ما زالت ارتدادات هزيمة “ناغورني قره باغ” تعصف بالداخل الأرميني. انقسامات حزبية وسياسية وعسكرية حول تحديد المسؤول عن الانكسار والثمن الواجب عليها دفعه. المواجهة اليوم هي بين رئيس الوزراء نيكول باشينيان وقيادات القوات المسلحة المدعومة من قبل بعض أحزاب المعارضة. بيانات وتصريحات تصعيدية تتطاير من كل صوب وصلت إلى حد الاتهام بالتآمر والخيانة.
من يحرك الرماد في يريفان؟
في مطلع تشرين الأول المنصرم وأثناء احتدام المعارك على جبهات إقليم “قره باغ” كان تساؤلنا في هذه الزاوية حول “ماذا لو انتقلت الحرب إلى داخل أرمينيا؟” أشرنا إلى لغة التصعيد والحرب والاحتمالات المفتوحة على أكثر من سيناريو والتي تهيمن على الجبهات العسكرية والسياسية بين باكو ويريفان. الإشارة كانت إلى حقيقة أن العمليات العسكرية تدور داخل الأراضي الأذرية المحتلة من قبل الجيش الأرمني منذ 3 عقود. لكن الهدف الأذربيجاني التركي قد يكون نقل العمليات إلى داخل أرمينيا نفسها. ما الذي ستفعله وتقوله عندها العديد من العواصم التي تتابع هذا الملف عن قرب وتستغله منذ سنوات كأوراق ضغط وابتزاز لحماية مصالحها في جنوب القوقاز؟
باشينيان يحذر قبل أيام من انقلاب عسكري يقود إلى حرب أهلية في أرمينيا. باكو لا تحلم حتى بخدمة من هذا النوع تقدمها لها يريفان. باشينيان يتحول بين ليلة وضحاها من رمز وبطل ثورة شعبية إلى متواطىء ومتخاذل دفع البلاد نحو الهزيمة وتكريس ذلك رسميا أمام طاولة روسية تركية.
هو سيدافع عن نفسه حتما ويقول لنا من الذي يشاركه الهزيمة. فنحن لا نعرف تماما لمن يعود قرار الدخول في الحرب وإشعال جبهات قره باغ في الجانب الأرميني. ومن سيتحمل مسؤولية الخيانة بقبول توقيع اتفاقية وقف القتال والتفاوض على الانسحاب من مناطق جديدة في الإقليم؟ قد يقول لنا أكثر من ذلك إذا ما شعر أنه سيتحمل بمفرده نتائج الهزيمة ويحدثنا عن المرتزقة والتمويل والدعم الذي انهال على يريفان لمواجهة القوات الأذربيجانية والدعم اللوجستي التركي. باشينيان اختبر الشارع والسجن والطرد والتهميش لكنه لم يتعرف إلى الخيانة والعمالة والتواطؤ. خروجه من المأزق يفرض عليه الهروب إلى الأمام تحت شعار علي وعلى أعدائي.
الخوف من التنسيق بين أنقرة وباكو ونجاح تركيا في حماية مصالحها ونفوذها في جنوب القوقاز والتقارب التركي الألماني في مشاريع نقل الغاز وتحول تركيا إلى لاعب أساسي في خطط التجارة الصينية وخط الحرير التي سيكون للقوقاز الموقع والدور المهم فيها. هو الذي أغضب البعض ودفعه لتفجير الملف الأرميني على هذا النحو. الهدف قد يكون محاولة استرداد نفوذه في “مجموعة مينسك” التي تجمع باريس وواشنطن وموسكو بعدما تراجع دور هذه المنصة لصالح التفاهمات التركية الروسية الأذربيجانية في تشرين الثاني المنصرم. لا بل الهدف هو إشعال الداخل الأرميني لإسقاط كل التفاهمات التي تمت بمشاركة تركية واسعة مما تحول إلى اختراق وتموضع تركي استراتيجي في جنوب القوقاز. صاحب فكرة إشعال الداخل الأرميني هو ماكرون المنزعج من النقلات التركية التي تطارده في كل مكان والضوء الأخضر هو أميركي من قبل إدارة بايدن الجديدة وأداة التنفيذ هي باشينيان الذي يرفع منذ العام 2008 شعار “من الشارع وإلى الشارع أعود” وهو أسلوب قديم لجأ اليه قبل عشر سنوات لكنه قد يخيب آماله بعدما كان يعول دائما على الوصول إلى ما يريده والإعلان أن “كل شيء سينتهي سلميا والوضع تحت السيطرة”.
موسكو التي وعدت أنقرة وباكو بإنهاء حالة اللا حرب واللا سلم في قره باغ ونجحت في جلب باشينيان إلى طاولة الهدنة وفتح الطريق أمام تسوية النزاع في الإقليم، هي اليوم أمام أكثر من امتحان وأكثر من سؤال: ما هو دورها في كل ما يجري؟ وهل ستحاول استبدال الطاولة من روسية تركية إلى روسية أميركية في جنوب القوقاز؟ هل تنسف مشروع خط الحرير الاستراتيجي الصيني في المنطقة على حساب صفقات تعقدها مع بايدن الذي قد يعوض عليها خسائرها في مكان آخر؟ هل تغيرت خارطة التفاهمات الروسية التركية الآذرية إلى مساومات روسية أميركية برعاية فرنسية ليعطي بايدن الرئيس ماكرون ما يريده في مواجهة النفوذ الإقليمي التركي؟
روسيا هي اللاعب الأول والمستفيد الأكبر من كل التطورات العسكرية والميدانية والسياسية على جبهات جنوب القوقاز والنزاع الأذري الأرميني. وهي التي فرضت نفسها لاحقا على التفاهمات التي تمت برعايتها في موسكو. حاصرت باشينيان من كل صوب وقيدت مساحة تحركه وقطعت أوصاله بالغرب وألزمت باكو بخيار الهدنة وحل ما تبقى من أزمات بإشرافها وضمانتها. لعبت ورقة يريفان ضد تركيا حتى النهاية ولم تسهل لها الجلوس أمام طاولة ثلاثية مع القيادة الأرمينية كي لا تستثمر أنقرة ذلك في مكان آخر. وحرمت شركاء لجنة مينسك واشنطن وباريس من أي دور لأن تسارع الأحداث والتقلبات العسكرية والسياسية والميدانية خرجت عن المسار القديم. هل تذهب موسكو وراء سيناريو جديد هذه المرة ينفتح على الإدارة الأميركية الجديدة أم ستمضي وراء تعهداتها المتبادلة مع أنقرة وتحدي بايدن في ملفات إقليمية استراتيجية تشمل القوقاز والبلقان وآسيا الوسطى والبحر الأسود؟ التفاهمات التركية الروسية الأخيرة حول الممر البرّي الذي يصل الأناضول بأذربيجان وآسيا الوسطى عبر إقليم نهشفان خدمة روسية لا تقدر بثمن تقدمها لأنقرة وما تقوله وتفعله تركيا رغم كل الضغوطات الأميركية يعكس حقيقة استمرار التحالف وأن لا مفاجات روسية في جنوب القوقاز. احتمال دخول موسكو في مساومة مع باريس وواشنطن، تراجع لصالح التنسيق التركي الروسي الأوسع في ملفي سوريا وليبيا وجورجيا وأوكرانيا والبوسنة. المنصة السداسية في جنوب القوقاز وهو اقتراح تركي استراتيجي يجمع روسيا وتركيا وإيران وأذربيجان وجورجيا وأرمينيا بين ما يقلق واشنطن ويدفعها للرد على الانجازات الروسية التركية عبر تفجير الأوضاع في يريفان.
هزم باشينيان في حرب قره باغ قبل 4 أشهر والقوات التركية لم تقرع أبواب فيينا مجددا كما كان يزعم وهو يحذر الغرب من التوسع التركي الإقليمي. “نرفض أي انقلاب عسكري على السلطة السياسية التي اختارها الشعب” سخرية القدر أن أردوغان هو من يدعم باشينيان اليوم ويدافع عن حقوقه في مواجهة العسكر. على الرئيس التركي ألا يفاجأ إذا ما اتصل بوتين يبلغه برغبة باشينيان زيارة أنقرة.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا