“جبهة السلام والحرية” في شمال شرق سورية

شفان إبراهيم

تغيّرت المواقع والتوجهات كثيراً بين الأطراف المتحالفة أو المتصارعة، ضمن حلبة الصراع حول سورية وعليها. نقلاً من مكان إلى آخر، أو سعياً إلى أطرافٍ والتقرب من أطرافٍ أخرى على مختلف أشكالها. كما شهد الصراع السوري ولادة أجسام عسكرية وسياسية وشبابية عديدة، سرعان ما اندثرت أو اندمجت؛ لصعوبة بقائها منفردة في العمل السياسي أمام ضخامة الإمكانات المطلوبة في ظل ضعف الوارد العسكري أو المادي أو البشري لجهاتٍ وجدت حجمها يصغر رويداً من دون إمكانية السيطرة أو المشاركة في القرار.

في المقابل، تجمُّع أطراف سياسية ضمن مظلة سياسية واحدة، وهي الموجودة أصلاً ضمن مظلة أوسع، هو النقلة التي يُمكن أن يقال إنها تجمع عكسي، ففي حالة الاندماجات السابقة، كانت الأطراف الصغيرة غير المنضوية في واجهة سياسية واضحة تجتمع لتضمن بقاءها ضمن جسد سياسي أو عسكري، يحمي مصالحه ويضمن بقاءه في دائرة القرار والصراع السياسي. في حين أن جبهة السلام والحرية اختارت الطريق المعاكس في لمّ شمل أطراف سياسية، لبعضٍ منها أجنحة عسكرية، وهي العاملة معاً ضمن حقل السياسية في الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، فالمجلس الوطني الكردي يشكل ضلعاً في الجبهة، بما يملك من تحالف لأحزاب سياسية وكتلة من المستقلين والشباب وتمثيل المرأة، وهو الذي كان ينشط من ديرك حتى عفرين، قبل انحسار عمله ضمن محافظة الحسكة، وممثلية في كردستان العراق، وأخرى في تركيا، وبحجم أقل في أوروبا، عدا عن بشمركة “روج آفا” التي تتطلع إلى حصولها على بطاقة العبور إلى ميدانيها في المدن الكردية، حصراً، ورفضها القتال في المدن العربية، تقديراً لخصوصية كل مكان، وتنفيذاً لأولوية المجال العسكري لها. وهناك أيضاً تيار الغد، والمجلس العربي للجزيرة والفرات، وهذا الأخير تشكل في مصر عام 2017، بعد الملتقى التشاوري الأول للقبائل والقوى السياسية العربية السورية في المنطقة الشرقية (دير الزور، والرقة، والحسكة)، والذي ينشط ضمن نطاق وجود العشائر العربية في المدن الثلاث، وبما يملكه من خزان بشري متفاوت الحجم تبعاً للظروف التي مرت بها المنطقة، وانشطار المكون العربي بين قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وتركيا، وروسيا، وتوجهات الحكومة السورية، وتيار الغد. وبما يمكن أن يمثله من تشكيل عسكري جديد يضاف إلى قوات النخبة الموجودة. إضافة إلى تشكيل المنظمة الآثورية الديمقراطية ضلعاً آخر، وهي التي تشكّل عصب التمثيل السياسي والشعبي للشارع الآشوري السرياني وعمقه في محافظة الحسكة، منطلقين من نسق تاريخي لتأسيسهم، والذي يعود إلى 1957. ووفقاً لهذه التركيبة السياسية والإثنية للجبهة، يبقى الضلع الرابع للمكونات القومية ناقصاً، وهو ما قد يتوج بضم جسد سياسي تركماني إلى الجبهة؛ ليصبح بمثابة تمثيل سياسي يحتوي كل القوميات والأديان، في عموم شمال شرق سورية والمنطقة الكردية، وبذلك تصبح كتلة بشرية جغرافية متماسكة.

ومع عدم إغفال البيان التأسيسي للجبهة التأكيد أن التحالف الجديد لا يؤثر سلباً على استمرارية عضوية الأطراف المشكلة لها في الأجسام والمؤسسات السياسية السورية المعارضة، فإن ضعف الأداء المستدام لعمل اللجنة الدستورية، ودخولها في نفق مظلم لا يكاد يُرى له بداية النور، بسبب الاستعصاء السياسي، وعدم الدخول في مواضيع هادفة وجادّة كالمبادئ الدستورية أو ما فوق الدستورية، فإن هذه الجبهة التي لم تتعرّض لاعتراضات إقليمية أو دولية، رُبما يُكتب لها أن تتصدّر مساراً سياسياً جديداً لسورية.

وضمن أقطاب الصراع السياسي فإن مجلس سوريا الديمقراطية (مسد) يسعى، وفي حركة سريعة وديناميكية، إلى كسب صراع التمثيل السياسي للمنطقة، وإلى إعادة طرح نفسه عبر سلسلة ندوات ومؤتمرات ولجان مختلفة، ليكون المعبّر عن مكونات المنطقة. وما بنود البيان الختامي الذي أشار إلى أهمية القرارات الدولية والحل السياسي لسورية، بالتشاور مع المكونات الفاعلة والرئيسية، وبشكل خاص ضمن مناطق شمال شرق سورية، إلا سعي نحو ذلك. كما ترغب في كسب كامل نقاط جولات الحوار بين المجلس الكردي وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) من جهة، وأحزاب الوحدة الوطنية الكردية من جهة ثانية؛ لسحب ورقة التمثيل الكردي من بين يدي المجلس الكردي، وجعله ضعيفاً سياسياً ضمن جبهة السلام والحرية. ووفقاً لتسريبات إعلامية، ثمة تجهيزات نهائية للإعلان عن جسد سياسي جديد، مؤلف من “مسد” وهيئة التنسيق وجزء من منصة القاهرة ومنصة موسكو وشخصيات مستقيلة من الائتلاف السوري المعارض، لتشكيل منصة أخرى، ستكون منافسة لمنصة جبهة السلام والحرية. وسيكون لهذا الصراع اللين تداعيات عميقة على الساحة السورية، وشمال شرق سورية خصوصاً، لجهة أن الجسد السياسي المزمع الإعلان عنه سيكون لـ”قسد” الدور المحوري في تمثيله العسكري، في حين أن الأجنحة العسكرية لجبهة السلام والحرية لم تتمكّن من انتزاع بطاقة العبور والاستقرار بعد، في حين أن القبول السياسي لها رُبما يكون أعمق وأكبر من جسد “مسد” وباقي الأطراف.

وضمن صراع القوى السياسية المتسابقة للظفر بتمثيل منطقة شمال شرق سورية، ومع أن أيّ تشكيل سياسي جديد لن يغير من حركة واقع الصراع في سورية، ولن يتمكّن من الخروج عن نطاق الترتيبات التي تسعى إليها روسيا وأميركا ضمن نطاق مخططاتهما في الشرق الأوسط، لكن الحقيقة أيضاً التي لا يمكن إلغاؤها أو التقليل من شأنها أن الجبهة جهد سياسي جمعي لمكونات سورية في شمال شرق البلاد، وهو شيء شبيه بالهويّة الجامعة، بما يحتويه من قومياتٍ وإثنياتٍ ضمن جسدها. ورُبما نجد هذه الجبهة نواة تشكيل جسد سياسي معارض جديد، بعد أن ابتعدت دولٌ كثيرة عن “الائتلاف”، وانفضت عنه أجساد سياسية مؤسسة له. هذا إن لم يشكل عصب تغيير وإعادة هيكلة الإدارة الذاتية من أصلها. ومع الجسد السياسي الجديد الذي يستعد للإعلان عن نفسه، فإن أربعة معطياتٍ متداخلة تتوضح من خلال هذه التشكيلات السياسية الجديدة:

أولاً، أن جبهة السلام والحرية، حالياً، تتمتّع بثقل سياسي جيد وقبول مبدئي من تركيا، روسيا، أميركا، ما يعني إمكانية إدراجها منصة مستقلة ضمن أي جسد سياسي معارض جديد مزمع إنشاؤه على أنقاض “الائتلاف”. ثانياً، إن وجود منصة موسكو مع جزء من القاهرة وهيئة التنسيق سيعني حتماً تضارباً في المصالح والأهداف والتوجهات مع “الائتلاف” السوري الحالي، ومع جبهة السلام والحرية برؤاها السياسية المُعلن عنها. وعلى الرغم من وجود كل هذه الأطراف، ما عدا “مسد”، ضمن هيئة التفاوض واللجنة الدستورية، إلا أن القواسم المشتركة أقل بكثير من المثبطات والمسببات للحوار أو تكملته، وما حصل أخيراً من خلافات على نسبة تمثيل المستقلين ضمن هيئة التفاوض إلا خير دليل. ثالثاً، حتى وإن كانت للإدارة الأميركية الجديدة مآخذ وحساسيات من السياسات التركية الحالية، إلا أن العمق الاستراتيجي الذي تشكله تركيا، دولة وشعباً وموقعاً جيوبوليتيكياً، بالنسبة للمصالح والعمق الأمني الاستراتيجي الأميركي، ربما لا تدفع الإدارة الأميركية إلى تفضيل ورقة “مسد” والجسم السياسي الذي تسعى إليه، على مصالحها مع تركيا التي تفيد إحصائيات بأن التبادل التجاري بين أنقرة وواشنطن سيصل إلى مائة مليار دولار سنوياً، في نهاية 2021. رابعتها: زحمة الأجساد السياسية في هذه الرقعة الجغرافية و”عجقتها” رُبما يصبان، في نهاية الأمر، في اندماجات سياسية للأحزاب والكتل الحزبية الصغيرة حمايةً لها من الاندثار. وتشهد المنطقة انتخاباتٍ أحادية الجانب، لن تشارك فيها كتل سياسية مهمة ورئيسية، أو الدخول في حواراتٍ مستدامة تفضي، في نهاية المطاف، إلى تشكيل جسم سياسي جديد، قوامه أطراف جبهة السلام والحرية و”مسد” وشخصيات مستقلة من الوجهاء والعشائر المحلية. وهذه تحديداً تخضع للشروط والاعتبارات التي رسمتها الإدارة الأميركية الجديدة أمام “قسد” و”مسد”، حول علاقتها مع دمشق، وإنجاح الحوار الكردي – الكردي، والموقف من تركيا والمعارضة السورية.

تقودنا الوقائع والوضع الحالي لسورية إلى القول إنه لا انتصار سياسياً لأيّ طرف حتى اللحظة، فالبلاد ممزّقة، ونقاط القوة متشعبة وشبه مثبتة، وتقترب مناطق الاستقرار والسيطرة على دخول عامها الكامل، وتشهد المناطق الخاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية تأرجحاً على مستوى توفير الخدمات، وتكرار مظاهر الاعتراض والاضطرابات، وتكرار التهديدات التركية على عين عيسى، والتوترات المتلاحقة بين “قسد” وقوات الحكومة السورية، والتلويح الأميركي بشروط، ذلك كله قد يُضعف الحظوظ السياسية لـ”مسد” و”قسد”. في المقابل، فإن خطوات جبهة السلام والحرية رُبما تحمل نتائج مستدامة قريباً، متمثلةً باللقاءات المكوكية لوفد الجبهة مع روسيا، وممثلين عن الإدارة الأميركية، ووزارة الخارجية التركية، والمعارضة السورية، وإقليم كردستان، وعدم اعتراض أي طرفٍ منهم على إعلان الجبهة وبيانها وعملها، يمنحها خطوةً استباقية في حلبة الصراع القائم. وبالمعنى السياسي لتلك اللقاءات، يُمكن القول إن الجهد السياسي الذي يبذله ممثلو الجبهة لا يُمكن أن يُقفز فوقه أو يُبعد من الحسابات السياسية المستقبلية.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى