في نظرة إلى تلك اللحظة الثورية التي تشكلت قبل عشرة أعوام، والتي تمثلت في تحطم جدار الخوف الذي جثم على صدور الشعب طوال الخمسين عاماً الماضية، كان من الواضح أن الوطن العربي يعاني من إحباط شعبي متراكم وتفاوت اقتصادي متزايد، لكن حكام المنطقة اعتقدوا أنهم قادرون على سحق أي تهديد محتمل. ولكن عندما بدأت أحجار “الدومنو” بالتساقط، لم يكن أحد مستعداً لاستيعاب الحجم الهائل والسرعة والكثافة التي ميزت الاحتجاجات التي اندلعت في وقت واحد، فلقد كانت تلك الأنظمة مستعدة جيداً للتعامل مع الإحتجاجات المعزولة، إلا أنها حين تطورت لتصبح عامة، بحيث أنها سرعان ما طغت عليها الأعداد الهائلة الذين اجتاحوا الشوارع ورفضوا مغادرتها، وعندما رفضت بعض الجيوش قتل مواطنيها من أجل الدفاع عن رؤسائها المحاصرين، أعلن الشعب النصر. إلا أنه وبسبب انزلاق سورية في الفوضى والإطاحة بالرئيس المصري المنتخب، وما آلت إليه الأوضاع في ليبيا واليمن، ترسخ إجماع جديد بفشل الربيع العربي وتحوله إلى شتاء عربي.
اليوم، وبعد مرور عشر سنوات على ثورات الربيع العربي، يبدو المشهد أكثر بؤساً مما كان عليه، في مختلف المجالات، حيث تمكّنت قوى الثورة المضادة، من الإمساك بزمام الأمور، ومحاولة إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. فعلى الصعيد الاقتصادي والاجتماعي، نشاهد موجاتٍ تلو أخرى من القتل والتدمير، إضافة إلى ارتفاع نسب البطالة وتدهور مستويات المعيشة. بينما على صعيد النخب، فنجدها قد انشغلت في حملات لتبادل الاتهامات حول المسؤولية في عدم تحقيق أهداف الثورات، دون القيام بمراجعاتٍ حقيقيةٍ واستخلاص الدروس، ووضع خطط عملية لتجاوز العثرات.
فالوهمُ الذي ساد بداية الثورات أن الدولة العميقة ضعيفة، ومن دون بنية صلبة، ويسهل إزالتها. وساعد على ذلك سرعة رحيل كل من الرئيسين التونسي والمصري. ثم تبيّن لاحقاً أن الدولة العميقة أعادت إنتاج ذاتها. وبالتالي، أدى ذلك إلى عدم تجذّر الثورات الشعبية واستنادها لحاضنة صلبة وإشراكها بالعمل السياسي، كما أدى إلى تراجع المدّ الثوري، وتفتيته، والارتداد عنه. وقد حصل هذا في ثورات 2011، وما تجدّد منها لاحقاً، وصولاً إلى ثورات 2019 و2020 في العراق ولبنان والسودان والجزائر. كما أن الثورات لم تتقدّم ببرامج اجتماعية واقتصادية شعبية، واكتفت بمطلب الديمقراطية.
فالدولة العميقة مؤثرة بشكل أساسي على بنية المجتمع بكليته، وشخصياته، ولها الدور الأوحد في تشكيل الدولة برمتها، اقتصاداً وسياسةً وثقافة وأيديولوجيا وتراثاً وسواها. وبالتالي، من دون مواجهتها هي بالذات، لن يكون لتغيير شكل الحكم تأثيراً كبيراً، على الرغم من أهمية الديمقراطية شكلاً للحكم. فمواجهة الدولة العميقة هي ما يُجذّر الثورات، ويُضيف إليها قطاعات شعبية واسعة، تشكل لا حقاً الحاضنة الحقيقة للثورة، وتكون هي الحامل لعملية التغيير الحقيقي والجذري.
مع أنه لا يمكن تجاهل أن هذه الثورات كانت حتمية الوقوع. أما تحولاتها، وضعف برامجها، فكانت نتاج ظروف وسياسات فاشلة للمعارضات، وبالتالي يجب انتقاد دورها في إفشال الثورات، وليس الاكتفاء بتحميل الأنظمة مسؤولية مصائر الثورات والدول. وإن كان المؤشر الرئيس للمواجهة الحقيقية مع الدولة العميقة هو الإقرار بالنظام الديمقراطي ورفض أي إقصاءات للقوى السياسية، والمطالبة بالعدالة الاجتماعية ورفض أي أشكال للتبعية، واعتماد الديمقراطية والحوار في العلاقة مع الآخر المختلف سياسياً، ومع القوميات المتعددة الموجودة على الأرض العربية.
وإن كانت ثورات الربيع العربي بمجملها تلقائية ووطنية خالصة، غير أن قوى الثورة المضادّة في الداخل والخارج تمكّنت من استغلال الأخطاء التي ارتكبتها جميع القوى الثورية، وأدّت إلى الفشل في الاتفاق على صيغة لإدارة المراحل الانتقالية التي كان يتعيّن أن تجرى خلالها عملية استئصال جذور النظم القديمة، قبل الشروع في البحث عن آلية لتقاسم السلطة.
فإن كنا على قناعة بأن وطننا ليس عصي على التحول الديمقراطي، وإن كانت الثورات التي انطلقت في عام 2010 قد شهدت إنتكاسة في هذا المجال، فإن الموجة الثانية في عام 2019 قد حققت خطوات إيجابية تجاوزت بها النكسة في الثورات التي سبقتها، والتي كانت نتائجها تغيير حكومات في العراق ولبنان وإسقاط النظام في السودان، وتغيير بعض شخصيات النظام في الجزائر.
إننا نرى بأن نعيَ الربيع العربي سابق لأوانه، ولم تكن الموجة الثورية الأولى والثانية مجرد سرابٍ عابر، فثمة، ببساطة، الكثير من المحركات لعدم الاستقرار السياسي في المنطقة، والتي تجعل من الصعب، حتى بالنسبة لأكثر الأنظمة قسوة، البقاء في السلطة إلى أجل غير مسمى. مما يجعلنا على قناعة بأن هذه الأسباب تجعل معظم الأنظمة في المنطقة، على الرغم من تأكيدها العنيد لنفسها، تشعر بانعدام الأمن بوضوح.
إلا أن أخفاقات ثورات 2011 وخبرات ثورات 2019، تدفع نحو مواجهة الدولة العميقة وضرورة تهميش الإسلام السياسي المتشدّد، وعقلنة اتجاهاتٍ فيه لتتبنى خيارات أكثر شعبية وديمقراطية، والفصل بين الجانبين العقائدي والسياسي، بحثاً عن مشتركاتٍ وطنية جامعةٍ لمختلف فئات الشعب، بما فيه من قوى علمانية وديمقراطية، وضرورة الوصول إلى مشتركاتٍ عامة. فالمشروع الوطني يبنى على الحدّ الأدنى المشترك بين المواطنين، فلا يمكن لأي مشروع وطني أن ينجح أو يكون معبِّراً حقاً عن اسمه، من خلال هيمنة أي أغلبية، كما لا ينجح المشروع الوطني بإعطاء ميزات خاصة لأحد “أجزاء” المجتمع.
نعتقد بأن الواقع في المنطقة العربية متأزم ويدفع نحو ثورات عربية جديدة، ولذلك يفترض التنظير الجيد لها، وليس فقط الإنحياز إليها، للعمل على تهيئة الوعي لدى القاعدة الشعبية ودفعها منذ الآن إلى المشاركة السياسية لتهيئتها لتكون الحاضنة الحقيقية للثورة والحامل له، لتحقيق التغيير الجذري للواقع المتردي، وصولاً إلى قيم المواطنة الحقيقية في ظل نظامٍ ديمقراطيٍّ يصون حقوق الإنسان.
المصدر: اشراق