الكنعانيّة والإسلام والعروبة والفدراليّة اللبنانيّة… ماذا بعد؟

د.ناصر زيدان

يقول ابن خلدون: إن الدولة تنهار عندما يكثر المُنظرون والانتهازيون. وهو ذاته يذكُر في مكانٍ آخر: إن جيل العرب بعد الطوفان وعصر نوح، كانوا من العماليق وطُسم. ومن المتفق عليه بين المؤرخين: أن الكنعانيين ينتسبون الى العماليق وهؤلاء ينتمون الى “العرب العاربة” ومن قبائلهم يتفرع ايضاً الجبابرة في بلاد الشام والفراعنة في وادي النيل. والصراع الذي حصل بين الفئة الكنعانية والفئة الفرعونية في منتصف القرن الخامس عشر قبل الميلاد يؤكد عربية الكنعانيين، حيث تدلُ الآثار التي وجدت في مدينة أريحا الفلسطينية – وهي أقدم مدينة في التاريخ – استخدام الكنعانيين للعربية، إضافة الى لغة خاصة محكية جاءت معهم من جنوب الجزيرة العربية.

تُثير بعض الكتابات الفارقة في هذه الفترة بالذات تساؤلات متعددة عن أهدافها، كما تبعث على الخشية من استغلال الأزمة الرهيبة التي يعاني منها لبنان، وكذلك سوريا؛ للتأسيس لمقاربات تحمل في طياتها مشاريع مُرتجَلة، كي لا نقول إنها تبعث على الريبة. ومن هذه الكتابات ما جاء في مقالة السيد طوني حدشيتي – لبنان بين الكنعانية والمسلم (النهار 21/1/2020) – وما قالته الفنانة السورية سلاف فواخرجي في جريدة “المدن” الإلكترونية في 21/1/2021. ونرى أن الأول جمع متناقضات واسعة، حيث شبَّه الفتح الإسلامي بالاحتلال، علماً أن الفتح حمل الدعوة وجاء لبلاد الشام لتحريرها من احتلال رومي – بيزنطي، بينما كان العرب في هذه البلاد منذ ما يزيد على 15 قرناً قبل الميلاد. أما الثانية، أي فواخرجي التي كانت من مؤيدي النظام في سوريا على مدى 10 سنوات مضت، فقد أخطأت باعتبارها اللغة السريانية العريقة هي لغة السوريين الأم على إطلاقهم، بينما الحقيقة أن البلاد السورية رحَّبت بلغة السيد المسيح، وشعب هذه البلاد الذي ينتمي معظمه لجذور عربية – كنعانية؛ كان في غاية التسامح مع التبشير الكهنوتي، ومع السريان تحديداً، وهؤلاء تعرضوا لاضطهاد كبير في أماكن أخرى.

من غير المفيد الدخول في تحليلات قديمة، لأنها تؤدي الى مزيد من الشرذمة، والى استثارة الغرائز، خصوصاً أن بعضهم يحاول الاستفادة من لحظة الضعف السياسي العربي لتمرير مقاربات ثقافية ليست مبنية على وقائع دامغة، لا سيما منها الأفكار التي تُنسِب البدائية او البدارة وحالات الفقر والإذلال والشرذمة الى العروبة، بينما كل شعوب الأرض في حينها كانت مُتشابهة، والعرب كانوا أفضل حال. ومن هؤلاء المنظِّرين مَن ينحاز في كتاباته الى التجارب الفارسية او البيزنطية او الطورانية – التركية، ويعتقدون أنها أرقى من التجارب العربية التي أعطت أولوية للحروب وأغفلت العلم والتطور وحلّ المشاكل الحياتية للناس. وهذا خطأ تاريخي، لأن التعاسة التي عاشها المشرق العربي، كانت في معظمها بسبب التدخلات الأجنبية، لا سيما من القوى الآنفة الذكر، وممارسات قوروش وكسرى وهولاكو وأوروليان الروماني وغالبية باشاوات السلطنة العثمانية؛ دليل واضح على ذلك.

من المؤكد أن الشعوب الكنعانية لم تبقَ على حالها كما هو وضع شعوب الأرض الأخرى قاطبةً، فقسم منها انتمى الى الديانة المسيحية بعد الميلاد، وقسم آخر اعتنق الإسلام بعد الهجرة النبوية. والمسيحية كما الإسلام أديان سماوية سمحاء، وليسا قوميات إثنية، وبعض التجارب الإسلامية في الحكم لا تُعطي دليلاً قاطعاً على أن الإسلام أمة تنتمي الى إثنية واحدة، بل أنهم شعوب مختلفة آمنت بالدين الحنيف، ولا فرق بينهم أمام الدين إلإّ بالتقوى على ما ذكر الرسول الكريم (ص). ومن هنا يمكن التأكيد أنه لا يوجد تناقض بين الكنعانية ذات الجذور العربية وبين الإسلام من ناحية، ولا بين السريانية والعربية، وكلهم مختلف عن الآخر. والشعوب الوثنية او التي كانت تؤمن بالديانات الأخرى قبل ظهور المسيحية والإسلام، إنحازت الى هاتين الديانتين في ما بعد، وبقيت جذورهم الإثنية والقومية على حالها. فالمسلم في إثيوبيا او في الأيغور الصينية لديه عادات وثقافة مختلفة عن المسلم في مصر على سبيل المثال، كذلك الأمر، فإن المسيحي الغجري في هنغاريا يحمل عادات وتقاليد تختلف عن عادات وتقاليد المسيحي الفلمنكي في بلجيكا، وكلهم يعتنقون ديانة واحدة.

طرح تطبيق النظام الفدرالي في لبنان اليوم بهدف الهروب من الإختلال الكبير الذي تعيشه البلاد، ليس وصفة مثالية للشفاء من المشكلات القائمة. وليس صحيحاً القول إن الشعب اللبناني ليس موحداً، بدليل أن المعايير المُعتمدة لوحدة الشعب موجودة، ولأن مكوناته ارتضت منذ القِدم أن تعيش مع بعضها البعض وتكوِّن دولة واحدة كما حال مُعظم الدول. والحلول الأنجع للمخاوف الوجودية، ولمحاربة الميثولوجيات الخفية الدخيلة، هي باعتماد نظام مُحصَّن بالقانون كما في غالبية دول العالم التي تتألف من إثنيات وأتباع ديانات مختلفة. وهذا النظام يوفر مساواة كاملة في الحقوق والواجبات لكل المواطنين، والحصانة هنا تكون أقوى من كل التأثيرات الطائفية او الشخصانية، ولا فرق في ما إذا كانت وحدة معايير المساواة الكاملة ذات طابع مدني “وفق الأهواء الإسلامية” او ذات طابع علماني “وفق ما يُحب تسميتها المسيحيون” خصوصاً عندما تحفظ هذه المعايير وبقوة الإرادة الشعبية الواعية وقدرة القانون الثابتة؛ الحريات الدينية والعقائدية على إطلاقها، من دون أن تتأثر بالخلافات والتباينات السياسية.

تطبيق تلك المقاربة القانونية المُتماسكة، أسهل بكثير من الدخول في نظام فدرالي لا تتسع له المساحة اللبنانية، وهو أفضل أيضاً من الجنوح نحو أفكار تعود بنا مئات السنيين الى الوراء، لا سيما الى الأنماط الكنعانية والسريانية او الى الخِلافة. وهذه الأنماط تخدش ركن الانتماء للأغلبية اللبنانية الساحقة التي اتفقت على هوية البلاد العربية الموحدة وكرَّست حتميتها بنصوص الدستور، والمغامرات المطروحة تحتاج الى تعديل جذري للدستور، بينما نحن غير قادرين على إجراء تعديل طفيف يَحدّ من استبداد بعض الرؤساء او الجهات التي تستفيد من ثغرات شكلية في هذا الدستور لتعطيل البلاد كما يحصل اليوم في تأخير تشكيل الحكومة، وكما حصل قبل 6 سنوات في منع عملية انتخاب رئيس جديد للجمهورية لمدة عامين ونصف العام.

وقد تُنتج لنا المغامرات الفدرالية مشكلات جديدة أكثر مما تأتي بالحلول. ولنا في فشل “نظام شكيب أفندي” وزير خارجية السلطنة العثمانية الذي حاول فرز سكان القائمقاميتين في عام 1845؛ خير دليل، رغم أنه كان مدعوماً من غالبية قناصل الدول الكبرى. ونظام القائمقاميتين، والذي يتشابه مع النظام الفدرالي كما هو مطروح من قبل البعض اليوم (مع فارق التغييرات الديموغرافية) أدى الى حرب طائفية مقيته وطاحنة في عام 1860، والعوامل الخارجية التي تُشجع على الحرب اليوم متوافرة كما كانت في منتصف القرن التاسع عشر، ولو اختلف اللاعبون.

الاجتهادات في إعادة إنتاج معادلات إثنية او تقسيمية جديدة؛ لا تؤدي الى حلول، وسبق لكثيرين أن تقدموا بأفكار في هذا الإتجاه – أبرزهم الراحل د. فؤاد أفرام البستاني – وفشلوا. ولبنان بمساحته الصغيرة وبخصوصيته الكبيرة – كونه رسالة وملتقى للديانات – لا يتحمل مغامرات جديدة، فهو أصغر من أن يُجزأ وأكبر من أن يُبتلع وفقاً لما كان يقول الإمام موسى الصدر. ويكفي أن يكون محايداً ومنفتحاً على الجميع من دون إستثناء، وأن تكون كلمة القانون فيه فوق كل الكلام، لكي تختفي غالبية مشاكله الراهنة. لأن غالبية هذه المشكلات نتجت من رعونة وجهل الحاكمين واستقوائهم بعوامل خارجية لتعزيز مكانتهم الشخصية والفئوية، ولم تنتُج من الفوارق الإثنية أو الدينية ولا عن خلل بالدستور.

المصدر: النهار العربي

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى