كان الرئيس جمال عبد الناصر، في طريق عودته من موسكو إلى القاهرة صباح يوم 24 يناير، مثل هذا اليوم، 1970، بعد زيارة سرية استغرقت يومين فقط، وكان الوفد المرافق معه أربعة فقط، هم الفريق أول محمد فوزى وزير الحربية، والكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل رئيس تحرير جريدة الأهرام، ومحمد أحمد مرافق رئيس الجمهورية، والجنرال «كاتشكين» كبير الخبراء السوفيت فى مصر، وانضم إليهم الدكتور مراد غالب سفير مصر فى موسكو، حسبما يذكر «هيكل» فى كتابه «أكتوبر، السلاح والسياسة».
بدأت الزيارة يوم 22 يناير، 1970، ووفقًا لهيكل: «كانت لقاءات عبدالناصر مع القادة السوفيت خلالها، أكثر اللقاءات إثارة فى كل التاريخ الحافل باللقاءات المصرية السوفيتية، فقد كان جمال عبدالناصر يعتقد أن نتيجة أزمة الشرق الأوسط سوف تتقرر فيها».
بدأ عبدالناصر فور وصوله اجتماعاته مع القادة السوفيت، الرئيس بادجرنى، ورئيس الوزراء كوسيجين، وسكرتير الحزب الشيوعى «بريجنيف»، وتقدم فيه عبدالناصر بطلبات محددة، وهى الحصول على صواريخ «سام 3» للدفاع عن العمق أمام الغارات الإسرائيلية، وهذا النوع من الصواريخ كان الأحدث فى ترسانة السلاح السوفيتى، ولم يسبق أن خرج عن حدود الاتحاد السوفيتى.
كانت مصر تعتمد على صواريخ «سام 2»، وكانت المشكلة فى أن الطواقم المصرية التى تعمل عليها تحتاج إلى فترة ستة أشهر تدريبا كى تعمل على النوع الجديد «سام 3»، كما أن معدات هذا النوع من الصواريخ كثيرة وكبيرة جدًا، مما يتطلب التدريب عليها فى الاتحاد السوفيتى، وفاجأ عبدالناصر الاجتماع باقتراحه سحب كل الطواقم المصرية التى تعمل على «سام 2» فى العمق للتدريب ستة أشهر فى موسكو، وفى هذه الفترة يحضر خبراء سوفيت إلى مصر لتشغيل «سام 3».
يذكر هيكل، أن المفاجأة جعلت بادغرنى يرد بأن هذا معناه أن الاتحاد السوفيتى مشترك فى الحرب، وهذا وضع خطير جدًا، وبدأ بريجنيف يسايره فى هذا، وكوسيجين، لكن عبدالناصر رد منتقدًا السياسة السوفيتية، مؤكدًا أنه فى الوقت الذى تواصل الولايات المتحدة سياستها العدوانية، تكتفوا أنتم بالبيانات وتسجيل المواقف، وأضاف «أنه إذا نحن لم نكسب هذه المعركة وبكل الوسائل، أعتقد أننا سنقاسى.. الاتحاد السوفيتى سيقاسى، وسيكون الهجوم عليه فى هذه المرة مباشرًا، وليس عن طريق أصدقاء له تسقط مواقعهم موقعًا بعد موقع فى آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط.
رد كوسيجين: «هذا معناه ممكن يؤدى إلى حرب نووية».. رد عبدالناصر: «أنا لا أريد حربًا نووية، احنا بنحاول نعمل تصاعدا محسوبا، أنتم موجودون فى الدفاع عن مواقع عمق مدنية ولمدة ستة أشهر، وأنا لا أريد منكم أكثر من ذلك».
قصد عبدالناصر توتير الاجتماع بتهديد فاجأ به السوفيت، ويذكر «مراد غالب» فى مذكراته «مع عبدالناصر والسادات»: «قال الرئيس للسوفيت: إذا استمرت إسرائيل فى غاراتها بهذا المخطط الكلاسيكى للحروب، فإن هذا يعنى التسليم، وليس جمال عبدالناصر هو الذى يستسلم، ولا يتفاوض مع إسرائيل أو الأمريكان فى ظل ما يحدث من عدوان لا نستطيع الرد عليه.. وإذا كان لا بد من التفاهم فسوف أترك مكانى لزكريا محيى الدين ليتفاوض معهم، وسأبقى أنا أحارب، وأدافع عن بلدى كفرد عادى تمامًا».
أمام هذه المفاجأة طلب بريجنيف مهلة، يذكر غالب: «غادرنا القاعة، حيث اجتمع المكتب السياسى للجنة المركزية للحزب الشيوعى، وبعد انتهاء اجتماعهم عدنا لاستئناف الجلسات ليبلغونا بقراراتهم، وهى تسليح قوات الدفاع الجوى بصورايخ «سام 3»، وإرسالها بأطقم سوفيتية، وفى 17 مارس وصلت أول شحنة منها، وقرروا أيضًا تسليم مصر طائرات ميج 23 للطيران الليلى، وإرسال وحدة من طائرات الميج 24 المصنوعة من «الستنلستيل» وأرسلوا معها طياريها السوفيت، لأن تدريب المصريين عليها سيستغرق وقتًا طويلًا».
يذكر هيكل فى كتابه «أكتوبر، السلاح والسياسة» أن عبدالناصر فى طريق العودة إلى القاهرة، قصد إلى مؤخرة الطائرة، وراح يفضى بما يعتقد أنه استطاع تحقيقه خلال يومين حافلين فى موسكو: 1- حقق الدفاع عن العمق. 2- ركز الطيران المصرى على الجبهة يحميها من غارات الطيران الإسرائيلى دون قلق على الجبهة الداخلية. 3- أهم من ذلك أن تصعيدا طرأ على حركة المواجهة، التى كانت حتى الآن بين قوتين إقليميتين فى الشرق الأوسط «مصر وإسرائيل» مع وجود القوتين الأعظم «أمريكا والاتحاد السوفيتى» فى خلفية الصورة، والآن تحولت المواجهة بين القوتين الأعظم إلى ما لا يريده أحد ولا يستطيعه، وهذا كفيل بتحريك الأمور سياسيًا، إذا استطعنا أن نتصرف بحكمة وحذر ومن موقف القدرة.
المصدر: اليوم السابع