بعد توقف لأكثر من عام عادت اجتماعات أستانة “سيئة الصيت” للإنعقاد وعلى أجندتها ملفات لتثبيت وجود عملية سياسية لمعالجة القضية السورية، بدءً من اللجنة الدستورية التي لم تحرز تقدماً في خمس اجتماعات عقدت في جنيف، وصولاً إلى وقف إطلاق النار الهش في آخر منطقة سيطرة للفصائل العسكرية المعارضة في محافظة إدلب.
وكانت جولات أستانة قد انطلقت بهدف تثبيت وقف إطلاق النار بعد خسارة قوى الثورة للأرض، إثر هجوم من عصابات الأسد والقوى الداعمة له، دون تحقيق أي مكسب للنازحين السوريين الذين بدأت تزدحم بهم المساحات المحررة التي تقلصت من حوالي 70% إلى أقل من 20% من مساحة الوطن، مع تعثر باقي الملفات وأهمها ملف المعتقلين، وفي ظل ضغط عسكري من قبل عصابات الأسد والقوى الإيرانية والروسية الداعمة له، التي استمرت في قضم مناطق سيطرة القوى المعارضة.
وإن كانت أولى النتائج “غير المصرح عنها” من هذه الجولة، قد برزت من خلال نقل القمح الموجود في صوامع الشركراك بريف مدينة تل أبيض في ريف الرقة، ضمن مناطق “نبع السلام” بدعوى توزيع القمح بما يخدم السلام والإزدهار. من دون الحصول على وقف دائم لإطلاق النار، ولا على سقف زمني لعمل اللجنة الدستورية، ولا حتى الاكتراث بملف مئات آلاف المعتقلين في سجون العصابة الحاكمة، وأي حلول لأكثر من مليون نازح من أرياف إدلب وحلب.
وتأتي الجولة الجديدة على وقع إنسداد في العملية السياسية التي ترعاها الأمم المتحدة من خلال اللجنة الدستورية. وإن كانت القوى الإقليمية الراعية لهذا المسار لكل منها أجندته، بدءاً من محاولة المحافظة على “الهدنة العسكري فيما تبقى من محافظة إدلب”، إلى محاولة إعادة فتح مسار عودة اللاجئين إلى “حضن الوطن” وتسويق عملية إعادة الإعمار، وصولاً إلى محاولة تشكيل موقف مشترك ضد الغارات على مواقع المليشيات التابعة لإيران. ومع بروز إحتمالية زيادة الدعم للقوى الكردية الإنفصالية لتثبيت حكم ذاتي لها بحجة محاربة «داعش»، على عكس «التأرجح» الذي كان سائداً في الإدارة الأميركية السابقة. وبشكل عام فإن مسار “أستانة”، منذ الجولة الأولى كان يفترض أن يدرج ضمن إطار التفاهمات السياسية الخاصة بالملف السوري، إلا أن “الضامنون” له أصبغوه بـ”النفس العسكري”، فالبنود التي يتم الاتفاق عليها عقب ختام كل جولة ترسم شكل الخريطة العسكرية لسورية على الأرض.
فالعملية السياسية الحقيقية لحل القضية السورية وفقاً للقرار 2254 بدأت من خلال اللجنة الدستورية، لكن عدم وجود توافق دولي ساهم في تثبيت خيبة الأمل، في ظل استمرار عصابات الأسد والقوى الدولية المساندة له في فرض عدم وجود برنامج زمني وأجندة واضحة ومراقبة دقيقة لعمل اللجنة الدستورية، وبالتالي منع فتح «السلال» الأخرى لتنفيذ القرار 2254 مثل «الانتقال – الحكم»، الانتخابات، الإرهاب، البيئة المحايدة. مما أدى إلى فشلها في تقديم أي جديد من شأنه تغيير واقع حال السوريين.
وإن من السذاجة القول بأن الروس أدركوا متأخرين بأن المضي في مسار اللجنة الدستورية كما يجب أن يكون، سيؤدي إلى تفكيك عصابات الأسد وتكوين نظام جديد قد يودي بإمتيازاتهم التي حصلوا عليها. وباعتقادنا فإن الجانب الروسي كان ومازال يعمل على كسب الوقت لتثبيت سيطرته على الموارد الأساسية في سورية إضافة لتقويض السيطرة العسكرية للمعارضة، ومحاولة الإلتفاف على الإجماع الدولي، واختراق المعارضة السياسية (منصة موسكو، منصة القاهرة). في المقابل لم تتضح، إلى الآن، أي سياسة أميركية متسقة بشأن سورية، باستثناء مواصلة الحرب على بقايا داعش، علماً بأن الإدارة الحالية لا تعتبر سورية أولوية في الوقت الحالي، مما يعني اقتصارها على تعطيل أي محاولات روسية لتطبيع وضع عصابات الأسد أو فك العزلة الدولية عنها.
في ظل هذا الإحباط للحاضنة الشعبية للثورة من متصدري المعارضة السياسية والعسكرية، تعود فكرة تشكيل «مجلس عسكري انتقالي»، وإن كان بعض الضباط المنشقين قد رحب بطرح الفكرة من جديد باعتبارها خلاصاً لحالة الفصائلية وأمراء الحرب، كما انضم إليهم مظلوم عبدي قائد ما يسمى بقوات الــPYD، وغير بعيد عن هؤلاء ظهر إهتمام سعودي وقطري بانتظار بلورة هذا المقترح في أوساط الضباط المنشقين من جهة، ورد الفعل الأميركي والأوربي حوله، من جهة الأخرى. ويأتي كل هذا استناداً إلى كون المشكلة في سورية سياسية، وتحتاج لحل بقيادة سياسية تدعمها مجالس عسكرية وقضائية واقتصادية وأخرى للعدالة الانتقالية.
وبغض النظر عن هذا الجدال الذي يعبر عن تشبث الغريق بالقشة، متناسين بأن تطبيق مثل هذا الخيار يحتاج إلى إرادة دولية بالحل، وهذا ما نفتقده حتى اللحظة، وهو وإن كان موجوداً في وقت ما، فإننا في هذه الفترة بعيدين جداً عنه، وإن كنا لا نشكك في دور المجلس العسكري في عملية الانتقال السياسي وحمايتها حتى إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية، ولكن تبقى عقد أساسية تتمثل في الإرادة الدولية التي هي مربط الفرس هنا بعد إفتقاد السوريين لأي دور في رسم مستقبلهم.
المسؤولية حالياً تقع على عاتق قوى الثورة في السعي لتشكيل كتلة سياسية وازنة على المستوى الوطني وتوحيد الجهود لتحقيق الاستقلال والتخلص من التبعية كبداية للعمل السياسي، ولنرتقي لمستوى التضحيات التي قدمها شعبنا. فالثورة لم تمت ومازالت جذوتها مشتعلة ويجب إعادة روح الثورة إلى السوريين للتخلص من الإحباط واليأس، مستندين إلى أنه لا يمكن للقوى المتصارعة على موارد وطننا أن تستطيع تمرير أي حل دون موافقتنا، وبالتالي علينا أن لا نقبل بأي إذعان أو تفريط، كي لا تبقى القضية السورية أسيرة التجاذبات الدولية بلا آفاق بسبب غياب الإرادة السياسية الدولية لإنهاء تلك المأساه واجراء تغييـر سياسي يؤدي إلى بناء سورية الديمقراطية الجديدة كدولة مواطنة لكل السوريين.
المصدر: اشراق