رفع أنقاض الماضي في السودان

عمر العمر

حتى بعد دخول الحرب عامها الثالث، لا يزال السودانيون يخوضون حروباً كلاميةً في جبهات جدلٍ عقيم بحثاً عمّا يُكسِب تلك الحرب عقلانيةً، مشروعيةً، أو على الأقلّ تبريراً سياسياً. على غير مظهرها هي حربٌ مُعقّدة. من ذلك أنها ليست بين أعداء (كما الحروب عادةً)، بقدر ما هي حرب حلفاء داخل معسكر واحد. مع ذلك، هي تستهدف خصماً خارج جبهات الاقتتال تفوق خسائرها الفردية والجمعية كلفةَ خسائر المتقاتلين. هي كذلك حربٌ خارج القاموس السياسي التقليدي، إذ لا تستهدف إعادة رسم الجغرافية السياسية، بدوافع فكرية أو سياسية، بل منطلقها وغايتها احتكار السلطة وغنائمها فقط. كذلك، هي لا تستهدف تثبيت السلم الاجتماعي بين ثقافات وأعراق متنازعة، بل تُمعِن في تحطيم المعمار الاجتماعي. لذلك، لن تبدأ مهام السلام برفع أنقاض المباني، بل من كنس الماضيين السياسي والاجتماعي ترسيخاً لسلام مستدام.

اجتماع نيروبي محاولة باهتة من “الجنجويد” وحلفائهم لتصميم مشروع سياسي للخروج من كنف القبيلة إلى رحاب الوطنية

