المجال الحيوي والضرورات
كثر الحديث في السنوات الأخيرة عن ” الحركة العربية الواحدة ” في أوساط عربية قومية كثيرة… ناصرية وغير ناصرية، انطلاقاً مما يعانيه الواقع العربي من تردي وانتكاسات وما يعيشه من مخاطر وتحديات تهدد وجود الأمة في أساسياتها وثوابتها.
وعلى الرغم من أن مثل هذه التحديات والتهديدات الوجودية للأمة ليست جديدة؛ إلا أن الدعوة إلى إنشاء ” الحركة العربية الواحدة ” اكتسبت زخمًا إضافيًا جديدًا مترافقًا بنداءات متعددة المصادر لإطلاقها باعتبارها حاجة نضالية شعبية عربية تستجمع طاقات وطنية وقومية لتوظفها في الدفاع عن الأمة ورد العدوان – المتعدد المصادر أيضًا – عليها.
وبعد فترة من الركود والركون لمستلزمات الواقعية السياسية – الحياتية التي كبلت كثيرًا من الطاقات النضالية العربية (التنظيمية والفردية)، جاءت انتفاضات وأحداث ما يسمى مجازًا ” الربيع العربي ” لتنعش الحديث عن الحركة العربية الواحدة وتنشط دعاة لها متحمسين لتأسيسها مقتنعين بأهميتها وضرورتها وجدواها وبالحاجة الملحة إليها؛ ليس هذا فقط بل انضم إلى دعاتها التاريخيين العقائديين، دعاة جدد أو مستجدون بعد أن كانوا مترددين حيالها.
وإذا كانت تحديات الواقع هي العامل الأساس في تنشيط الدعوة إليها إلا أن ثمة عوامل أخرى ساهمت بفعالية في ذلك؛ فباتت تبدو أكثر إلحاحًا وأكثر قابلية للتحقق بعد سلسلة إرهاصات ثورية شبابية – مجتمعية شهدتها بلدان عربية كثيرة ردًا على حال منكر ومرفوض من غالبية القطاعات الشعبية العربية.
– مستجدات ومتغيرات أزخمت الدعوة إلى: الحركة العربية الواحدة.
١ – انحدار الوضع العربي في العقدين الأخيرين إلى درجة غير مسبوقة من الضعف والهوان تتحمل مسؤوليته الأساسية قوى الأمر الواقع لا سيما أصحاب السلطات والسلاطين والمتنفذين وأنظمة إقليمية مكبلة بقيود النفوذ الأجنبي الذي صنعها ويحميها لتأدية دور وظيفي محدد لها ومطلوب منها أداؤه.
ولقد تدهور الوضع العربي العام مما جعل القوى الإقليمية المجاورة والقريبة والمحيطة – كبيرها وصغيرها – تتطاول على الأمة وناسها وأرضها وتاريخها وتراثها الحضاري. دون أن يمتلك ” العرب ” مشروعًا للرد أو حتى فكرة للمواجهة. وحيث فقد النظام الإقليمي السائد قدرته حتى في الدفاع عن ذاته وامتيازاته هو؛ وحيث أنه فقد مقدرته السابقة على ضبط الشارع العربي، فراح يلجأ إلى حماته الخارجيين مقدمًا لهم المزيد من الطاعة والتسليم والارتماء والارتهان طمعًا في تأمين حمايته الذاتية سواء في مواجهة شعبه في الداخل أو في مواجهة الخطر المجاور المحدق. أما القوى الخارجية فقد وجدت في هذه الظروف فرصتها السانحة لمزيد من التلاعب بالمصائر ومزيد من الابتزاز حتى التعرية التامة من كل قوة وكل إمكانية ذاتية قد تساعد يومًا في الحفاظ على أمن ذاتي محلي وليس بأية حال، على أي شكل من أشكال الأمن العربي العام المتجاوز لأمن أية ” قطعة ” مهما بدت مستقرة أو متمكنة.
كل هذا ساهم في انطلاق غيرية عربية لدى قطاعات واسعة من المخلصين والناشطين العرب المستقلين تدعو وتفكر وتعمل وتستنهض لتأسيس حركة شعبية عربية واحدة.
٢ – تسارع وتيرة العدوان الصهيوني بحيث صار الحديث عن ” الشرق الأوسط الجديد ” يعني صراحة لا مواربة، سيادة الكيان الصهيوني الغاصب على عموم المنطقة والقرار فيها. فيما أسرع قطار الاعتراف والتطبيع والترسيم ليشمل أنظمة كثيرة، بحجة التعاون المستقبلي والاستثمار المشترك او طمعًا في حماية ذاتية محلية من أخطار إقليمية هي ذاتها على صلات تكاملية واضحة مع العدو ذاته.
وهكذا وجد الوطنيون العرب المخلصون أنفسهم عرايا في مواجهة عصر صهيوني فعلي. فلم يجدوا أمامهم وسيلة للحفاظ على وجودهم الذاتي – حتى كأشخاص فعليين أو مجازيين – سوى الالتمام على بعضهم وتأسيس حركة واحدة تجمعهم وتكون لهم منطلقًا لمرحلة جديدة من الدفاع الإيجابي عن النفس؛ ومن مقاومة العدوان على أمتهم – متعدد المصادر – مقاومة حقيقية فعلية ذات مضمون عربي واضح تحافظ على ما تبقى من المقومات والوجود الذاتي واستنادًا إلى هوية الأمة التاريخية وليس بالتناقض معها.
٣ – فشل أو تراجع الأحزاب والأطر الحزبية والتنظيمية القائمة كليًا أو جزئيًا على مختلف الساحات الوطنية – الإقليمية. فبات بعضها عائقًا إضافيًا إلى جانب المعيقات الأخرى المحلية والخارجية لأي استنهاض حقيقي للواقع الشعبي العربي يفرز قيادات جديدة ويطور مشاريع تنويرية وبرامج عمل واقعية موضوعية قابلة للحياة والاستمرار.
ومن الإنصاف القول إن كثيرًا منها يناضل بجد وإخلاص في نطاق وجودها الوطني المكبل بالقيود الرسمية والقانونية للدولة الإقليمية. وهي لا شك تصمد وتضحي وأثبتت وجودها في ساحاتها المحدودة، ومع ذلك فقد وصلت إلى طريق مسدود أو يكاد. مما يستدعي منها تفكيرًا جديًا بتوسيع إطاراتها النضالية لتضم إليها طاقات إيجابية أكثر فعالية تزيد من قدراتها الوطنية في ذات الوقت الذي يحيلها إلى طاقة نضالية عربية يجعلها – مع غيرها – قوة فعل وتأثير على المستوى العربي الشعبي. وحيث أنها استنفذت قواها وطاقات الحشد فيها ولم تستطع التغيير. وحيث أن واقعها المحلي لا يزودها بمزيد من القوة اللازمة المطلوبة.
وحيث أن قوى العدوان المحلية هي ذاتها قوى العدوان على الوجود الشامل للأمة كلها، متحالفة متشاركة متضامنة فيما بينها لسحق الأمة واستلابا شخصيتها وتاريخها ومقدراتها الحالية والمستقبلية. وحيث أن المصير العربي واحد وأمن العرب كل لا يتجزأ وأن أمن الجزء من أمن الكل وأن أي جزء ليس بمقدوره حماية أمنه هو ذاته بمفرده وبمعزل عن الأجزاء كلها.
فإن كل تفكير علمي موضوعي لمواجهة الأخطار ورد العدوان يستدعي بالضرورة إيجاد أداة مشتركة تستجمع القوة وتضعها على طريق الفعل والتأثير ثم الفعالية والتغيير.
وليس هذا الطريق سوى حركة شعبية عربية واحدة حيثما تضاءلت فعالية كل الطرق الأخرى.
– نستثني من هذا الحديث تلك الأحزاب والتنظيمات التي وضعت نفسها في مواجهة الأمة أو رهنت ذواتها لواحدة أو أكثر من قوى العدوان أو تلك التي فقدت صلاتها بالواقع الشعبي والدوافع النضالية بسبب تكلس قياداتها ” التاريخية ” وتفردها وسيطرة النرجسية الفردية الشخصانية عليها.
٤ – تغول الأطماع الإقليمية المحيطة وتسللها إلى صلب النسيج الاجتماعي للمجتمع العربي والتخريب في بنيته التاريخية الحضارية المستقرة وعبثها في ثوابت تكوينها التاريخي وهويتها القومية تحقيقًا لمشاريعها الشعوبية الحاقدة على العروبة والمعادية لها. سواء بغطاءات دينية مذهبية طائفية أو بادعاءات قومية عنصرية أو بالاحتماء بشعارات زائفة تدعي المقاومة – دون تحديد – فيما تمارس “مقاومة ” حقيقية لتشتيت ثوابت الأمة ومقومات بنيانها التاريخي.
أما والأمر استفحل إلى مستوى العبث بالتكوين الاجتماعي فلم يعد مواجهة بين أنظمة أو بين تطلعات سياسية متغايرة متضاربة؛ فكان مما استدعى تلاقيًا عاجلاً للقوى والشخصيات والفعاليات الشعبية الحريصة على الأمة وثوابتها والمتمسكة بها حفاظًا عليها هي ذاتها وعلى الهوية الجامعة المانعة.. تلاقيًا ضروريًا لازمًا لن يتحقق إلا في إطار حركة شعبية عربية واحدة جامعة. وهكذا وجد الكثير من المخلصين أنفسهم في صدد حديث متجدد عن مثل تلك الحركة فأشبعوها بحثًا يكاد يقتصر حتى الآن على التشخيص والتوصيف والتعبئة غير متجاوز إلى البناء إلا قليلاً قليلًا..
٥ – انكشاف الوضع العربي، الرسمي ثم الشعبي، أمام قوى النفوذ الأجنبي التي تشكل أذرع النظام الأخطبوطي العالمي الفاسد وامتداداتها في البلاد العربية.
ثم ضراوة الضغوط الشعبية في انتفاضات العقد الأخير المنصرم وتأرجح المواقف منها؛
كشفت عن مقدار خطير من التسلل إلى معظم التشكيلات والأطر القائمة في شتى المجالات. بدءً من الفن والثقافة وصولًا إلى السياسة والعمل الحزبي مرورًا بالإعلام والنخب.. تسلل مصحوب باحتواء واستلاب مما يجعل الكثيرين – وبأعداد غير متوقعة بل مفاجئة – مرتهنين لتلك الأذرع والأدوات ما ظهر منها وما بطن.. فقد أبانت المواقف من الأحداث المتراكمة وما فيها من أخطار على الأمة ووجودها وتاريخها؛ ومن مشاريع الهيمنة عليها القائمة والمتجاسرة حاليا والمطروحة ميدانيًا؛ أبانت كمًا هائلًا من الارتهان للنفوذ الأجنبي ومتطلباته والتعبير عنه أو الحديث نيابة عنه، تحت عناوين ومسميات متنوعة؛ تتمظهر أحيانًا بالنقد وبالهجوم حينًا وبتأييد قوى الأمر الواقع العدوانية غالبًا وبذرائع مستترة.
كل هذا جدد الحاجة الملحة للحديث والحوار والبحث في تأسيس حركة عربية شعبية واحدة جامعة؛ تصون – في أقل تقدير – ما تبقى من شرفاء مخلصين مستقلين قبل أن تفترسهم أدوات النفوذ الأجنبي وأذرعه الأخطبوطية المرعبة.
وليس أمامهم سوى تلك الحركة إن هم أقاموها ليحتموا بها ثم يحموا أمن أمتهم من خلال فعاليتها الشعبية المأمولة..
٦ – تشهد العقود الأخيرة غزوًا عقليًا وثقافيًا وفكريًا على الأمة وثوابتها وتكوينها ومقوماتها؛ شديد الضراوة وغير مسبوق من حيث التأثير على العقول والنفوس..إذ ليس في الوعاءات الثقافية العامة أية أطر فاعلة ومتمكنة تصد هذا الغزو وتفند ادعاءاته وتزود العقل العربي – سيما الشبابي – بأسباب المعرفة والوعي والقدرة على امتلاك الثقة بالأمة تمهيدًا للدفاع عنها وحمايتها. الأمر الذي يستدعي استنفارًا عربيًا شعبيًا عامًا لا تحققه إلا حركة عربية شعبية واحدة توحد الجهود الثقافية لرد الغزو وتسليح الشباب بأسباب الثقة بالنفس والمعرفة الموضوعية الصحيحة بتاريخه وتراثه ومقومات هويته الحضارية. وما إضعاف اللغة العربية إلا مدخلاً لهذا الغزو وأداة من أدواته.. وهو غزو يأخذ أشكالًا متعددة ليست دائمًا خبيثة بوضوح يكفي لمعرفتها وبيان خبثها للجميع مما يجعلها تنطلي على كثيرين فيرددونها وينساقون لتأثيراتها السلبية التخريبية.. مرة أخرى تكتسب الحاجة إلى تلك الحركة الموعودة بعدًا إضافيًا هامًا يعمق مجالها الحيوي ويزيد ضروراتها إلحاحًا وشدة.
فإذا كانت هذه أبعاد المجال الحيوي لمثل تلك الحركة؛ فليس فوق هذه الضرورات الوجودية أو بعدها، ما يلزم – إضافة – بالحديث عن أهمية تأسيس حركة عربية شعبية واحدة جامعة.. فهي قد صارت متحققة الضرورة والأهمية في نفوس وعقول العرب المخلصين لأمتهم؛ فما يبقى إلا أن تتحقق ميدانيًا بجهودهم متضافرة متكاتفة.
فهل يقدرون؟؟ وهل تبدو – والحال كذلك – ممكنة أو قابلة للتحقيق؟؟ أليست دونها عقبات ومصاعب؟؟ أليس لها أعداء يحاربونها؟؟ أليس لها متطلبات ومواصفات ومعايير؟؟
نفكر ونبحث لنرى.
– يتبع –