قراءة في رواية: الطلياني

أحمد العربي

شكري المبخوت كاتب تونسي، والرواية الطلياني .حاصلة على جائزة البوكر للرواية العربية عن عام 2015. الرواية تتحدث -عبر شخصياتها- عن تونس في عقد الثمانينات من القرن الماضي، في عهد الرئيس بورقيبة وبداية عهد الرئيس زين العابدين بن علي.

تبدأ الرواية من وفاة الحاج محمود، وعودة ابنه صلاح الدين من سويسرا للمشاركة في جنازته، بوجود الاخ الاصغر عبد الناصر الملقب الطلياني (لشبهه بالايطاليين)، حيث يعتدي الطلياني على الشيخ الدرويش الذي شارك في دفن الحاج محمود وادماه ، خلق بلبلة وفضيحة في المقبرة وتساؤلات عدة، لماذا فعل ذلك ؟!، وكيف خرق العادات وتجاوز الحرمات؟!.
عبد الناصر الطلياني ابن لعائلة عريقة، أبوه  من أصول تركية وأمه من أصول مدينية، واخاه صلاح الدين خبير دولي في الشؤون الاقتصادية مستقر في سويسرا منذ زمن بعيد، عبد الناصر ومنذ طفولته أظهر تميزا عبر خروجه عن صرامة الأهل وهيمنة والدته زينب، في البيت يعيش مع والديه واخواته. الطلياني شبه منهار الان بعد وفاة والده، ومنعزل عن الآخرين، لم يقدم مبررا لتصرفه في المقبرة بحق الشيخ الدرويش، انه يضع نفسه في وضعية الانسان اليائس الذي ينتظر موته في أي وقت.
الرواية تسرد أحداثها على لسان صديق عبد الناصر والمطلع على حياته، عبد الناصر عاش حياة ممتلئة بطفولة منطلقة بين أخوات، وفي حضرة أم صارمة واب له شأنه الاجتماعي، عبد الناصر كبر ودخل الجامعه وكان من الناشطين اليساريين في الجامعة وقيادي فيها أيضا، كان يعيش احساس المناضل وأنه ورفاقه منذرون لأهداف عظيمة تنصر الفقراء وتبني دولة البروليتاريا(العمال)، كان ناشطا مواظبا، وكان له صولات وجولات مع بقية القوى السياسية، سواء من فئات اليسار والقوميين والاسلاميين الصاعدين بقوة في أوساط الطلبة، كان كادرا قياديا وقد منع نفسه من النجاح والتحرك من الجامعة لسنوات ليستمر في دوره النضالي والقيادي في الجامعة، حيث يعيش الطلبة سنوات التحول الفكري والوجداني والعاطفي ايضا، ويعيش عبد الناصر ورفاقه احساس المنقذين للمجتمع والعالم.  والدولة تضع الطلبة دائما تحت منظارها عبر اجهزتها الامنية ومخبريها، لكن الطلبة المتروكين وتفاعلاتهم وعندما يتجاوزون الخطوط الحمر للدولة وسياساتها يستدعون أو يعتقلون حسب الحالة كما تراها السلطة. عبد الناصر المناضل تعرف على “زينة” الطالبة المتميزة والمثقفة والناقدة لكل ادعاءات الثوريين وأفكارهم، هي من الجنوب التونسي من قاع الريف والفقر، لكنها متميزة، كانت قد بنت جدارتها بنفسها، وثقفت نفسها خارج كل الأحزاب والحركات وكانت نقدية تجاه الكل، ابنة الفقر تعيش مع امها، في الجامعة اصطدمت بعبد الناصر وكان بينهم حوارات عدة واختلاف ثم تفاعل وعلاقة ادت لان يتحابا، كان النقاش يطال حياة التونسيين و فقرهم وتخلفهم وبدائل الحياة عندهم، ويطال الدعوات الفكرية والحزبية وتفرعاتها وتنوعها، كانت حياتهم ممتلئة لكنها دون جدوى واقعية، وتحت عين النظام، وبنتيجة مجتمعية صفرية، سيعتقل عبد الناصر وزينة، وسيتعرف بالمعتقل على رجل الامن ابن حيّهم وينصحه بمغادرة السياسة ونشاطاتها لأنها بلا نتيجة، وهو يرفض ويصر على نضاله، ستتطور علاقته بزينة وستصبح مفتوحه وجسدية و تتحول بعد ذلك لزواج، وسيتعرف على صديقتها نجلاء المطلقة بعد زواج فاشل، وتحصل بينهم علاقه مفتوحه وجسدية من خلف زينه، زينه ستصبح حاملا من زوجها عبد الناصر لكنها ترفض زواجها وحملها، ترفض اي رباط قد يزيحها عن طريق العلم ، فهي تطمح ان تحصل على أعلى الدرجات العلمية في مجالها دراسة الفلسفة، ستسقط طفلها بمساعدة نجلاء ودون علم عبد الناصر، وهذا يؤدي بعد ذلك لبداية حصول شرخ في حياتهم الزوجيه وسيكون مقدمة للانفصال والطلاق، وبالاصل لم تكن زينه ترى في عبد الناصر وزواجها منه الا معبرا لهدفها بالتفوق العلمي، فهي مقصّرة في التزاماتها الزوجية، وحتى في مشاركتها بمصاريف الحياة المشتركة، رغم كونها صارت تعمل وتنتج، اماعبد الناصر فقد حصل على الشهادة الجامعية، وحزن ان الجامعة  خسرت مناضلا كما يرى نفسه، وعمل مصححا في صحيفه  وسرعان ماتعرف على رئيس تحريرها عبد الحميد النموذج للمفكر والصحفي الواضع نفسه في خدمة السلطه، ويصبحا مشروع اصدقاء، وستستخدم طاقة عبد الناصر لتلميع صورة رئيس التحرير، يلتقيا كثيرا ويتحادثا، وليكتشف عبد الناصر قلة وعي ونضج رئيس التحرير، وليكتشف مراهقته السياسية، وليعرف ان النظام راسخ، وان الشعب مجرد متلقي، وكل حاكم توجب له الطاعة، وان من يفكر ان يواجه السلطة سيكون ضحيتها، والحل ان تكون من انصارها، وتستثمر طاقتك لتستفيد من اعطياتها المادية والمعنوية، وهذا ما لم يقتنع به عبد الناصر، رغم انه استفاد من علاقته برئيس التحرير واصبح صحفيا ومسؤولا عن الملحق الثقافي في الصحيفة، و استفاد من رجل الامن ابن حيّة في عمله وفي تسجيل زينة في الجامعة، جعلها تعمل في المدينة بدل الريف بعد أن اعلنوا زواجهم، عبد الناصر وزينه ونجلاء سيعيشون حياة منفتحة لها جانب سري لا ضابط له، ولها جانب علني كل يعمل لأهدافه الخاصة، فزينة لم تعد محبوبة عبد الناصر، ونجلاء لم تحبه ايضا، بل تراه شريكا جنسيا عند الحاجة، كفرت بالحب وبالرجال وبالزواج، وعاشت حياتها على هواها، في كل حين تتصرف وفق ما تريد، زينة وعبد الناصر ينفصلان اخيرا بعد إسقاط الطفل، وبعد أن يتأكد عبد الناصر ان زينه لا تفكر الا بنفسها ومستقبلها العلمي فقط، خاصة بعد وفاة والدتها، حيث قالت انا والدة نفسي ولم يعد لأحد عليّ اي التزام ، زينه ستتواصل مع باحث اجنبي التقت به كثيرا و يلتقيان مجددا، ستغادر معه لاوربا ويتزوجان وتعيش حياتها هناك،  أما عبد الناصر سيعيش هزيمة نفسية بعد أن غادرته زينة، وافهمته نجلاء ان علاقتهم عابرة، سيقرر بينه وبين نفسه  فيما تبقى له من حياته ان  يستثمر شبابه ووسامته باصطياد مزيد من الفتيات، لعلاقات جسديه عابره لا تدوم، هو ضائع الآن بين عمل اكتشف نفسه فيه انه مجرد برغي صغير في آلة السلطة عبر دورة الصحافي، خاصة بعد أن قام بن علي انقلابه الأبيض على بورقيبة، ومسارعة رئيس التحرير للتعبير عن ولائه مستفيدا من موهبة عبد الناصر بالتحرير و الاخراج في صحيفتهم الحكوميه، وسيكتشف انه مجرد رجل يبحث عبر علاقاته النسائيه عن مجد عابر، تعويضا عن مجد مناضل اكتشف متأخرا انه كان يناضل في الفراغ، واصبح اعظم اهدافه ان يصل لفتاة جديده يعيش معها متعه التعويضية عن ضياعه، هذا ما فعله مع “ريم” الفتاة التي لم تهتم به بداية، ثم سلمته نفسها لانه وعدها انه سبجعلها بطلة لفلم يصنعه خصيصا لها، لكنه سيفشل معها جسديا في اللحظة الحرجة، لانه سيتذكر وهو معها كيف كان ضحية محاولة تحرش جنسي في طفولته من الشيخ درويش، ويعود بذاكرته الى طفولته، وكيف جاء الشيخ درويش لحييهم كطفل مشرد، وكيف سيتبناه الشيخ الشاذلي والد “جنينه” وكيف سيسكن في منزلهم، وسيعتمد عليه في الجامع والمناسبات الدينيه، وكيف سيتزوج من جنينه جميلة الحي وصديقة صلاح الدين وعبد الناصر والتي تعلم عبد الناصر على يدها الحب والجنس، وكيف تزوجت من النكرة درويش، وان هناك مأساة ما في حياتها، وانها ستصطدم بدرويش بعد وفاة والدها، ويكون الحل بانفصالهم واقعيا دون طلاق.
تنتهي الرواية وعبد الناصر محبط ويائس، فقد عاش احساس فقدانه الرجولة بفقدانه قدرته الجنسيه، وهو غير نادم على ضربه للشيخ درويش ولو قتله كان افضل، عبد الناصر يائس الان وسوداوي ولا يرى امامه اي بصيص امل.

في تحليل الرواية نقول:
الرواية اطلالة على الوضع الاجتماعي والسياسي لتونس في فترة حرجة، حيث الانتقال بالحكم من بو رقيبه لبن علي، بداية نهاية حضور اليسار وبداية حضور الإسلاميين، وبداية الصراع بين الإسلاميين و السلطة، الرواية اطلالة على البنى الاجتماعية وتفاعلاتها، فقر الريف وبنية السلطة وهيمنتها على مفاصل الحياة كاملة، وضياع جيل الشباب في تصوره لذاته الثورية ولكن دون جدوى وفاعلية، لكن الواقع العملي يثبت لاحقا أن جيل الشباب التونسي هذا هو من سيفتتح الربيع العربي عبر مطالبة شبابه قبل شعبه، رفع المظلومية المجتمعية والسياسية، رافضين للاستبداد والتسلط والظلم والتخلف والاستغلال والفقر، طالبين للحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية والحياة الأفضل.   وهذا ما لم نر ارهاصاته في الرواية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى