في ظلّ وصول العملية السياسية لحلّ الصراع السوري إلى طريق شبه مسدود، مع الفشل الذي يخيم على مسار اللجنة الدستورية، وبروز الخلافات داخل “هيئة التفاوض” المعارضة، التي انبثق عنها وفد المعارضة إلى اللجنة، تدور أسئلة حول مآل هذه العملية التي تجري وسط انقسام في صفوف المعارضة. كذلك تدور التساؤلات حول شكل الحلول المرضية لأطراف الصراع، ومستقبل هذا الصراع وأفقه، لا سيما مع عودة طرح فكرة تشكيل “مجلس عسكري” لقيادة البلاد. هذه النقاط، وغيرها، يطرحها “العربي الجديد” على قدري جميل، أمين مجلس حزب “الإرادة الشعبية”، ورئيس “منصة موسكو” (إحدى “منصات” المعارضة السورية)، التي تربطها علاقة جيدة مع روسيا.
حول ماهية “منصة موسكو” ومكوناتها حالياً، وما إذا كانت تبدلت رؤيتها وأهدافها وطريقة طرحها للحلّ السوري، منذ بروز هذا المصطلح، يلفت جميل إلى أن “المنصة تضم عدداً من الأحزاب والحركات والتيارات الموجودة في مختلف المناطق السورية، والتي تضم مناضلين سياسيين موجودين في مواقع المعارضة منذ عقود”. ويوضح أن “من بين مكونات المنصة، حزب الإرادة الشعبية ومجلس العشائر العربية والتيار الثالث لأجل سورية وتيار طريق التغيير السلمي، بالإضافة إلى الحزب الديمقراطي الاجتماعي وتجمع سورية الأم، وغيرها من التشكيلات”. ويضيف: “رؤيتنا كقوى مكونة للمنصة، حتى قبل تشكيلها، وحتى ما قبل عام 2011، هي أنّ التغيير الجذري الشامل في كل النواحي هو ضرورة وجودية لسورية. وبعد 2011، رفضنا شعارات الأطراف المتشددة من الجهتين بالحسم والإسقاط، لأننا كنا نعرف أنّه لن يتحقق أي من الشعارين، وما سيجرى هو تدمير للبلاد والعباد”. ويتابع جميل: “دعونا إلى الحوار والحل السياسي منذ اللحظة الأولى، ولحماية الحركة الشعبية من التدخلات الخارجية، ومن القمع الأمني والعنف، ورفضنا التسلح والطائفية. مواقفنا هذه كانت ولا تزال ثابتة”.
ابتعاد عن الـ2254
وحول الموضوع الأهم الذي يدور الحديث عنه في الوقت الراهن، من أن منصتي موسكو والقاهرة قدّمتا مقترحاً للروس لتشكيل مجلس عسكري يقود البلاد خلال فترة انتقالية، يُذّكر جميل بأنه نفى الأمر باسم “منصة موسكو” ككل، وليس باسمه الشخصي فقط، وكذلك فعل الأستاذ خالد المحاميد في لقاء تلفزيوني أخيراً. ويلفت إلى أن “المسألة هي أن السيّد جمال سليمان (منصة القاهرة) تقدم بأفكار شفهية شخصية خلافاً لما جرى ترويجه”. ويتابع: “بالنسبة لنا، قناعتنا هي أنّ الفقاعة الإعلامية حول مجلس عسكري لها هدف واحد هو حرف الأنظار عن (قرار مجلس الأمن الدولي) 2254”. ويعتبر جميل في هذا السياق أن “تراكم التعطيل ضمن اللجنة الدستورية وضع الجميع أمام استحقاق الخطوة التالية، والتي ينبغي أن تكون منطقياً من ضمن قاموس الـ2254، ولذا فإنّ إلقاء فكرة مجلس عسكري لقيادة المرحلة الانتقالية هو كما نقول في دمشق (فت برّات الصحن)، الغرض منه قطع الطريق على السير قدماً في الحلّ السياسي، في وقتٍ تلوح فيه إمكانية جدية لحدوث ذلك”، بحسب رأيه. ويرى جميل أنه “في حال كان المجلس العسكري جزءاً من جسم الحكم الانتقالي الذي هو جسم سياسي بالضرورة، والذي ينص عليه القرار 2254، فهذا أمر مقبول، وربما ضروري. لكن ما يجرى طرحه هو أمر آخر تماماً، هو مجلس عسكري يقود البلاد، أي أنه طرح من خارج 2254 بالكامل”.
ويستفيض رئيس “منصة موسكو” في شرحه أسباب رفض الطرح، قائلاً “توجهنا بالسؤال لبعض ممن يطرحون هذه الفكرة حول كيفية تطبيقها ومن سيطبقها، فإما لم يقدموا جواباً، أو أنهم قالوا إن ذلك يمكن أن يتم عبر انقلاب عسكري، أو بتدخل عسكري خارجي. بكلام آخر، فإنّ هذا الطرح هو تكرار لشعارات الحسم والإسقاط”، معتبراً أن “من يطرحونه يخدمون النظام، سواء عن وعي أو دونه، بتقديم صورة هي أن المعارضة انقلابية ومعادية للتوافق وللحل السياسي، ما يسهل الهروب من العملية السياسية. بهذه الطريقة يخلصون النظام من الحرج والضغط المتعلق باللجنة الدستورية وبالعملية السياسية ككل”.
وعن خلاف “منصة موسكو” مع مكونات “هيئة التفاوض”، بسبب استبعاد ممثلها (مهند دليقان) إلى الهيئة ووفد الدستورية، خصوصاً مع إرسال المنصة ومكونات أخرى رسالة إلى المبعوث الأممي غير بيدرسن، قبيل انطلاق الجولة الأخيرة من أعمال اللجنة الدستورية، والاتهامات التي طاولت المنصة بعرقلة مسار اللجنة، يرد جميل لك بالقول: “الخلاف هو بين ثلاثة مكونات من الهيئة، نحن وهيئة التنسيق ومنصة القاهرة، ومكون رابع هو الائتلاف”. أما بالنسبة للاتهام بالعرقلة، فيؤكد أنها “المرة الأولى التي نسمع به. وبكل الأحوال، فإنّ اتهامات من هذا النوع، إنْ وجدت، فهي تأتي من أطراف ضمن المعارضة أو النظام، كانت ضد تشكيل اللجنة الدستورية من الأساس في الوقت الذي كنا ندفع فيه نحو تشكيلها، والأطراف نفسها سبق أن رفضت بيان جنيف والقرار 2254، ورفضت لسنوات طويلة الحوار والحل السياسي، واعتبرته خيانة”. ويضيف: “هذه الأطراف نفسها هي من تهيمن اليوم على مفاصل العملية السياسية، بما فيها اللجنة الدستورية، وهدفها منع الوصول إلى الحل السياسي لأنها معادية له بالأساس ولا تزال تحلم إما بالحسم العسكري أو بالإسقاط، وتتعامل مع العملية السياسية بطريقة منافقة”. ومن الملفت للانتباه، بالنسبة إلى جميل، “ألا يجرى اعتبار تصريحات بعض الأطراف المعارضة المشاركة في اللجنة والتي قامت باستبعادنا، حول موت العملية السياسية وانعدام جدوى اللجنة الدستورية، تعطيلاً للجنة، فيما يجرى اعتبار احتجاجنا على استبعادنا من اللجنة تعطيلاً لها”.
وعما إذا كان لا يزال يعتقد أن مسار اللجنة الدستورية سيفضي إلى حل، أو يكون جزءاً منه، يقول جميل: “لم نقل في يوم من الأيام إن مسار اللجنة الدستورية سيفضي إلى الحل. ما قلناه ونعيده هو أنّ اللجنة هي مجرد مفتاح للحل، والحل هو بالتطبيق الكامل للقرار 2254 بكل بنوده. لا ينبغي تضخيم أهمية اللجنة ولا التقليل منها. اللجنة جاءت إنقاذاً للعملية السياسية التي بقيت متوقفة قرابة ثلاث سنوات، واستطاعت للمرة الأولى أن تجمع على طاولة واحدة ممثلين عن النظام وعن المعارضة. وبات واضحاً الآن، كما سبق أن أكدنا أيضاً، أنّها لن تتمكن من إنجاز مهمتها دون السير بالتوازي في بقية مفردات القرار 2254 وضمناً (الحكم ذو المصداقية الشامل للجميع وغير الطائفي)”.
وعن الحلّ الذي يناسب “المنصة” لمشكلة استبعاد ممثلها عن هيئة التفاوض ووفد اللجنة الدستورية، يقول “ينبغي التذكير أنّ استبعاد ممثلنا مهند دليقان جرى بطريقة غير شرعية ومخالفة للنظام الداخلي لهيئة التفاوض. وبكل الأحوال، فاستبعاده جرى على أساس رأي سياسي قدّمه باسم منصة موسكو ككل، وذلك الرأي هو المطالبة بنقل أعمال اللجنة الدستورية إلى دمشق مع توفير الضمانات الأممية اللازمة لأعضائها”. وحول هذا الاقتراح، يشدد جميل أن المنصة “لا تزال مصرة عليه وعلى كونه صحيحاً وضرورياً لإنهاء كل مسرحيات التعطيل، ولتحويل عمل اللجنة إلى عمل يومي مستمر وصولاً إلى إنتاج الدستور الجديد خلال أقصر فترة ممكنة. كما أنّ وجود المعارضة في قلب دمشق يعني نقل البلاد إلى مرحلة جديدة سياسياً، لا يمكن أن تكون فيها العملية السياسية لعبة سياسية في جنيف كما يريد ويعبر البعض من الطرفين”. وباختصار، فإنه “بالنسبة للحل، فهو واضح، المخطئ عليه أن يتراجع عن خطئه”، على حدّ قوله.
مسار أستانة
وبحكم قرب المنصة وهو شخصياً من روسيا، استوضحنا ما إذا كان لدى الإدارة الروسية وجهة نظر معينة للحل طبقاً للظروف الحالية، سواء تم إطلاعه عليه، أو قرأها من خلال لقاءاته مع أعضاء منصته بهم، يشير جميل إلى “وجهة النظر التي نسمعها من الروس في الإعلام وفي الاجتماعات المغلقة هي ذاتها: 2254 كاملاً. أما تقديم رسمات تفصيلية للتطبيق حول سورية المستقبل، فهذه من العادات السيئة للدول الغربية التي لم تتخلّص بعد من عقليتها الاستعمارية”. ويضيف: “الروس لا يقدّمون وصفات جاهزة، ولكن يطلبون من مختلف الأطراف السورية أن تصل إلى توافق في ما بينها ويضغطون بالنصيحة وعبر علاقاتهم متعددة الجوانب، لجمع الأطراف السورية ولدفعها نحو التوافق”.
وبرز أخيراً التوجه الروسي لاستئناف لقاءات مسار أستانة بعد فشل الجولة الأخيرة من اللجنة الدستورية، وتم تحديد جولة جديدة من المسار (16 و17 فبراير الحالي)، مع اعتقاد بأن الروس، وبالمشاركة مع إيران وتركيا، يرغبون في إهمال مسار الدستورية، والعودة إلى أستانة بعد عام من توقفه. وعن رأيه في ما إذا كان يؤيد هذا الاعتقاد، يوضح جميل أن “هذا الاعتقاد لا أساس له من الصحة؛ فاللجنة الدستورية هي من إنتاج مسار أستانة نفسه الذي نظّم بشكل مشترك مؤتمر سوتشي الذي جرى فيه إقرار النقاط الـ12، وكذلك إقرار إنشاء اللجنة الدستورية بالتوافق مع القرار 2254”. ويرى رئيس منصة موسكو في هذا الصدد أن “الذين هاجموا اللجنة الدستورية مراراً وتكراراً ودعوا إلى دفن أستانة، هم المجموعة المصغرة بقيادة واشنطن، ولذا فقد كان تشكيل اللجنة من الأساس إنجازاً لأستانة وخسارة للمصغرة”.
وبرأي جميل، فإن “مسار أستانة لم يقدّم نفسه في أي يوم كبديل عن مسار جنيف، بل كداعم له، والدعاية الغربية ضد أستانة مسيسة وتتعلق بالصراع الدولي القائم، وليست تعبيراً عن رأي موضوعي بالمسار. وبكل الأحوال، فإنّ المسارات المختلفة (جنيف، أستانة، سوتشي)، ينبغي أن تصب في نهاية المطاف في التطبيق الكامل للقرار 2254 الذي سيطبق في سورية، وليس في أي مكان آخر”.
وقبل حوالي شهرين، خرج جميل بمؤتمر صحافي أشار خلاله إلى أن البلاد والسوريين، يعيشون أزمة اقتصادية ومعيشية غير مسبوقة، وطرح حلولاً، من بينها إخراج الوجود العسكري المتعدد، لكنه تجنّب الحديث عن الوجود العسكري الروسي. وعن سبب ذلك، يجيب جميل اليوم بأن “ما قلناه في المؤتمر الصحافي، هو أنّه لا حل اقتصادياً للأزمة الاقتصادية القائمة. الحل هو حل سياسي حصراً، وعبر تغيير جذري شامل للبنية التي لم تعد قادرة إلا على خلق المزيد من المشاكل والتعقيدات للناس. الحل السياسي هو وحده ما يسمح برفع أو تجاوز العقوبات الغربية الإجرامية التي لا تصيب سوى عامة السوريين، وما يسمح بإنهاء حالة تقطع أوصال البلاد، وللسوريين بالبدء بعملية تقرير مصيرهم بأنفسهم، ما يعني ضمناً تمكينهم من تغيير البنية المتوحشة للفساد الكبير التي تسيطر على القرار في الداخل السوري”. وبالنسبة للوجود العسكري الأجنبي، يضيف “نحن لم نتجنب ذكر أحد، نحن نطالب بخروج كل القوات الأجنبية من سورية على الإطلاق، الأميركية والروسية والتركية والإيرانية، وأولاً وقبل أي أحد آخر، قوات الاحتلال الصهيوني التي عليها الخروج من الجولان السوري المحتل كجزء من مفاعيل تطبيق القرار 2254 نفسه. نطالب بخروج الجميع، على الرغم من تمييزنا الواضح بين الأدوار المختلفة جذرياً التي تقوم بها القوات الأجنبية في سورية، ولكن تحقيق ذلك الخروج غير ممكن بلا حل سياسي شامل”.
اللامركزية… نموذج جديد
وخلال المؤتمر ذاته، وضع جميل رؤية لشكل الدولة المستقبلية، وشكل الحكم كذلك، معلناً أنهم يميلون للامركزية الإدارية. وعما إذا كانت اللامركزية قابلة للتطبيق في البلاد، في ظلّ وضع اقتصادي غير متوازن بين المحافظات، وما هو شكل اللامركزية التي يتصورونها، يقول جميل لـ”العربي الجديد”: “ما نطرحه يتجاوز الحديث عن لامركزية إدارية، ويتعارض مع طرح البعض للفدرالية. نطرح ضرورة صياغة علاقة جديدة بين المركزية واللامركزية، إذ إنه دون مركز قوي لا توجد دولة، خصوصاً في ظروف تقسيم الأمر الواقع الموجودة حالياً والتي لن تختفي من تلقاء نفسها بمجرد بدء الحل السياسي. ولكن أيضاً، دون قدرٍ من اللامركزية، لا يوجد شعب؛ أي لا توجد مساحة للتعبير عن إرادة الشعب إذا بقيت المركزية بشكلها المطلق القائم حالياً”.
ويشير رئيس منصة موسكو في هذا الصدد إلى أن “سورية بهذا المعنى، تحتاج إلى صياغة نموذج جديد يكون الأساس فيه هو دفع مركز السلطة نحو الشعب أكثر، عبر تمكينه من ممارسة سلطته ورقابته على أجهزة الدولة بشكل مباشر في كل مناطق سورية. وعبر تمكين الناس من اختيار ممثليهم ضمن السلطات الإدارية عبر الانتخاب، مثل انتخاب المحافظ مثلاً”. ويتابع: “لدينا تصورات تفصيلية حول العلاقة بين المركزية واللامركزية، ولكن بالتأكيد ليس لدينا ولا لدى أي جهة سورية تصور كامل، والوصول إلى تصور كامل هو عمل يتطلب بحثاً وحواراً يشمل كل القطاعات السورية ومن كل المناطق، وهذا النوع من الحوار الشامل سيكون الأساس لوضع الخريطة التفصيلية لسورية الجديدة”.
المصدر: العربي الجديد