مقدمة
الخطاب السياسي الدارج في منطقتنا:
كم هو مدهش تأمل الهوة بل الفرق الشاسع بين التخطيط الاستراتيجي والسلوك العملي للقوى الدولية حول مستقبل شرق المتوسط، وبين البرامج السياسية التي تتداولها القوى السياسية المحلية في منطقة شرق المتوسط.
وكأن كلا منهما يعملان على عالمين مختلفين.
يعمل الخطاب السياسي المحلي في كل الإقليم، كخطاب في عالم افتراضي تخيلي تسوده التصورات والتمنيات وتوغل فيه القوى السياسية المستبدة والبائدة، في محاولة منها للتمسك بأهداب “ثوابتها” الايديولوجية، وتتكرر فيه ذات المقولات دون الالتفات لأي نقد لأسباب الهزائم والدمار على مدى القرن الماضي، دون محاولة لمراجعة العلاقة بين الاهداف والنتائج، بين المنطق التاريخي الزائف والمليء بالأوهام القومجية والاسلاموية وبين منطق الحياة والعلاقات الدولية الراهنة.
سواء تعلق الامر بالخطاب الشعبوي الدارج في كل من ايران او تركيا أو في الأوساط العقائدية العربية، تقوم كل هذه الخطابات على الاعتقاد أولا بأهمية الذات العقائدية (الاسلاموية او القومجية) بل الاعتقاد بمركزيتها في هذا العالم كبؤرة للتآمر الدولي ل”إحباط امة لو نهضت لتغير مصير العالم”. هذه النرجسية التاريخية. ذات الخطاب نجده عند المتعصبين الاتراك والإيرانيين او العرب.
لكن في كل من إيران وتركيا، ثمة بون شاسع بين منطق محافل التفكير والتخطيط الاستراتيجي وبين الخطاب الدارج. بون شاسع بين الفقيه والسياسي. هنا يعمل الخطاب الدارج من منطق الداعية الذي يدير عقول العامة كوسيلة لتعزيز شرعية النظام وكأداة للحشد الغوغائي في خدمة الاستراتيجيات التي تضعها النخبة الاستراتيجية. في الخطاب الدارج نسمع ذات النمط من اجترار الذات الذ يسود لدينا لكنه محاصر وتحت ضبط إيقاع القرار الاستراتيجي للنخب.
في إيران نسمع خطابا مشحونا عن تآمر العالم وبخاصة الولايات المتحدة وأوربا على ايران وكيف يتحالف معها الإسرائيليون والعرب السنة ضد هذا المارد العظيم الذي لو استكمل نهضته سيغير وجه العالم. إذ لم يستفق الوعي الجمعي في ايران بعد من صدمة مصدق وصدمة حرب صدام على الشعب الإيراني.
اما في تركيا فذات الخطاب عن التآمر الغربي على تركيا المسلمة والسعي لقمع نهوضها المضطرد، ويتحالف مع الغرب في هذا السياق الإسرائيليون والعرب (الخونة). اذ لم يستفق الوعي الجمعي التركي لدى الكثير القوميين الاتراك بعد من أوهام استعادة الإمبراطورية ومن امجاد الانتصار العظيم لأبو الامة – اتاتورك – في ال”جنق-قلعة”.
في كلا البلدين يستثمر الخطاب التعبوي بكل قوة في نظرية المؤامرة لاكتساب الشرعية للسلطة الشمولية، انه ذلك الخليط الفذ بين وهم العظمة القومية ووهم الدور التاريخي الديني. انها خلطة طريفة بين الدين والقومية التي أصبحت سمة واسمة للخطاب التعبوي. لكن في كل من تركيا وايران تعمل النخبة كل ما يمكن لمحاصرة الخطاب الشعبوي عند أبواب الجوامع والأحزاب.
اما في مراكز ومحافل التخطيط الاستراتيجي في تركيا وإيران فإنها تعمل بهدوء بعيدا عن هذا الضجيج الوهمي الافتراضي. انها تتعامل بحرفية مع عالم لا تحكمه الغوغاء بل تحكمه قواعد العلاقات الدولية ومنطق توازن القوة والصراع الدولي والحوكمة. ذلك ان كل هذا الضجيج العامي لم يكن له أي اثر في القرارات الفعلية للنخب السياسية ومحافل التفكير الاستراتيجي في البلدين.
اذ لم يمنع ذلك الخطاب الشعبوي تركيا من ان تكون شريكا وثيقا لحلف الأطلسي وإسرائيل، ولا من العودة لشراء الأسلحة الإسرائيلية ولا التوافق مع أمريكا في ليبيا.
كما لم يمنع الضجيج الشعبوي في ايران النخبة في مراكز التخطيط والتفكير الاستراتيجي من التعامل مع الولايات المتحدة من خلال الاتفاق النووي ولا من التعامل مع إسرائيل في ايران-غيت ولا من ضبط الغوغاء لمنعها من المغامرة بعد مقتل قاسم سليماني وفخري زاد،ة ولا من تحقيق التوافق مع إسرائيل حول خطوط التماس في سوريا الخ…
في كل الأحوال، وبغض النظر عن كل هذا الضجيج، فإن جل ما تسعى اليه ايران وتركيا في نهاية المطاف، وتخطط له عمليا على الصعيد الاستراتيجي يختلف تماماً عن الخطابات الظافرية الموجهة للعامة، انه لا يتجاوز هدف الحصول على حصة اكبر في إدارة المنطقة لصالح النظام العالمي القائم.
وإذ تنتقل الولايات المتحدة من انخراطها في المنطقة إلى السعي للانفكاك عن التورط البري المباشر فيها، فإنها تبحث عن قوى إقليمية لتندبها كمُرابع وسيط في إدارة منظومة الامن في الشرق الأوسط مقابل ضمان منظومة امن تسمح بضبط الصراعات.
في هذا الوضع الاستراتيجي، تجد كلا من تركيا وايران وروسيا فرصة في هذا التوجه الأمريكي وتتدافع فيما بينها لرفع مكاسبها في هذا التقسيم الجديد للعمل علي مستوى الإقليم، تحت مظلة الأهداف الاستراتيجية الكبرى للنظام العالمي الذي تديره الولايات المتحدة.
اما في المشرق العربي فلا نجد مراكز قرار وسياسات عملية متحررة من العامية. ذلك ان الخطاب العامي التعبوي هو الذي يستفرد بالعقل والتخطيط السياسي ويتخذه رهينة واجتراره المغلق لذاته.
وكما يقول أحد كبار المفكرين السوريين: ” نحن لا نفرق بين المثقف والفقيه” بل نجد الفقيه العلماني أو المتأسلم، يمسك بعنق النخب حتى الاختناق الكامل.
فلا فكر نقدي ولا سؤال عن لماذا ولا كيف ولا انتقاد ولا كفر بالثوابت ولا مراجعة، بل ندب وشكوى. حيث المظلومية اجترار للذات النرجسية القومجية والاسلاموية وحسب.
انه الارهاب الفكري للعامة على الخاصة. الامر لا علاقة له بالفقر أو الغنى، العامية بين فقيرنا بقدر ما هي بين أغنيائنا. فالطبقات السائدة عندما لم تتنطح لتأسيس نخبها ولا لخاصتها، كطبقة سائدة تعي ذاتها، وتحكم بذاتها، صارت شريكا ثانوياً لمنظومة تتحالف فيها عامية الأغنياء مع بلطجية العسكر.
فكيف تأسس تاريخيا واستراتيجيا سايكس بيكو عام 1916:
بالمعنى الدقيق للكلمة فان اتفاقات سايكس بيكو هي التي نجمت عن لقاءات هذين الدبلوماسيين البريطاني سايكس والفرنسي بيكو 1916، المكلفين بوضع مبادئ لتقسيم شرق المتوسط (أو ما تم التعارف عليه لاحقاً باسم الهلال الخصيب)، في حال انجاز الهزيمة الوشيكة لألمانيا وحليفتها الامبراطورية العثمانية، في الحرب العالمية الأولى، حيث تم في هذه الاتفاقات تحديد ملامح أولية لتوزيع النفوذ ورسم المصالح المشتركة بين الدولتين واللتين كانتا تعتبران القوتين العظميين في ذلك الزمان.
لم تضع هذه الاتفاقات سوى رؤية أولية للمنظومة السياسية لدول المنطقة، لكنها أصبحت عملياً الأساس القانوني والسياسي والاستراتيجي للشرعية الدولية ولبنية منظومة الدولة الوطنية في إقليم شرق المتوسط، فيما اعتمده الاتفاق من حقوق وأسسه من حدود لمنظومة عيش مشترك شرق الأوسط.
في ذلك الوقت، كان الاتفاق ملزماً قانوناً لبريطانيا وفرنسا، وإن كان مشروطاً بهزيمة الحلفاء للعثمانيين. وبالرغم من كونه اتفاقاً سرياً، فانه يصبح، في حال تحقق انتصار هاتين الدولتين، ذا قوة شرعية بموجب القانون الدولي بصفتهما الدولتين المنتصرتين على الدولة ذات الولاية.
لم يكن اتفاق سايكس بيكو سوى عنصر واحد من عناصر الدبلوماسية السرية المتواصلة، إبان الحرب الأولى بخصوص العديد من القضايا الناجمة عن انهيار الامبراطوريات الخمس.
لقد الحقت بهذه الاتفاقات بشكل تراكمي اتفاقيات تفصيلية عديدة كان يتم مواءمتها مع تطور الاحداث على الأرض. إذ ما لبثت ان استُكملت اتفاقية 1916 باتفاقات أخرى اشترك في بعضها القوتين الاخريين الشريكتين في الحرب واللتين كانتا مهتمتين بالمنطقة، وهما روسيا وإيطاليا.
التوجه العام للدولتين المتفاوضتين كان يهدف الى تدبير أمور الأراضي التي تخرج بشكل متواتر عن التفكك المضطرد للسلطنة العثمانية منذ أوائل القرن الثامن عشر. وكان الترتيب ان يتم تقسيمها الى مناطق تحت النفوذ البريطاني والفرنسي، مع تحول فلسطين إلى كيان دولي. لقد كان الاتفاق يستجيب عملياً لما كان يمثل آن ذاك المصالح الاستراتيجية البريطانية والمطالب التاريخية لفرنسا بموقع خاص في بلاد الشام، على أن يكون لبريطانيا بلاد ما بين النهرين وجسر بري إلى البحر الأبيض المتوسط، وأن يكون لفرنسا لبنان والفرع الغربي من الهلال الخصيب.
مع تطور الحرب تشكل الواقع العملي النهائي، وطرأت تعديلات على الأرض. ذلك ان انتصار الجمهورية التركية الفتية بزعامة اتاتورك في المعركة الكبرى للشنق-قلعة وتكريس وحدة الدولة – الامة التركية، قد أدت الى تعديل بعض عناصر هذه الاتفاقات لصالح تركيا بما يسمح لها بالتمتع بموقع أفضل كدولة مهزومة في الحرب لكنها تمكنت من الانتصار والحفاظ على حدودها، الامر الذي اضطر الحليفين الأساسيين إلي اخذ بعض مطالبها بعين الاعتبار.
في معاهدتي سيفر (1920) ولوزان (1923)، تخلت تركيا عن جميع مطالبات الإمبراطورية العثمانية خارج حدود تركيا الحديثة، لصالح كل من بريطانيا وفرنسا.
نجم عن ذلك حق بريطانيا وفرنسا قانونا بالتعامل مع هذه الأراضي. وبالرغم من الاتفاقات الاصلية لم تحدد حدوداً لكل من المناطق المعنية، الا ان ذلك قد تم في وقت لاحق خلال سلسلة من الاتفاقيات الموقعة في 1922 و1923 والتي حددت حدود فلسطين (بما في ذلك الأردن) ولبنان وسوريا والعراق. كما شملت ملاحق الاتفاق الإطاري لسايكس-بيكو اعترفاً بالالتزامات البريطانية مثل وعد بلفور والمراسلات مع الأسرة الهاشمية.
بالرغم من ان موافقة عصبة الأمم على هذه الاتفاقات لم تكن ضرورية لان هذه المناطق ناجمة عن انتصار الحليفين وعن تنازل تركيا عن هذه المناطق، فلقد وافقت عصبة الأمم على حدود الأقاليم، مما كرس بشكل إضافي هذه الاتفاقات.
بذلك، وكما هو معروف، صارت الصورة العامة للكيانات الدولتية للمنطقة على الشكل التالي:
- فلسطين على كلا ضفتي الأردن تحت الانتداب البريطاني (نيابة عن عصبة الأمم).
- في اتفاق بين لويد جورج وكلينسو، تم نقل الموصل وشمال العراق من الفرنسيين إلى منطقة السيطرة البريطانية وتم دمجها في المملكة العراقية.
- في إطار الاتفاق نفسه، منحت بريطانيا فرنسا حرية في المنطقة التي حصلت عليها، والتي استخدمها الفرنسيون لتوسيع مساحة لبنان على حساب ما تبقى من منطقة نفوذهم في سوريا ومن ثم تقسيم سوريا إلى عدة دول.
- أنشأت بريطانيا إمارة مستقلة للملك عبد الله بن الحسين وفصلتها بعد ذلك عن فلسطين الانتدابية.
- تم منح مقاطعة اسكندرون-هاتاي، على الحدود السورية التركية وضعًا خاصًا، وتنازلت فرنسا لاحقاً عنها في نهاية المطاف لتركيا عشية الحرب العالمية الثانية.
موضوعتان جوهريتان شكلتا منطق اتفاقات سايكس بيكو:
من خلال قراءة أرشيف المفاوضات الطويلة التي بدأت بسايكس بيكو ولم تنته حتى منصف العقد الثاني من القرن العشرين نلاحظ هنا موضوعتين سادتا سياقات النقاش حول تدبير المناطق المنفصلة عن الامبراطورية العثمانية المنهارة.
أولها: الانهيار الحتمي للإمبراطورية العثمانية:
بالرغم من أن الخطاب القومجي او الديني الدارج لا يزال يقارب مسألة انهيار الإمبراطورية من المنطق البائس لنظرية المؤامرة، فإن من الهام جدا ان ندرك أن انهيار الإمبراطورية العثمانية كان مجرد حلقة من حلقات الاستجابة البشرية لاستحقاقات التحول العام للرأسمالية العالمية وصعود الفكر القومي والدولة-الامة وعولمة الاقتصاد الرأسمالي ونشوء الدولة القومية الحديثة كحدث تاريخي كوني.
لقد تجسد هذا التحول بعملية تاريخية عاصفة تكرست خلال وبعد الحرب العالمية الأولى وتجسدت بالقضاء النهائي على الامبراطوريات المركزية الاقطاعية المحتضرة. حيث شكلت الحرب العالمية الأولى نهاية الامبراطوريات في النظام الدولي، وتم القضاء في نهاية الحرب على خمس امبراطوريات كبرى معاً ألا وهي الامبراطورية الألمانية والامبراطورية الروسية والامبراطورية الهنغارية النمساوية والامبراطورية العثمانية والاهم هو نهاية الإمبراطورية البريطانية.
ثانيها: الهوية الوطنية ما بين الدولة-أمة والمنطقة الجغرافية:
تسمح لنا قراءة المراسلات التي سبقت والتي تلت الاتفاقات المتعلقة بنهاية الحرب العالمية الأولى، باكتشاف فرق جوهري في تعامل الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى ومن ثم في موقف المجتمع الدولي – عصبة الأمم آن ذاك – مع الكيانات التي نجمت عن الانهيار المضطرد للإمبراطورية العثمانية.
الدول التي تبلورت فيها الهوية الوطنية والشعور القومي بشكل مبكر مثل مصر واليونان وبلغاريا وايران وتونس والمغرب الخ.. والتي خاضت نضالا شرسا لانتزاع استقلالها من براثن الإمبراطوريات المنهارة قبل خسارة هذه الإمبراطوريات للحرب، كان ينظر إليها على انها دول قومية قيد النشوء وانها تتمتع باللحمة الوطنية وبالعصبية القومية، وبذلك لم توضع هذه الدول تحت الانتداب المباشر بل اعتبرت كل منها دولة امة Nation State ، قيد البناء.
في حين ان المناطق التي تبعثرت وانفلتت عن السياق العثماني بفعل انهيار الإمبراطورية وهزيمتها في الحرب العالمية الأولى، فلقد جرى التعامل معها كشظايا للانهيار العثماني لا ككيانات قائمة.
لقد تمت مقاربة هذه المناطق بشكل مختلف تماماً، ونظر اليها وجرى التعامل معها عملياً كمناطق جغرافية، فيها ثقافات غير متمايزة، حيث عوملت على انها مصطلحات تاريخية وجغرافية وليس كدول-امة Nation-States، بل كمناطق تقطنها شعوب وقوميات وطوائف غير متبلورة تعيش في مناطق لها تسميات جغرافية لأراض دون ان تكون قد نضجت لمرحلة الدولة-الأمة.
حقيقة الامر ان نشوء الدولة الوطنية الحديثة كانت دوما محكومة بشكل أساسي بحقائق الجغرافية الاقتصادية. وكان نجاح هذه الدولة او تلك بالبقاء والاستمرار لا يقوم على مقدار العصبية لأهلها بقدر ما قام دوما على قدرتها على فرض وتبرير وجودها في الجغرافية الاستراتيجية والاقتصادية الإقليمية المحيطة بها.
حقيقة الامر أيضاً، ان الدول التي نجمت عن هذه الاتفاقات لم تكن تعكس خريطة العصبيات الأقوامية والاثنية لشرق المتوسط. بل ان بعضها اتخذ شكله الراهن نتيجة دور وظيفي استراتيجي مناط اليها في ظل تقسيم العمل الاستعماري والمتطلبات المفترضة للدولتين المنتدبتين.
من هذا المنظار جاءت تقسيمات سايكس بيكو تقسيمات وظيفية. ولم تكن الجغرافية الطبيعية والاقتصادية وبالتالي لم تكن قضية الديمومة والبقاء لهذه الدول هي الهاجس المركزي في تقسيم العمل بين فرنسا وبريطانيا.
لم تكن سوريا يوما كيانا مفتعلاً من الناحية التاريخية. بل كانت كيانا تفرضه الجغرافيا الاقتصادية والاثنية لسوريا كما ترسخت عملياً. فلقد استتبت علاقات الاقتصاد السياسي والجغرافي لسوريا تاريخيا، حيث كانت الاسكندرونة الميناء الطبيعي لحلب، والميناء الطبيعي لوسط سوريا هو طرابلس، واما الميناء الطبيعي لدمشق فلقد كان في حيفا. في حين لم تصعد بيروت الا بعد انقطاع حيفا، ولم تصعد اللاذقية الا بعد الحرب الاهلية في لبنان. كما لم تكن الأردن الا الامتداد العميق لدمشق كواحة ومنصة للعمران بالنسبة الجزيرة العربية والتي كانت البعد الاقتصادي السياسي لدمشق، في حين لم تكن الموصل سوى توأم وظيفي لحلب في الجغرافية الاقتصادية للطريق نحو الأستانة – إسطنبول.
لكن، لدى دراستنا لحيثيات قضية الجولان إبان عمليات السلام، كنا ملزمين بالعودة للاتفاقات المنبثقة والملحقة باتفاقات سايكس بيكو والتي ابرمها ضباط من الدرجة الثانية في المستعمرات البريطانية والفرنسية، من اجل رسم الحدود بين منطقة الانتداب البريطاني والفرنسي في الجولان عامي 1922- 1923. شكلت هذه الاتفاقات مصدر الشرعية في النقاش مع الإسرائيليين واساساً في تحديد الحقوق.
ونستطيع القول هنا انه، لا الجغرافية الاقتصادية، ولا الهوية، ولا العصبية الاثنية، ولا الدينية، ولا الوطنية ولا الجغرافية السياسية كانت هي الأساس في رسم حدود تلك الدول.
بالنسبة لبريطانيا كقوة استعمارية بحرية هاجسها الأساسي الاقتصاد والتجارة، كان هاجس المفاوض البريطاني هو ضم أكبر ما يمكن من الموارد وخاصة الموارد المائية لمناطق نفوذه، وتحقيق جغرافية اقتصادية مصغرة قابل للحياة في فلسطين والعراق وكانت الاردن بالنسبة له ضرورة لوجستية لإيصال موارد العراق بما في ذلك نفطه المكتشف لاحقاً الى البحر المتوسط، ناهيك عن متطلبات وعد بلفور والوعد المعنوي للشريف حسين.
في حين كان هاجس المفاوض الفرنسي بصفته ممثلا لتقاليد استعمارية فرنسية يغلب فيها منطق الاستعمار البري والنفوذ الثقافي فلقد كان يستند الى ضم اكبر قدر من الإثنيات المتعاطفة الى مناطق نفوذه.
رغم ذلك فلقد فوجئت السلطات في باريس حين تمكنت الكتلة الوطنية السورية من ان تبدي مستوىً عالياً من الروح الوطنية السورية والتلاحم المجتمعي بحيث تمكنت حفنة صغيرة من الزعماء الوطنيين الحقيقيين السوريين من قطع الطريق على ما كان متفقاً عليه من تقسيم سوريا الى أربع جمهوريات او أقاليم. كان فيهم ابن حلب ودمشق وابن الساحل وجبل العرب. هنا بالذات تمكنت سوريا من فرض هويتها الوطنية.
حين فشل مشروع التقسيم الفرنسي، اجتمع المندوب السامي الفرنسي في بيروت بعدد من ممثلي الطوائف في سوريا ليبلغهم ان فرنسا قد قررت الخروج من سوريا وانها قد قررت ان لابد من منح شاطئ على المتوسط للداخل السوري.
كان من المفترض ان تشكل هذه الوقفة الوطنية السورية برعما جوهريا لتثبيت العصبية الوطنية السورية واساساً لإنتاج التحول التاريخي لسوريا من شعب سوري إلي دولة–أمة.
حصل الانقطاع هنا. كان يفترض منذ بداية الاستقلال ان تنتقل النخب الثقافية، نحو التأسيس لعصبية وطنية بعد ان فككتها قرون من التشرذم وتنمية هذا البرعم الوطني بما يتيح انتاج الدولة – الامة السورية كبوتقة للصهر الوطني السوري، وبما بتجاوز التقسيم الطائفي الذي كان على وشك التحقق في نهاية الاحتلال الفرنسي والبريطاني.
كان من المفروض تحويل التقسيم الديني – الطائفي كأساس للعصبيات الجمعية، ليصبح أساسا طوعيا لتعددية وطنية جامعة.
بدل ذلك، سرعان ما تداخلت رياح الانتماء الديني والطائفي والقومي العربي لتذيب العصبية القومية السورية وتتسامي بها إلى تصور طوباوي ما فوق وطني.
إذ لم تكن التعبيرات القومية والاسلاموية والاممية اليسارية الا تسامياً اسطوريا صار نافياً بحد ذاته للوطنية المؤسِّسة للدولة – الامة.
في حينه ساهمت القضية الفلسطينية في تكريس مفهوم قومي ثم اسلاموي غائم يتجاوز الوطنية السورية واللبنانية والعراقية، بحيث أصبحت القضية الفلسطينية القضية الوطنية لدولة وطنية هي قيد الولادة في احسن احوالها.
لوهلة ما سمحت التجربة الناصرية بجسر الهوة بين المشروع القومي العروبي والمشروع الإسلامي، حيث انجرفت مجتمعات مسلمة بأسرها في عصبية ينخرط فيها المشروع القومي التحرري ليتجاوز منطق الإسلام السياسي.
الا ان هذه التجربة سرعان ما انهارت وهو امر لن نخوض به الان، ليتحول الصراع بين التيار الإسلامي والقومي ليصبح السمة العامة للصراع الفكري والثقافي داخل الدولة الوطنية. وتم في ذات الوقت اسقاط قضية التأسيس للوحدة الوطنية للأمة السورية ومن ثم اللبنانية او العراقية.
حقيقة الأمر كانت مختلفة جدا عن الأوهام. فبالرغم من مركزية القضية القومية العربية والقضية الفلسطينية في الخطاب الرسمي والإعلامي، لم تكن هاتين القضيتين الا بئراً اسطوريا لسرديات التأسيس للأنظمة الشمولية.
يوضح لنا الاستعراض العملي من خلال دراساتنا للسياسات الفعلية للدول العربية وللحراكات التي سادت العالم العربي والاقليم، ان القومية العربية والقضية الفلسطينية لم تشكل في احسن الأحوال اكثر من 10٪ من الجهد العسكري والأمني والدبلوماسي للدولة الوطنية في العالم العربي. وتظهر دراساتنا والارشيفات التاريخية للجامعة العربية او للأمم المتحدة او أرشيفات المفاوضات حول الخلافات بين الدول العربية، بأن اتفاقات سايكس بيكو التي كان يشيطنها القومجيون والاسلاميون كمصدر شؤوم وتكريسا للمؤامرة الكبرى على العروبة والدين، فان هذه الاتفاقات بالذات كانت هي الأساس السياسي والاستراتيجي بل كانت هي الأساس المؤسس للشرعية والعصبية بين الدول العربية. كان هذا في الكواليس الدبلوماسية والسياسة الإقليمية اما في الاعلام والتربية فحدث ولا حرج.
