في إعلان الرئيس الأميركي جو بايدن عن ملامح سياسته الخارجية، لم يأت على ذكر الملف السوري. صبّ تركيزه على العودة إلى السياسة الأميركية التقليدية التي تعتمدها كل الإدارات الأميركية على اختلاف توجهاتها، بينما شذّ عنها سلفه دونالد ترامب. تتركز اهتمامات بايدن في إعادة تعزيز العلاقات الأطلسية، والعودة إلى نظام المؤسسات الدولية أو الاتحادات التحالفية. في ملفات الشرق الأوسط، فإن بايدن يهتم إلى حدّ بعيد بالعودة إلى إحياء الاتفاق النووي الإيراني.
حتى الآن لا وضوح في الرؤية الأميركية حول آلية العودة إلى الاتفاق، وهل سيتم الإطاحة بالإجراءات التي اتخذها ترامب؟ أم أن التفاوض سيعود من النقطة الأولى ولا يقتصر فقط على الملف النووي، بل يشمل الصواريخ البالستية، والنفوذ الإيراني في المنطقة؟ لا جوابا واضحا بهذا الشأن، لوزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن تصريحان يحتملان تأويلات كثيرة.
في التصريح الأول قال الوزير الأميركي ذو الثقافة الفرنكوفونية، إن واشنطن تريد التفاوض مع إيران، بالتنسيق مع حلفائها الذين يجب أن يكونوا شركاء في المفاوضات، قصد بذلك دول الخليج وخصوصاً المملكة العربية السعودية. في التصريح الثاني، قال بلينكن، إنه يجب التفاوض مع إيران في البداية لصوغ الاتفاق النووي مجدداً، وفيما بعد تبدأ المفاوضات حول ملفات المنطقة بالتنسيق مع الحلفاء. اختار الوزير المثقف والقريب من باريس تقارباً في التصريحين، لكن المضمون ينطوي على اختلاف كبير، فلم يحسم إذا ما كانت دول المنطقة ستكون شريكة في المفاوضات من بدايتها، أم أن مشاركتها ستأتي لاحقاً، وهذا يعني ضربة للحلفاء وإخلالاً بكل ما أرساه ترامب.
في التعليق على هذا السياسة لا بد من فتح نقاش سيحوز على اهتمام المراقبين، بطرح فرضية إذا ما كانت سياسة بايدن يجب أن تقيم بأنها سياسة متقاربة مع إيران، أم أنها سياسة معارضة ومناقضة لسياسة ترامب. بمعنى آخر هل سياسة بايدن المختلفة جذرياً عن سياسة ترامب ستؤدي إلى تقارب مع إيران؟ أم أنها تبدو كذلك فقط لأنها مختلفة عن سياسة ترامب. النقاش سيكون شائكاً ومعقداً، وحتى إن التوجهات الأميركية ستكون قابلة للتجاذب والتغيير، لا سيما أنه في الوقت الذي كانت المعلومات تشير إلى بدء التفاوض السري مع طهران سريعاً، وفي ظل قول مسؤولين إيرانيين أمام مسؤولين دوليين بأنهم مرتاحون إلى خيارات بايدن وقراراته، وأنهم ينتظرون منه أفعالاً قد بدأت في الظهور من خلال قراراته حول ملف اليمن، وستستمر بتخفيف حدة العقوبات، كان زعيم الأغلبية الديمقراطية في الكونغرس الأميركي يدلي بتصريحات تصعيدية تجاه إيران وحلفائها في المنطقة ولا سيما حزب الله.
أولاً لا بد أن يكون الفارق شاسعاً بين سياسة بايدن وترامب، الثاني كان يتمتع بعلاقات قوية على الصعيد الشخصي مع قادة دول الخليج، والرئيس التركي ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بينما الأمر مختلف بالنسبة إلى بايدن.
ثانياً السياسة التي يتبعها بايدن، تذكر بالعودة إلى السياسة التقليدية الأميركية، وهي التي اتبعها كل الرؤساء السابقين باستثناء ترامب، من جورج بوش الأب إلى بيل كلينتون وجورج بوش الابن وباراك أوباما. يسعى بايدن إلى سياسة مشابهة لجورج بوش الأب، الذي أبرم أوسع تحالف دولي إلى جانب الولايات المتحدة ودخل في عاصفة الصحراء، اليوم ما يريده بايدن هو تجميع أكبر كم من الحلفاء لمواجهة الصين، ولذلك هو يريد العودة إلى تعزيز العلاقة مع الاتحاد الأوروبي، ويسعى إلى الاتفاق النووي مع إيران وترتيب العلاقة مع روسيا.
انطلاقاً من هذا الخيار الاستراتيجي سيكون الاهتمام الأميركي متركزاً على استمالة إيران والعودة إلى الاتفاق النووي، حتى ترامب كان قد أعلن سابقاً إنه في حال أعيد انتخابه سيبرم اتفاقاً مع إيران. ولكن لا بد من تسجيل وقائع عديدة تمنع إعادة إبرام الاتفاق بشكل مشابه لما أقدمت عليه إدارة أوباما بالنظر إلى تحولات وتطورات عديدة شهدتها المنطقة.
عندما تم توقيع الاتفاق النووي بين الولايات المتحدة وإيران في 2015، لم تكن تركيا صاحبة هذا الدور البارز في منطقة الشرق الأوسط ولم تكن قد عززت أوراقها بعد في سوريا، والعراق، وليبيا، وفي البحر المتوسط وأذربيجان، وباكستان وأفغانستان، كما لم تكن روسيا قد دخلت إلى سوريا، ولم تكن دول خليجية وعربية قد وقعت اتفاقيات تطبيع مع إسرائيل، هذه كلها ستكون موانع أمام الإدارة الأميركية من العودة إلى سياسة سابقة سلّمت إيران دول المنطقة من العراق إلى سوريا واليمن مقابل توقيع أوباما للاتفاق النووي.
ولا بد من تسجيل أن قوة إيران تراجعت منذ 6 سنوات إلى اليوم، من العراق إلى سوريا، وسط استمرار الضربات التي تتعرض لها مواقع الإيرانيين وحلفائهم. إيران اليوم مختلفة عن إيران الأمس، وأصيبت بالكثير من عوامل الضعف. أي مفاوضات لا يمكن لها أن تعيد تلك الوقائع، الظروف تغيرت، وحتى لو أرادت واشنطن تسليم سوريا لإيران، لن تتمكن طهران من ذلك، هناك الوجود الكردي الذي يحظى برعاية أميركية، وهناك الوجود الروسي والتركي، بالإضافة إلى الأهداف الاستراتيجية الإسرائيلية.
لن تتمكن الولايات المتحدة من التضحية بحلفاء استراتيجيين، فلن تكون قادرة على خسارة السعودية والإمارات وتركيا ومصر وإسرائيل. وهناك وقائع أصبحت قائمة في البحر الأبيض المتوسط، وفي العلاقات المصرية العراقية الأردنية، بالإضافة إلى التطورات في العلاقة الإسرائيلية الخليجية.
أول الخطوات الأميركية كانت في وقف دعم العمليات العسكرية السعودية في اليمن، وهناك توجه لرفع تصنيف الحوثيين عن لائحة الإرهاب، ولكن بالنظر إلى الوقائع على الأرض، فاليمن مقسم عملياً، اليمن الجنوبي شبه مستقل، وقد عاد اليمن إلى حقبة التسعين، منطقة جنوبية مستقلة لديها امتيازات برعاية خليجية وتحديداً إماراتية، بينما مناطق أخرى خاضعة للعشائر أو للحوثيين وتنتظر مساعدات إنسانية من أي جهة. أي وقف للحرب والعمليات العسكرية سيؤدي إلى وقف الاستنزاف الإيراني للسعوديين من البوابة اليمنية. والحل سيكون بناء على تفاهم وفقاً لمنطق المقايضة السياسية.
سوريا وحدها التي ستستمر بدفع الثمن، فما قد يتلاءم مع طروحات بايدن، هو بقاء الأسد على رأس النظام، فقد كانت القناعة السابقة غربياً وإسرائيلياً، بأن سوريا قوية بسبب تشعباتها وتدخلاتها في لبنان والأردن والقضية الفلسطينية وغيرها، أما اليوم سوريا لم تعد دولة مركزية، ولا قوة لنظامها، إنما مجموعة دويلات متناحرة تتجاذبها قوى إقليمية ودولية، هذا الواقع يمثل أفضل ما يطلبه الإسرائيلي وما يتلاقى مع طروحات بايدن المتحمس جداً إلى التقسيم والإبقاء على مناطق النفوذ. خاصة أن السياسة الإسرائيلية براغماتية ولا تقوم على أي حسابات تتعلق بشعارات الديمقراطية، وأفضل من يمثل المصلحة الاستراتيجية الإسرائيلية هو بقاء الأسد في السلطة، وهو ما يبقي سوريا مفتتة ومتشظية. وهذا ما يفترض بالمعارضة السورية العمل على خروج من سياقات التنازع اليومي على جنس الملائكة، والذهاب إلى مشروع وطني حقيقي يقوم على فكرة المقاومة، مقاومة هذا التفتيت الذي يقوم به النظام برعاية دولية وإقليمية، وتتجمع عنده مصالح إيرانية وإسرائيلية في الوقت نفسه، على السوريين الاقتناع بأنهم هم أصحاب فكرة المقاومة والممانعة، بدءاً من الثقافة والوعي وصولاً إلى السياسة ومشروعها.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا