أولًا: من هي “مسد”؟
لا بد من التمهيد بالحديث عن الأطراف الموقعة على الاتفاق بين مسد وهي مجلس سورية الديمقراطية التي تمثل الجناح السياسي، أما جناحها العسكري فهو قوات سورية الديمقراطية، التي تعرف كلها باسم وحدات حماية الشعب الكردية، وكل هذه المسميات تعود إلى أصل واحد وهو الجناح السوري لحزب العمال الكردستاني الممتد في تركيا، وجبال قنديل في مناطق الحكم الذاتي الكردي شمال العراق وفي سورية المسمى اختصارا ب ك ك. هذا الحزب الذي أسسه في سورية عبد الله أوجلان الكردي التركي الأصل تحت رعاية النظام السوري ايام حافظ الاسد في ثمانينات القرن الماضي، وكانت اغلب عناصره من اكراد اتراك وسوريين، تم تدريبهم وتحويلهم الى قوة عسكرية تعمل ضد الدولة التركية من خلال عمليات ارهابية في الداخل التركي، تحت شعار: تحرير المناطق الكردية التركية لبناء دولتهم القومية، كان ذلك ضمن صراع المصالح بين النظام السوري والاتراك. لم تستسلم تركيا لهذا المتغير وتوعدت النظام السوري برد قاس، وجهزت الجيوش لاجتياح سورية، مما دفع وسطاء دوليين واقليميين في نهايات القرن الماضي، لتهدئة الأجواء بين البلدين، وحصلت اتفاقات ادت لحظر حزب العمال الكردستاني علنيا في سورية، وترحيل اوجلان الى خارج سورية، حيث تم القبض عليه من قبل المخابرات التركية ووضع في السجن، وغادر اغلب كوادر الحزب الاساسية الى جبال قنديل في العراق، وبقي من بقي منهم في الظل في سورية. لكن سرعان ما اعيد تحريك كوادر ال ب ك ك مجددا من قبل النظام السوري بعد الثورة السورية، وحصول الدعم التركي للمطالب الشعبية السورية بالحرية والعدالة والديمقراطية، فدفع النظام السوري بقايا الحزب لتعيد تشكيل نفسها والعمل على مستويين: أولهما العودة للعمليات الارهابية داخل تركيا تحت دعوى المطالبة بحق أكراد تركيا بدولتهم القومية، والثاني اعطاء الشرعية لل ب ك ك بالدعم المالي والسلاح والسلطة في الشمال الشرقي السوري، حيث تم نقل سلطة النظام لهم تحت تسمية وحدات حماية الشعب الكردية، وكان لهم دور اساسي في قمع الحراك الشعبي في المطالب العادلة للثورة السورية، حيث هناك تواجد للأكراد ضمن حراك الثورة، ضمن محاولة شق الحراك بالمطالب القومية الكردية، وخطف الأكراد السوريين الى مشروع تقسيم علني لسورية ووئد الثورة وقمعها في مناطق سيطرة وحدات حماية الشعب الكردية. وهكذا حدث.
لكنّ مسار الحدث السوري لم يستمر كما خطط له النظام السوري، بل تدخلت به أطراف اخرى. فقد دعم الحكم الذاتي الكردي شمال العراق مجموع الأحزاب الكردية التي أعلنت انتسابها للثورة السورية، وصنعت لها تحالفا اسمه المجلس الوطني الكردي، تماهيا مع المجلس الوطني السوري المشكل على خلفية تمثيله للثورة السورية ولتحقيق مطالب الشعب السوري، الذي تبلور لاحقا في الائتلاف بين المعارضة وقوى الثورة السورية السياسية والعسكرية، وما نتج عنه من ممثلين للثورة والمعارضة في منصات التفاوض مع النظام مثل منصة الآستانة والرياض والقاهرة وغيرها. كانت وحدات حماية الشعب الكردية جزء من اجندة النظام السوري ولم تكن مشاركة في اي من نشاطات الثورة السورية، بل لنقل انها كانت اداة الأمر الواقع ضد الثورة السورية حيث هي.
لكن المتغير الدولي والإقليمي وضعف النظام واقتراب سقوطه بعد سنوات الثورة السورية الاولى جعل وحدات الحماية الكردية جزء من أجندات القوى المتحركة على الأرض السورية. حيث أصبحت الدولة السورية مستباحة للروس والإيرانيين تحت ستار شرعية النظام، وتركيا التي تمركزت في مناطق متفرقة شمال سورية تحت دعوى حماية مصالحها القومية، وأمريكا كانت راعية للحراك كله، بدعوى السماح والمنع للأطراف بالتحرك حسب إملاءاتها للكل. ولا ننسى الدعم الخليجي بالمال والسلاح، حسب الطلب الامريكي للأطراف كلها، وخاصة الدعم الإماراتي العلني لقوات الحماية الكردية في شرق الفرات، وانتهت الأمور لتكون وحدات حماية الشعب القوة السياسية والعسكرية التي تتبع الارادة الامريكية في الشمال الشرقي السوري وشرق الفرات، وتكون قوة الأمر الواقع، وتبدأ بالعمل على خلق إقليم ذاتي كردي حيث سيطرتها تحت الرعاية الأمريكية، يضاف الى ذلك انها اعطيت سلطة السيطرة على مناطق النفط السوري في دير الزور والشمال السوري، كما فكت ارتباطها العلني بالنظام السوري، ولا يغيب عنّا أن ذلك ادى لظلم واضطهاد للشعب السوري المتواجد في تلك المناطق، ولن ننخدع بوجود بعض المكونات العربية في قوات سورية الديمقراطية، وهذا لم يؤثر على أجندة قوات سورية الديمقراطية الانفصالية والخادمة للأمريكان ومصالحهم. وهكذا بدأت ترتب برعاية امريكية لأن تكون جزءً من العملية السياسية التي ترعاها الأمم المتحدة الآن تحت بند مناقشة الدستور السوري تعديلا او بناء دستور جديد، وأنها ترغب ان تكون جزءً من الطرف المعارض السوري في هذه المناقشات، لأنها مغيبة الآن عن هذه المفاوضات. لذلك كانت حاضرة في هذا اللقاء باسم “مسد” لتخلق لذاتها شرعية وتكون عضوا أصيلا في المفاوضات.
أما ما هي أجندتها؟ فذلك ما سنجيب عنه لاحقا.
ثانيا: من هم حزب “الإرادة الشعبية” ؟.
تقول ويكيبيديا: “حزب الإرادة الشعبية تأسس في ديسمبر 2011، انشقاقًا عن الوحدويين الشيوعيين، ويشكل أحد أطراف الجبهة الشعبية للتحرير والتغيير، ويقول إنه يلتزم بالمبادئ الماركسية – اللينينية على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي. وممثل في مجلس الشعب السوري بعضو واحد.
نشأ الحزب عقب إعلان اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين تحولها إلى حزب سياسي حمل تسمية “الإرادة الشعبية” يسعى لمواكبة ظروف المرحلة الراهنة من دون التخلي عن المنهج الماركسي -اللينيني، ويضع بين أهدافه الإستراتيجية “استعادة دور الشيوعيين السوريين في حياة البلاد”.
ووحدة الشيوعيين السوريين نواتها مجموعة (قاسيون) التي كانت جزء من الحزب الشيوعي السوري – بكداش – وهذه المجموعة كانت عبارة عن سبعة وعشرين شخصاً، أعلنت ميثاق شرف الشيوعيين ودعت الشيوعيين المتخاصمين في جميع الفصائل وخارجها للتوقيع عليه، وبالفعل وقّع ما يقارب المائتي شيوعي سوري على مشروع الميثاق وضمت بينها شخصيات شيوعية (منظمة وغير منظمة) (مُبعدة أو مبتعدة) من جميع المحافظات السورية على أساس أن الميثاق نقطة انطلاق للوصول نهائياً إلى مؤتمر لتوحيد الشيوعيين وهو ما لم يحصل حتى الآن.
تحولت المجموعة لحزب جديد ومع الأحداث الأخيرة في سورية عقدت تحالفاتها الخاصة وشكلت مع الحزب السوري القومي الاجتماعي، بالإضافة إلى عدد من الشخصيات المستقلة ما يعرف باسم جبهة التحرير والتغيير.”
مالم تقله ويكيبيديا أن قدري جميل أحد قيادات الفروع في الحزب الشيوعي السوري فرع خالد بكداش وبعد موت بكداش طالب كغيره بحق أن يكون بالقيادة وأن يحظى بحق التمثيل في الجبهة الوطنية التقدمية، التي تمثل تجمع أحزاب تابعة للنظام وتشكل له شرعية مدّعاة في ديمقراطية شعبية غطّت على استبداد النظام المديد طيلة عقود، وكانت هذه الاحزاب محدودة العدد جدا، وتعمل انتهازيا لتحصل على بعض المكتسبات في مجلس الشعب والمجالس المحلية وغيرها.
قام قدري جميل بانشقاقه عن حزبه الام وحاول ان يلتحق بالجبهة الوطنية التقدمية، لكنه لم يحظى بهذا “الشرف” لكنه تُرك ينشط ويكون رديفا للنظام. وبعد الثورة السورية وتحولها مع الزمن الى أطر سياسية وعسكرية، مثل المجلس الوطني السوري والائتلاف ومنصات الرياض والقاهرة. عمل النظام السوري على خلق معارضات تابعة له لتخترق صف الثورة السورية سياسيا، فدفعت قيادة الحزب القومي الاجتماعي السوري مع حزب قدري جميل ليشكلوا منصة معارضة اخرى، ضمن مسرحية هزلية عن انهم معارضة للنظام، تحت مسمى “جبهة التحرير والتغيير”ولا يفوتنا أن من رعى ولادة هذه المعارضة المهجنة الرديفة للنظام هي روسيا حيث عقدت لقاءها وأعلنت عن نفسها في موسكو وسميت منصّة موسكو للمعارضة السورية، على غرار بقية المنصات، لتكون اختراقا للمعارضة السورية في تمثيلها للشعب السوري وثورته. ولن يفوتنا التنويه أن هذه المنصّات موسكو والقاهرة والرياض والائتلاف وما نتج عنهم من لجان تفاوض، أصبحت موقعا مباحا لتأثير القوى الدولية والاقليمية الفاعلة والمؤثرة في الموضوع السوري.
يحق لنا السؤال إلى أي مدى بقيت هذه المنصات بتعددها قريبة من؛ وامينة على مطالب الشعب السوري المشروعة؟
ثالثا: ماذا تريد “مسد” وحزب “الارادة الشعبية” من وراء هذا الاتفاق؟
ما يريده حزب الارادة الشعبية ومن ورائه منصة موسكو وروسيا ذاتها التي اصبحت الممثل الشرعي للنظام السوري في المحافل الدولية وحتى في الداخل السوري، وقد أصبحت السلطة السورية رهينة الحضور الروسي والايراني المتفاهم على أدواره السياسية والعسكرية في سورية.
يريدون أن يكونوا حاضرين في المناقشات التي تدار هذه الايام برعاية دولية حول تعديلات دستورية أو صياغة دستور جديد، وهذا يندرج ضمن الحد الادنى الذي استطاعت القوى الدولية التوافق عليه في مسار حل القضية السورية، حسب القرار الدولي ٢٢٥٤ والذي أصبح الكل يعتبره مرجعه، لكن الكل يعمل ليفرّغه من محتواه الحقيقي او يوجهه ليخدم أغراضه الخاصة. فمن جهة المعارضة تقزّم مطلب التغيير الديمقراطي في سورية ووجود فترة حكم انتقالي لستة أشهر وبعدها انتخابات رئاسية ومجلس نيابي وبناء المؤسسات الديمقراطية البديلة ليكون أخيرًا منحصرا في تعديلات دستورية. وليكون بالنسبة للنظام معركة اخرى يريد أن يمنع أي تعديل جدي في الدستور، يؤدي لإلغاء الهيمنة المطلقة للبنية الحزبية والامنية والعسكرية لعصبة النظام الحاكم في سورية الآن وإلى الأبد. لذلك عملت بكل طاقتها لتكون حاضرة بقوة في لجنة المفاوضات. لها خمس وعشرين مشاركا كذلك نفس العدد للمعارضة، وهناك خمس وعشرين ممثلي المجتمع المدني ولا نعلم مدى اختراقهم لصالح النظام، وهاهم الآن يسعون عبر قدري جميل وحزبه وروسيا من ورائه ان يكون مشاركا، ويكون لهم دورهم في حسم المناقشات لتحقيق مصلحة النظام ووراءه حلفائه وخاصة روسيا.
أما اجندة مسد مجلس سورية الديمقراطية المدعوم امريكيا، والذي تحول إلى الحاكم الفعلي على أكثر من ثلث سورية شرق الفرات، عبر قوات سورية الديمقراطية الكردية، لهم أجندتها المختلفة، انهم يعملون لأن تثبت في الدستور السوري مقولة: أن سورية هي عبارة عن مكونات من العرب والكرد والآشوريين والسريان والشركس… الخ. وأن لكل هؤلاء حق التعبير القومي عن أنفسهم، وحق تقرير المصير. وهذا يعني أن سورية ليست أكثر من مجمع مكونات قادرة على اختيار مستقبلها، بقوة الدستور الذي يطمحون له، وقوّة الأمر الواقع لوجودهم العسكري الميداني المهيمن من خلال الدعم الأمريكي الذي يجعل احلامهم واقعا معاشا.
لذلك لم يبدؤوا من الشعب السوري الواحد بمكوناته المتعددة، كما كل البلاد الديمقراطية، وأن هذا الشعب الواحد المحكوم عبر قاعدة المواطنة المتساوية، وليس المحاصصة القومية (العرقية) او الطائفية او الدينية، وأنه محكوم بكونه شعب واحد على ارض سورية الواحدة، وأن نضالنا لإسقاط الاستبداد وبناء الدولة الديمقراطية العادلة، وليس شرعنة تقسيم سورية وتوزيعها غنائم حرب للمحتلين الفعليين لها، وتكون أدواتهم هذه القوى كممثلين فعليين لمصالح هذه الدول على الارض. لذلك تسعى أمريكا عبر مجلس سورية الديمقراطي الكردي، وروسيا عبر قدري جميل ومنصة موسكو، أن يخترقوا اللجنة الدستورية -أكثر مما هي مخترقة- ليحققوا أجنداتهم ومصالحهم.
أخيرًا: ومن هذه الخلفية كانت بداية النص أن هذا الاتفاق هو بداية تقسيم لسورية، وتضييع لحقوق الشعب فيها. وأننا كشعب سوري وقواه الحية الموزعين على مناطقها المختلفة، الصامتين و المنكفئين، المنتظرين اقدارا سماوية، اننا امام حقيقة مؤلمة أن سورية وشعبها زيادة على ما حصل لها في السنوات السابقة من قتل وتشريد وتغيير ديمغرافي وتدمير للبلاد، اننا الان أمام محاولة شرعنة تأسيس لسورية المقسمة بالدستور القادم، وليس بحكم قوة الأمر الواقع فقط، وأن تأبيد الاحتلالات يشرعن باتفاقات ومعاهدات وتقسيم الثروات بين راعي النظام وناصريه، وأن سورية محكومة بتقسيم فعلي واحتلال مستمر، وأن الشعب السوري المتبقي في الداخل او المشرد في الخارج، اصبح بالمطلق خارج معادلة التقاسم الدولي والإقليمي لسورية، وأن النظام اصبح اضعف من خيال مآته، وانه اداة تنفيذ هذا التقسيم وهذا الاحتلال، وإن العراق ولبنان كنماذج اقرب مثال لما سيحصل معنا مستقبلا. لكل هذا نحن مدعوون كقوى حية ومثقفة وسياسية وفاعلة من الشعب السوري، أن نقرع جرس الانذار وتفكر بحل لمواجهة كل ذلك، والعمل الميداني لعدم تحقيقه. مهما تواضعت الإمكانات، وقلّت الفرص.