مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية في سورية، بات من الواضح أن الحل العسكري ليس في مدى منظور، وأن الحدود الحالية بين المناطق السورية الأربع، والمحمية بتوازناتٍ دوليةٍ وإقليمية، باتت أكثر ثباتاً من أي وقت سابق. هذه الحقيقة ثقيلة على النظام السوري بشكل خاص، لأنه من بين الأطراف السورية الفاعلة هو الطرف الوحيد الخاسر. النظام الذي كان يسيطر من دون منازع، داخليا على الأقل، على كامل الأرض السورية، خرجت اليوم مناطق واسعة عن سيطرته. أما السلطات التي برزت في هذه المناطق فهي رابحة، مهما تكن مساحة سيطرتها، لأنها انطلقت من الصفر، وما تحوزه اليوم من سلطة وأرض يعتبر ربحاً صافياً على حساب النظام.
كان يمكن للحال السوري أن يوصف بطريقة أخرى، لو كانت السلطات المستجدّة على الأرض السورية ذات أفق وطني فعلاً، وتنظر إلى ذاتها على أنها منطلق لوطن سوري. لكن الحقيقة هي أن هذه القوى بعيدة عن المشروع الوطني السوري سياسياً، فهي تُدرج نفسها في إطار محلي، كما في الجنوب، أو في إطار قومي كردي لا يتوافق مع وطنٍ سوري، أو في إطارٍ إسلاميٍّ لا يعترف بوطن سوري أصلاً. كما أنها بعيدةٌ عن المشروع الوطني السوري عسكرياً، ذلك أنها محدودة القوة، وعاجزة عن فرض نفسها على مساحة سورية، وبالتالي فإنها سعيدة بما في يدها، ولا هم لها سوى الحفاظ على الحال الذي هي فيه. أي إنها تتخذ وضعيةً دفاعيةً حيال محاولات النظام التقدّم واستعادة الأرض منها، وليس في أفقها السياسي ولا العسكري سورية بوصفها وطناً لأبنائها.
على هذا الضوء، يكون النظام السوري هو، بين السلطات السورية الحاكمة على الأرض، السلطة الوحيدة التي تسعى جدّياً إلى توحيد سورية، في سعيها إلى استرجاع ما خسرته. غير أن هذا التوحيد الذي يريده النظام لا ينطوي سوى على معنىً سياسي واحد، هو استعباد السوريين، وتمرير حقوقهم عبر موشور الطغمة الحاكمة، بكل ما ينطوي عليه هذا الموشور من تمييز وقيود وانتقاص في الكرامة. هذا فضلاً عن أن النظام يرى إلى وحدة التراب السوري من منظور استمرار سلطة الطغمة الحاكمة. ولذلك فإنه جاهز للتخلي عن هذه الوحدة، إذا ما وجد أن السبيل إليها يهدّد سلطته جدّياً. النتيجة أنه لا يوجد أي طرفٍ سوري فاعل اليوم على الأرض، يمثل وحدة الأرض السورية.
هذا عن الأرض، أو ما يسمى “التراب الوطني”، أما عن الشعب السوري، فإنه مشتت سياسياً بقدر ما هو مشتت جغرافياً، ولا توجد اليوم جهة سياسية سورية يمكن أن تحوز مساندة أو رضى ما يكفي من السوريين، بما يخوّلها التحدّث باسم الشعب السوري. أكثر من ذلك، السؤال الذي يتبادر إلى الذهن: هل توجد اليوم فكرة سياسية تحوز رضى غالبية السوريين؟ وإذا وجدت، هل يوجد لدى رافضيها الاستعداد “الوطني” لقبولها بوصفها خيار الأغلبية؟
في مثل هذا الحال الذي صارت إليه سورية، ألا يحق للسوري، بصرف النظر عما يبدي أو يبطن من ولاءات، أن يتساءل: لماذا يسعى النظام السوري إلى إجراء انتخاباتٍ رئاسية؟ ولماذا يُبدي حرصه على هذا الاحترام الشكلي لاستحقاقات دستورية، في وقتٍ تعيش سورية احتلالاتٍ بالجملة واعتداءاتٍ إسرائيلية متواصلة، وشحّ موارد، ونقص غذاء إلى حدود المجاعة وتفشي أوبئة .. إلخ، أي تعيش سورية ما يستدعي، من الدولة، اتخاذ إجراءاتٍ طارئة، ولو على حساب الدستور، لأن الوجود السوري كله على المحكّ؟ أو لماذا تصرف الدولة التي لا تملك أن تطعم شعبها وتدفئه وتؤمن له الدواء، مبالغ كبيرة على إجراء انتخاباتٍ يشكل زيفها واحدةً من النقاط القليلة جداً التي يجمع عليها الشعب السوري، بكل تياراته ومذاهبه السياسية؟ لا قيمة لهذه الأسئلة من منظور النظام، لأن ما يهمه أن يحافظ على “شرعيةٍ” ولو صورية، وليس يهمه شيء آخر. لا يريد النظام أن يفتح باباً “دستورياً” عليه يصفه باللاشرعية، وهو يرى أن كل ما ألحقه بالشعب السوري لا يضرّ في شرعيته.
الغرض من الشرعية الدستورية التي يسعى إليها النظام من الانتخابات الرئاسية، الفارغة عملياً من أي معنىً للشرعية، هو توجيه رسالةٍ إلى العالم، تقول صحيح إنني لم أعد الوحيد على الأرض السورية، فهناك ثلاث سلطات مستجدّة، ولكنني أولاً الأقوى عسكرياً بين القوى الموجودة، وثانياً الأقوى دولياً بوصفي ممثل الدولة السورية، وثالثاً الأقوى دستورياً، ذلك أن باستطاعتي ترجمة سيطرتي المفروضة بالقوة إلى شرعية دستورية، في حين لا يستطيع الآخرون ذلك.
ليس لهذه الرسالة قيمة في منظورٍ يهتدي بمصالح السوريين وبوحدة الأرض السورية، لكن هذه الرسالة يمكن أن تكتسب قيمةً في منظور دولٍ مؤثرة لا تريد، أو عجزت، لأسبابٍ عديدة، عن حل المعضلة السورية المزمنة، وتريد أن تجد مخرجاً ولو كان شكلياً.
لا يبدو الرفض الأميركي للانتخابات الرئاسية السورية حازماً، ولا يشكل تصريح كيلي كرافت (مندوبة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة) برفض الاعتراف بالانتخابات الرئاسية السورية المزمعة، ما يخشاه النظام أكثر من تصريحات الرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما، وخطوطه الحمر. ولن يكون من تجدّد أنشطة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على نحو مفاجئ، ومدروس فيما يبدو، سوى إقلاق الحكومات الغربية وإحراج الإدارة الأميركية على نحو خاص، ودفعها نحو مزيد من تفضيل نظام قوي ومضمون، بدلاً من الدخول في انتقال سياسي جدّي من طبيعته أن يكون مضطرباً.
الحقيقة التي ينبغي أن يدركها العالم، وأن يراها أهل النظام، أن هذه الطغمة الحاكمة باتت مرفوضةً من السوريين إلى حدٍّ لا يقبل الرجوع. قد لا يأمل السوريون بالخروج، في مدى مرئي، إلى نظام ديمقراطي، أو حتى شبه ديمقراطي، بعد هذه السنوات المريرة، وقد يقبلون التعايش مع نظام آخر لا يختلف كثيراً عن نظام الأسد، ولكنهم، في كل حال، لم يعد في مقدورهم التعايش مع نظام الأسد، لا بانتخاباتٍ رئاسيةٍ ولا بدونها.
المصدر: العربي الجديد