نعم، توجد تناقضات تأخذ طابعَ الصراعات داخل المجتمع السوداني، أحياناً تبلغ السطح، لكنّها ظلّت دائماً تحت مظلّة الدولة، ليس بتفعيل هيمنة السلطة فقط، بل بفعل هيبتها كذلك، خوفاً من خروج الصِّدام عن سيطرة الفرقاء أو توريط الدولة فيه. فالقبائل المتنازعة ظلّت تنظر إلى الدولة كياناً فوقياً محايداً لا ترغب في كسر حياديته. لذلك ظلّ مألوفاً إسكات تلك الصدامات القَبلية في بداياتها بجهود سلمية (الجودية؛ أي تسوية الخلافات محلّياً من دون الاستعانة بمؤسّسات الدولة). في ظلّ فقدان “الجنجويد” مشروعاً سياسياً، لجأ “متفذلكون” إلى محاولة تلبيس تورّط المليشيا في الحرب الرعناء رداءً قبلياً بغية إكساب تلك الحماقة مشروعيةً زائفة. أكثر فذلكات خطابهم السياسي السابق بلاغةً لقاء نيروبي، استهدفت تأكيد امتشاقهم السلاح اضطراراً للدفاع عن حقوق مهدرة.
اجتماع نيروبي محاولة باهتة من “الجنجويد” وحلفائهم لتصميم مشروع سياسي للخروج من كنف القبيلة إلى رحاب الوطنية، لكنّ جوهره تبرير التورّط في الحرب أكثر من تأطيره مشروعاً سياسياً. لذلك، أخفق الميثاق رغم فصاحته السياسية عن تخليق آلية تحويله مشروعاً، فسقط في مهده كسيحاً، وممّا زاده بؤساً ارتداد صانعيه بالدولة من الوحدة إلى التجزئة. هذا الانسلاخ القسري من الدولة الموحّدة لا يُحدِث صدىً إيجابياً في دوائر الفكر السياسي أو في الصعيد الشعبي. من مفارقات الردّة المحزنة إعداد هذا المشروع بأيدي كتبةٍ عاقّين جاحدين، فأكثر طهاة طبخة نيروبي بريقاً ليسوا من ثمار دولة 1956 فقط، بل هم من قطاف الفاكهة المحرّمة على شعب 1956 نفسه، لكنّهم يستبدلون العقوق بالامتنان أو على الأقلّ بالاعتداد. صورة مشوّهة أخرى لمحاولات الاستثمار في الأزمة.
إذ يصدق مصطلح الانسلاخ في متن حروب الكلام، فهو انسلاخ محمد حمدان دقلو (حميدتي) عن معسكر دولة “الإنقاذ”. ذلك هو المبرّر المنطقي، ليس لإشعال الحرب فقط، بل أيضاً من أجل توسيع جبهاتها. اشتعلت الحرب في سياق الصراع المسلّح على السلطة. هذه ظاهرة شاخصة في العالم الثالث. لذلك، تسقط محاولات تلبيس الحرب أقنعةً جاذبة، فوراء هذه الحرب تبقى شاخصةُ الدوافع الأربعة الواردة في كتاب ريشارد ليبو “لماذا تتحارب الأمم”، وهي الخوف والمصلحة والمكانة والانتقام. فهاجس الخوف ظلّ حُمّى تسكن أجنحة الإنقاذ مثلما تسري بينها. كلّ شهود العيان من الداخل يتحدّثون عن تربّص الفرقاء قبيل الانفجار. تسريبات حديثة تفضح إصرار المتطرّفين على استرداد السلطة كاملةً إبقاءً على المصالح. العمليات العسكرية المتصاعدة تكشف إصرار كلّ طرف على تركيع الآخر. مع ذلك، لا تستبعد مصادرُ نافذةٌ عبورَ المتقاتلين فوق هذا الدم كلّه، والركام جميعه، نحو التصالح مجدّداً (إذا جنح “الجنجويد” للسلام). لذلك، عند إعمال النقد الفكري تنتفي عن هذه الحرب أيُّ عناصرَ سياسيةٍ تبرّر العديد من الحروب الأهلية، مثل التناحر الطبقي أو الديني. رفع شعار التهميش يبقى مثل التلويح بالقتال من أجل الديمقراطية، هراءً فاضحاً.
على وقع هذه المؤشّرات، يمكن بسهولة فهم الحرب الراهنة فصلاً متوحّشاً في سيرة الإنقاذ المتوحّشة، فدوافع الحرب وغاياتها احتفاظ أجنحة الإنقاذيّين بامتيازات السلطة. ذلك هدفٌ مشرّبٌ بالدم وبعنف مألوف منذ سطوهم على الدولة في 1989. هناك فاصل إعدام الضباط الجماعي، فصل محرقة التقتيل في الجنوب، ثمّ فصل التخلّي عنه، فصول الاغتصاب والإبادة في دارفور، فاصل المفاصلة السياسية بين الأجنحة، فصل انقلاب أكتوبر (2021) على الثورة… تلك الفصول الدامية كلّها، ليس فيها ما يجعلها مشروعاً إصلاحيا للدولة، فجميع محاورها الصراع على غنائم السلطة. الحرب الراهنة حلقة أكثر توغّلاً في الدم تفضح جنون الافتتان باحتكار السلطة ولو على ركامات الجثث والبنى التحتية. وَسمُها بـ”حرب الكرامة” تزييف متعمّد لصراعات الإنقاذ الدموية، فثمّة بونٌ فاضح بين كرامة الشعب وأجندة مصالح أقطاب الإنقاذ.

تبدأ مهام السلام في السودان من كنس الماضيَين السياسي والاجتماعي ترسيخاً لسلام مستدام

إن استوجبت حرب فرقاء الإنقاذ أولوية إعادة البنى التحتية في الوطن، فإن حروب الكلام تقتضي حتمية إعادة تأهيل البنى الفوقية للشعب؛ النُّخب السودانية عامّةً، والسياسية خاصّة. ربّما هذه أولوية تستبق مهمّة البنى التحتية. الشعب يحتاج إلى رفع أنقاض الماضي بأسره في ضوء دليل سلوك اجتماعي يجعله أكثر صرامةً تجاه الشارع العام، الحقّ العام والمال العام. النُّخب تحتاج إلى إعادة بناء أدمغتها وأفئدتها على نسق أخلاقي مغاير يجرّدها من الأنانية والذاتية والانتماءات الضيّقة، ويرسّخ إعلاء مصالح الوطن والشعب. تلك مهامُّ تبدأ من إعادة البناء المعرفي، بل إعادة هيكلة البناء نفسه بغية التخلّص من كلّ التشوهات السائدة وسط النُّخب. تلك مهمّة حتمية من أجل إعادة تشييد معمار اجتماعي حداثي، بناء وفق مشروع قومي تتكامل فيه جميع الإثنيات والقوميات، فترفع أنقاض العداوات والتنافر المتراكمة. هذه أجندة يتصدّرها إصلاح العملية التعليمية أولاً، وبرمّتها.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى