يناقش مكرم رباح، في مقابلة معه، كتابه الذي صدر حديثًا حول الصراع بين الدروز والموارنة خلال الحرب الأهلية اللبنانية.
مكرم رباح أستاذ محاضر في قسم التاريخ والآثار في الجامعة الأميركية في بيروت، تصبّ اهتماماته البحثية على تاريخ الشرق الأوسط الحديث وتاريخ لبنان الحديث والحرب الأهلية اللبنانية ودور الذاكرة في تحقيق المصالحة. هو مؤلّف كتاب Campus at War: Student Politics at the American University of Beirut 1967-1975 (حرم جامعي في حالة حرب: السياسات الطالبية في الجامعة الأميركية في بيروت 1967-1975) (منشورات نيلسون، 2009)، وصدر له كتاب جديد حول الهويات الجماعية والحرب الأهلية، يحمل عنوان Conflict on Mount Lebanon: The Druze, the Maronites and Collective Memory (الصراع على الجبل: الدروز والموارنة والذاكرة الجماعية) (منشورات جامعة إدنبرة، 2020). يُشار إلى أن رباح يكتب بشكل منتظم في منشورات إقليمية ودولية عدة حول القضايا السياسية في الشرق الأوسط.
أجرت “ديوان” مقابلة معه في أواخر كانون الثاني/يناير للنقاش حول كتابه الأخير.
مايكل يونغ: نشرت مؤخرًا كتابًا بعنوان “الصراع على الجبل: الدروز والموارنة والذاكرة الجماعية”. ما الذي تتناوله في الكتاب وما الحجة الرئيسة التي تقدّمها؟
مكرم رباح: أُركّز على الصراع، أو بالأحرى على الصراعات بين الموارنة والدروز، هاتين الطائفتين اللتين أسّستا الكيان اللبناني، لذا يمكن اعتبار كتابي مساهمة متواضعة في تاريخ لبنان عمومًا. يُضاف إلى ذلك أنه محاولة لفهم الصراع إنما من منظور جديد كما آمل، هو منظور الذاكرة الجماعية. وأرى أن هذا أمر ضروري من أجل تحقيق المصالحة الوطنية، إذ إنه لا ينطبق فحسب على هاتين الطائفتين اللتين يُفترض أنهما عدوّتان قديمتان، بل يشمل أيضًا سائر الطوائف اللبنانية.
يونغ: إلامَ توصّلتَ في أبحاثك حول الذاكرة الجماعية والتاريخ الشفهي للصراع بين الدروز والموارنة؟
رباح: إن الذاكرة الجماعية والتاريخ الشفهي موضوعان مشوّقان للغاية، خصوصًا عند التعمّق في دراستهما، لأنهما يمنحاننا خارطة طريق جديدة لفهم الحرب التي اندلعت في العام 1975 بين مختلف الفصائل اللبنانية. أظهر بحثي أن المشاركين في الحرب لم يستخدموا فقط الرصاص في معاركهم، بل لجأوا أيضًا إلى السلاح الأخطر على الإطلاق، وهو سلاح الذاكرة الجماعية. لطالما اعتبر الباحثون المتعمّقون في الشؤون اللبنانية أن الطائفية أو التدخّل الأجنبي من الأسباب التي أدّت إلى نشوب الصراع، متجاهلين كيف عمدت مراكز القوة على اختلاف الطيف الطائفي إلى الحفاظ على الذاكرة الجماعية واستخدامها لتعبئة قواعدها الشعبية، بغضّ النظر عن الطائفية أو التدخّل الأجنبي.
من جهة أخرى، تشكّل الذاكرة الجماعية مصدرًا يساعدنا كمؤرّخين وكلبنانيين في آن، على فهم ما الذي دفع جيران عاديين إلى الاقتتال في ما بينهم، لكنه لسوء الحظ غير مُستخدم كما يجب. يُشار إلى أن الدمار لحق بالأرشيف التقليدي، أي بالمصادر المكتوبة الأولية والثانوية، ناهيك عن أنها يسهل التلاعب بها كما أظهرتُ في الكتاب. أما التاريخ الشفهي، فعلى الرغم من كل التحديات التي تواجهه، يشرّع أمامنا عوالم جديدة من الذاكرة.
يونغ: من المثير للاهتمام أنك تركّز على الدروز والموارنة، مع أن هاتين الطائفتين اليوم عبارة عن أقليتين لم يعد تأثيرهما على المشهد السياسي كما كان عليه خلال سنوات الحرب الأهلية وما قبلها. ما أهمية الدور الذي يؤديه الدروز والموارنة في المعترك السياسي اللبناني اليوم، وهل تغيّرت العلاقات بينهما نتيجة التراجع الديموغرافي الذي شهداه؟
رباح: لا تتمحور السياسة في لبنان حول لعبة الأعداد والأقليات كما قد يروّج البعض، بل حول البحث عن الصيغة الأمثل لتقاسم السلطة. بسطت هاتان الطائفتان نفوذهما على هذه الدولة الجبلية الصغيرة لفترة من الزمن، لكنهما لم تتمكنا من الحفاظ عليه ببساطة لفشلهما في بناء دولة أمة حديثة. على المدى الطويل، ثَبُت أن سعيهما إلى السلطة لم يكن مؤاتيًا لهما ولا للبلاد. وفي سياق المشهد السياسي اللبناني الراهن، ستتعلّم الطبقة الحاكمة عاجلًا أم آجلًا هذا الدرس عن مخاطر الغطرسة.
يونغ: باعتبارك تنتمي إلى الطائفة الدرزية، هل ثمة ما فاجأك خلال البحث الذي أجريته حول ميليشيا القوات اللبنانية التي يهيمن عليها الموارنة؟
رباح: بصفتي مؤرخًا عن لبنان، كنتُ مهتمًا في فهم صعود نجم القائد الماروني الشاب بشير الجميل في زمن الحرب والتحوّل الذي قاده داخل حزبه. وفي نهاية المطاف، أدّى قراره بالوصول إلى القمة وتولي رئاسة الجمهورية اللبنانية في العام 1982 إلى قتله، وإلى إضعاف المجتمع العسكري الذي أسّسه. فمن خلال توحيد الميليشيات المسيحية وإرغامها على الاندماج في إطار القوات اللبنانية، ووضع حدّ للتنوّع داخل المشهد السياسي المسيحي، أنشأ بشير كيانًا عجز عن الصمود بعد اغتياله، ومهّد نوعًا ما الطريق أمام صعود ميشال عون الذي كان آنذاك قائدًا للجيش. ويُعتبر مسار الأحداث هذا نقيض النموذج الذي جسّده بشير الجميل ومات من أجله.
ما ينطبق على الموارنة ينسحب أيضًا على الدروز وعلى جهات لبنانية أخرى حاولت توحيد طوائفها تحت شعار تهديد وجودي مُفترض، وبالتالي تحييد الخصوم الداخليين. وقد حاولتُ في كتابي سرد قصة أولئك الذين شُطبوا فعليًا من تاريخ الحرب اللبنانية، سواء فصيل الرئيس اللبناني السابق كميل شمعون أو اليزبكيين الدروز بزعامة الأمير مجيد أرسلان.
يونغ: أين تضع بشير الجميل في مسار تاريخ الموارنة خلال الحرب؟ هل كان بطلًا كما اعتقد الكثير من الموارنة، أم مجرمًا؟ أم تختار له صفة أخرى؟
رباح: على حدّ قول بشير نفسه، كان قديسًا وشيطانًا في آن. فقد كان قائدًا طموحًا أدّى دورًا لفترة، ورغب في فرض نسخته الخاصة للبنان على أنصاره وخصومه على السواء. توفي بشير في ريعان شبابه مناهزًا الـ34 عامًا، لذا من غير العادل ربما إصدار حكم بعيد المدى في حقّه، لكنه كان جزءًا من هذا التاريخ، الأشبه بالتراجيديا اليونانية، الذي ما زال اللبنانيون عالقين في دوّامته.
يونغ: تحدّثتَ بإسهاب عن كمال ووليد جنبلاط وحساباتهما في زمن الحرب. كيف تُقارن بين الشخصيتين ودورهما كزعيمين أساسيين للطائفة الدرزية؟
رباح: يختلف الاثنان من حيث نشأتهما، إذ كان كمال جنبلاط فيلسوفًا حالمًا يطمح ببناء لبنان الحديث قبل أن تذكّره المؤسسة السياسية المارونية، التي لم تكن منفتحة على التغيير، بجذوره الإقطاعية. في المقابل، يمكن وصف وليد بأنه كان ولا يزال شخصية أكثر براغماتية، على حدّ قوله. وهو ورث بعد اغتيال والده زعامة درزية أضعف، إلا أنه تمكّن من الفوز بالمواجهة العسكرية، لكن على حساب تهجير المسيحيين من مناطق عاليه والشوف لمدة عقد من الزمن بعد العام 1983، والتخلّي عن جزء من إرادته السياسية لصالح الرئيس السوري آنذاك حافظ الأسد الذي قدّم له دعمًا كبيرًا.
المصدر: مركز كارنيغي للشرق الأوسط