل الاقتصاد، مع قيام الرئيس الأميركي وإدارته بالمتابعة اعتباراً من مارس (آذار) الجاري.

 

المصدر: اندبندنت عربية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى