يعود شبح الفلتان الأمني ليرخي بظلاله على المشهد العام في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة السورية شمالي حلب، وتحديداً في كل من منطقة عفرين ومحيطها، التي يشار إليها بمنطقة “غصن الزيتون” نسبة للعملية العسكرية التي شنتها تركيا بمشاركة “الجيش الوطني” التابع للمعارضة والحليف لها، والتي تم من خلالها إبعاد “قوات سورية الديمقراطية” (قسد) عنها عام 2017، وفي منطقة الباب وأعزاز وجرابلس ومحيطها، المشار إليها بمنطقة “درع الفرات”، نسبة للعملية التي شنتها أنقرة بمشاركة المعارضة لطرد تنظيم “داعش” منها صيف 2018. وتعصف بهذه المناطق حوادث الاختطاف والاغتيالات والنهب والسطو على الممتلكات العامة، لكن الأخطر يتمثّل في التفجيرات المستمرة منذ سيطرة المعارضة مع الجيش التركي عليها، ما أزهق ويزهق أرواح المئات من المدنيين، بشكل بات “اعتيادياً”.
وخلال الأيام الأخيرة، حصدت التفجيرات حياة 21 مدنياً وعسكرياً، إثر انفجار ثلاث سيارات مفخخة، استهدفت واحدة حياً مدنياً في مدينة أعزاز شمالي حلب، فيما استهدفت سيارة ثانية حاجزاً للشرطة العسكرية التابعة للمعارضة عند مدخل بلدة بزاعة بالقرب من أعزاز، وذلك أول من أمس الأحد. وسبق ذلك بيوم، انفجار سيارة مفخخة في حي الصناعة بمدينة عفرين.
ومع كل تفجير من هذا النوع، تطاول الاتهامات بالإهمال والتسيّب، الأجهزة الأمنية في المعارضة السورية، المسؤولة عن أمن المنطقة بالتنسيق مع الجانب التركي، فضلاً عن اتهامها بعدم فرض ضوابط حقيقية لحماية المدنيين وبسط الأمن في المناطق التي تسيطر عليها. وتذهب الكثير من الاتهامات نحو التخوين والحديث عن اختراق أمني كبير لهذه الأجهزة من خلال تورّط عناصر منها بتسهيل دخول السيارات المفخخة وزرع العبوات الناسفة، من دون تأكيدات حقيقية على مثل هذه المزاعم. وذهب البعض إلى حد المطالبة بضرورة تطبيق عقوبة الإعدام بحق الكثير ممن ألقي القبض عليهم لتورطهم بمثل هذه التفجيرات. إلا أنّ هذه الدعوات تقابل بمخاوف وتحذيرات حقوقية فضلاً عن أن القضاء في هذه المناطق لا يزال يأخذ بالقانون التركي في هذه الجزئية، وبالتالي لا تجيز القوانين الحالية الذهاب في هذا الخيار.
وفي السياق، قال الناشط الإعلامي، حسان علوش، وهو ابن مدينة إعزاز بريف حلب، إنّ الفلتان الأمني في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة والجيش الوطني تحديداً في الشمال، “يأخذ أوجهاً عدة، منها الاغتيالات وحالات الخطف وطلب الفدية، وزرع العبوات الناسفة في الشوارع والأسواق، بالإضافة للتفجيرات الدامية”. وأضاف في حديث مع “العربي الجديد”، أنه “لا يوجد اهتمام بضبط الوضع الأمني في المنطقة، ففي حين دماء الأبرياء تسيل في الطرقات، تجد المسؤولين عن الأمن، لا يبدون أي اكتراث أو مسؤولية”. ولخّص السبب وراء معضلة الفلتان الأمني بأنّ “الكوادر المسؤولة عن الأمن في المنطقة وتحديداً المسؤولين الرئيسيين، غير مختصّين ولا يملكون أي دراية في العمل الأمني، ومعظمهم ليسوا ضباطا أو عناصر شرطة ولا يملكون تأهيلا تعليميا في هذا الجانب”. ولفت علوش إلى أنه “لم يعد من المجدي تحميل هؤلاء المسؤولية عن مقتل المئات من المدنيين والعسكريين، وبات المطلب لنا كمدنيين وناشطين في المنطقة، من الأمنيين الأتراك المسؤولين عن ملف الأمن في منطقتنا، إقالة المسؤولين في الأجهزة هنا، واستبدالهم بأشخاص ذوي خبرة وأكثر كفاءة”.
ودائماً ما تُوجّه أصابع الاتهام من قبل الأجهزة المسؤولة عن أمن تلك المناطق، نحو “قوات سورية الديمقراطية” بالوقوف وراء إرسال المفخخات وزرع المتفجرات، رداً على طردها من تلك المناطق ومن عفرين تحديداً، في حين تنفي “قسد” أي تورط لها. الرائد إبراهيم السيد، وهو قائد جهاز الشرطة العسكرية في مدينة جنديرس بريف عفرين، اتهم من وصفهم بـ”أعداء رئيسيين يستهدفون أمن المنطقة منذ خضوعها لسيطرة المعارضة قبل حوالي أربعة أعوام”، مسمياً في هذا الإطار “قسد” وفلول تنظيم “داعش”، و”عملاء أجهزة النظام السوري”. وأشار السيد في حديث مع “العربي الجديد”، إلى أنّ “محاولات هذه الأطراف لزعزعة الأمن، رتّبت نوعاً من عدم الاستقرار والفلتان الأمني، ودعانا نحن في الأجهزة الأمنية كافة لتوحيد جهودنا للحد من هذه الظواهر”. لكن السيد اعتراف بعدم قدرتهم إلى الآن على إنهاء عمليات زعزعة الأمن كافة. وعزا ذلك إلى أن “هذه القوى الإجرامية، لها تاريخ وأساليب متطورة في تنفيذ العمليات الإرهابية والتفجيرات واستهداف المدنيين، في مقدمتها تسخير النساء والأطفال وتجنيدهم لتنفيذ مثل هذه العمليات، بالإضافة لشراء ضعيفي النفوس والذمم”. وبرأيه فإنّ “تلك القوى، ولا سيما قسد، تستغلّ التعامل باحترام وتساهل مع الأطفال والنساء على الحواجز الأمنية، وتعمد لتجنيد هاتين الشريحتين بشكل رئيسي، ومعظم الأطفال الذين يتم تجنيدهم من المراهقين واليافعين، فيما يتم إرسال النساء بعد ارتدائهن زي نساء منطقتنا، لذلك يكون من الصعوبة ضبط هذه المشكلة. كما أنّ هؤلاء الإرهابيين لجأوا إلى إرسال المتفجرات عبر أشخاص أساساً لا يعلمون ما يحملون، بذريعة إيصال الأمانات أو الأغراض المختلفة، وهناك حالات كثيرة في هذا الإطار”. كما لفت إلى أنّ “حركة النزوح في العامين الأخيرين من إدلب وأرياف حماة وحلب نحو شمال حلب، زادت المشكلة، لا سيما مع التضخم السكاني، وعدم القدرة على تسجيل وإحصاء كافة الموجودين في المنطقة، ما أثّر على أمنها بشكل كبير”.
وحول فرضية وجود اختراقات داخل الأجهزة الأمنية التابعة للمعارضة في المنطقة، أشار السيد إلى أنّ “الأجهزة الأمنية متماسكة إلى حد كبير، لكن الاختراقات تحصل في الجانب المجتمعي من خلال عمليات التجنيد المختلفة على مستوى الشرائح كافة باستخدام العديد من المغريات”. واتهم السيد “قسد” بـ”تسهيل دخول عناصر داعش من شرق الفرات إلى مناطقهم لزيادة زعزعة الأمن، بالإضافة للعمليات التي يقوم بها عناصرها وعملائها”.
وعن المطالبات المجتمعية بأخذ الجانب التركي المبادرة واستلام الأجهزة الأمنية في تلك المناطق، أوضح السيد أنّ “الأجهزة الأمنية التركية موجودة أساساً في المنطقة وتعمل بشكل جبّار؛ سواء من خلال الجناح العسكري عبر وزارة الدفاع التركية، أو الأجهزة الأمنية التابعة لوزارة الداخلية التركية، بالإضافة لانتشار قوات حرس الحدود (الجندرما)، وكلها تقوم بتنظيم العمليات الأمنية بإمكانيات ضخمة. لكن المشكلة الآن لدينا هي بضبط وتنظيم المجتمع، وليس بمسألة زيادة التكثيف الأمني، فلدينا معضلة تتمثل بعدم التزام المدنيين بالضوابط الأمنية والقوانين، وعندما يدرك كل فرد ما عليه من التزامات قانونية وأمنية وما يترتب عليها من عواقب، نكون قد حللنا جزءاً كبيراً من المشكلة”.
المصدر: العربي الجديد