هكذا بدأ تأسيس الاستبداد والفساد وصراع المحاور على سورية
يوثق الانقلابات العسكرية الأولى في سورية والوطن العربي والمنطقة.
النخب المدنية ليست بريئة من تأسيس الاستبداد
تكرم الزميل الكبير فؤاد مطر وأهداني مجموعة من مؤلفاته القيمة، فبدأت أولاً بقراءة أحدثها، كتابه (عسكر سورية.. وأحزابها) الصادر في ت1/ اكتوبر 2019 الماضي عن (الدار العربية للعلوم. ناشرون) بالتعاون مع (دار الناشر العربي الدولي / غلوبال).
الكتاب ممتع لأنه مكتوب بلغة صحافية سلسة وصافية، لا تعقيد ولا ركاكة فيها، تميز دائما أسلوب المؤلف الكاتب المتمرس الأستاذ فؤاد مطر.
والكتاب توثيقي، يعتمد على مصادر لا يرقى الشك الى نزاهتها، بما فيها وثائق الدولة اللبنانية، وأرشيف الرئيس بشارة الخوري، ومذكرات خالد العظم رئيس الوزراء في عهد الرئيس شكري القوتلي بعد الاستقلال مباشرة، ويباركها الزميل رياض نجيب الريس ، نجل الصحافي السوري نجيب الريس ناشر صحيفة القبس ، وأحد رواد الصحافة السورية في عصرها الذهبي . وهو بذلك كتاب يضم مادة علمية لا محيد للمؤرخين عنها، فضلا عن الباحثين الذين سيتناولون تاريخ سورية في بواكير الاستقلال.
وهي كما نعلم مرحلة ذات أهمية فائقة جدا ، لأنها أسست للأسف نهجا سيعمر طويلا ، وتركت آثارها على ما تلاها من أنظمة ومراحل متعاقبة مستمرة لليوم ، وربما تستمر لمراحل قادمة ، إن لم تنجح ثورة 2011 الشعبية المتواصلة في اجتثاث واجتزاز جذور وبذور هيمنة العسكر الشاملة على سورية ، ووضع حد لهيمنتها على منظوماتها ومؤسساتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تضخمت وتورمت بمرور الزمن ، وبسبب وحشية حافظ الأسد وعائلته وجنرالات طائفته ، فأوصلتها الى أن تكون نموذجا صارخا ل ( الدولة المتوحشة ) كما سماها ميشيل سورا .
يوثق الكتاب أول انقلاب عسكري في تاريخ سورية والوطن العربي، دبره ونفذه الزعيم حسني الزعيم في 30/ 3/ 1949. ولكن الانقلاب سقط بعد 127 يوما بانقلاب مضاد قاده اللواء سامي الحناوي يوم 14 آب/ اغسطس 1949، بدأ بإعدام الزعيم ورئيس وزرائه محسن البرازي، ولكنه لم يستمر سوى 128 يوما، وانتهى يوم 20 ك 1 / ديسمبر من العام ذاته بانقلاب ثالث، دبره ونفذه العقيد أديب الشيشكلي.
هذه الانقلابات الثلاثة دشنت عصر الاستبداد العسكري، وداست على براعم التجربة الديمقراطية، وساقت سورية والمنطقة الى عهود متتالية من الاضطرابات، والصراعات الدموية بين النخب المدنية والنخب العسكرية للسيطرة على الحكم والسلطة. إذ بعدها بقليل وقع انقلاب 23 يوليو 1952 في مصر (الذي تحول ثورة تقدمية شعبية)، ثم انقلابات العراق (الثورية) 1958، و1963 و 1968، وانقلاب اليمن 1962، وانقلابات السودان 1964 و1969، و1989، وانقلاب الجزائر 1965، وانقلاب ليبيا الثوري أيضا 1969، وكادت أن تمتد الى لبنان بالمحاولة الانقلابية الفاشلة التي خطط لها انطون سعادة زعيم الحزب القومي السوري، وانتهت بإعدامه، بعد أن سلمه عسكر سورية. ثم امتدت الانقلابات الى إيران وتركيا واليونان وقبرص.
لقد أصبحت الانقلابات السورية (غواية) متأصلة حسب تعبير فؤاد مطر، تغوي وتغري كثيرين من الضباط المغامرين والطامحين للسلطة في دول ليس فيها كوابح دستورية، أو نخب سياسية قوية.
يوثق الكتاب أيضا لانقسام الدول العربية بشكل مبكر لمحورين متصارعين، محور مصري – سعودي، ومحور هاشمي أردني – عراقي يسعى لإقامة الهلال الخصيب، وكان الاثنان يتنافسان على جذب سورية ولبنان لكل منهما.
كما يوثق لبدايات الفساد المالي في مؤسسات السلطة، وخاصة الجيش. ويبدو أن انقلاب حسني الزعيم جاء خوفا من محاسبته على فضيحة فساده المالية التي كشفها الرئيسان القوتلي والعظم في مشتريات مواد الغذاء والاسلحة. وعندما انقلب الحناوي على الزعيم كانت تهمته الرئيسية فساده المالي، وتوزيع المناصب على أقربائه وأصدقائه. ويشير الكتاب الى ضلوع الدول الأجنبية والاقليمية أحيانا في تدبير الانقلابات العسكرية، أحيانا لأغراض نفعية وفساد مالي، وأحيانا لولاءات (حنظلية) كما ينعتها المؤلف.
ومن ناحية أخرى يقدم الكتاب إشارات محدودة (ليتها اتسعت وتعمقت) عن مساوئ وعيوب التجربة الديمقراطية السورية، وحكم النخب المدنية التي جرى ” أسطرتها ” لاحقا، وإحاطتها بهالات من المثالية، حتى باتت لا تذكر إلا مقرونة بالحنين، كرد فعل جاهز على طغيان العهود العسكرية بعد انقلاب البعث 1963، بينما كانت تلك الشخصيات في الواقع أقل من ذلك كثيرا. إذ كشف خالد العظم جانبا مستورا من مناقب الرئيس شكري القوتلي الذي يعد أبا الاستقلال السوري، وأبا الديمقراطية، فهو كما قال صديقه خالد العظم يميل للتسلط أيضا، ويسعى دائما للتخلص من كل وزير أو مسؤول يخالفه الرأي أو ينتقده، ما يعني أن ثقافة الاستبداد والتسلط كانت مشتركة بين النخب كافة المدنية والعسكرية. ولذلك لا بد من مراجعة تاريخنا الحديث والمعاصر، وتأصيل الاستبداد بمنهجية علمية ونظرة أكثر موضوعية وانصافا. ونحن نتفق مع الزميل رياض نجيب الريس في قوله إن تلك المرحلة من تاريخ سورية لم تدرس كما يجب، وبالقدر المطلوب، ولذلك فإنها مهمة ما تزال تتحدى الباحثين، ومسؤولية علمية ملقاة على عاتق السوريين، ولا شك أن الزميل الكبير فؤاد مطر يشجعنا مشكورا على القيام بها، ويبدأ الخطوة الأولى بكتابه المهم الجدير بالمطالعة.
المصدر: الشراع