لا تشكل الصراعات العبثية لحافظ الأسد ضد ياسر عرفات والملك حسين وصراعه ضد صدام حسين وضد أنور السادات وصراع صدام حسين ضد ايران وصراع مصر في اليمن والصراع المصري السعودي والحرب المغربية الجزائرية الخ، الخ … الا غيضاً من فيض هائل، التي لا يمكن فهمها في اطار الوطنية او المصرية او العراقية السورية او العصبية القومية العربية ولا مصلحة القضية الفلسطينية. وكذا الامر في قضية العداء ضد تركيا وايران بما تحمله من تناقض مع الخطاب القومجي او الإسلاموي المعادي للغرب.
بمعنى آخر، ما ان انهار المشروع القومي العربي بمقوماته العملية الممكنة، وما ان وصل الصراع العربي الإسرائيلي الي سقفه الاستراتيجي حتى تبدت ملامح ضعف الانتماء الوطني والهوية الوطنية للدولة الامة في شرق المتوسط.
لم تشكل حرب 1967 ومن ثم وفاة جمال عبد الناصر وانقسام حزب البعث في سوريا والعراق الا مجرد ملامح لتداعي تدريجي ولكن مضطرد وذو مغزى لسقف المشروع القومي العربي.
ولم تشكل اتفاقات الكيلو 101 في مصر واتفاقات فصل القوات في الجولان وعودة عرفات الى الضفة الغربية الا رسما نهائياً للسقف التاريخي والممكن الاستراتيجي في الصراع العربي الإسرائيلي. وأصبحت حرب التحرير الشعبية بندقية من دون رؤية سياسية ومن دون منهاج بل مجرد ارهاصات للنهاية العملية للحلول الصفرية والاوهام الطوباوية المرتبطة بهذا المشروع.
أعود لأقول، انه في خضم هذا التضليل، فات النخب وفاتت الشعوب، أهمية التأسيس وتحقيق عصبية الدولة-الامة النقيض الجوهري للطائفية والعصبيات الاثنية بقدر ما فاتها هاجس التنمية والحوكمة والمهمة الجوهرية المتمثلة في بناء الامة عبر عملية صهر طوعي لمكوناتها.
ما تكرس كان نقيض ذلك تماماً. ففي غياب الوحدة الوطنية بالتراضي والمشاركة، تصبح الدولة الشمولية الضرورة الموضوعية والحتمية للوحدة الوطنية، وتصبح الاساطير الطوباوية والأمجاد العتيدة والوعود باستعادتها بئراً عميقا يشكل نسغ الاستبداد ومبرر وجوده. وبالرغم من كل تلك الجهود التعويضية لم تتمكن الدولة الوطنية في شرق المتوسط ان تستمر في الوجود من دون التبعية لقوة خارجية “راعية”.
لقد تضافرت الانتماءات “تحت-الوطنية” والانتماءات ” فوق الوطنية” على تفكيك الانتماء الوطني للدولة في الجغرافيا الاقتصادية لسوريا الكبرى.
تشكل لبنان مثال الإعاقة الجوهرية التي شكلها تضافر الانتماءات والمصالح الطائفية ما تحت الوطنية مع التبعيات ما فوق الوطنية، وبذلك تحالفت القومجية، مع الطائفية لإعاقة تكون الانتماء الوطني اللبناني كعصبية للدولة-الامة اللبنانية، إلى ان وصلت لبنان الى مرحلة أصبح فيها ضبط وإدارة التناقضات لتحقيق حد أدنى من الحوكمة غير ممكن دون ضابط خارجي. واصبحت الهيمنة الخارجية أداة جوهرية في قمع التناقضات وضبطها عند حد أدنى.
لذلك شهدنا سوريا تدخل الى لبنان بموافقات دولية في ذروة الحرب الباردة، وتم القبول بل الاجماع الدولي لاحقا بالهيمنة الإيرانية على لبنان كأمر مسلم به، بل إنه كان امرا مطلوبا في ظل الفشل الذريع في انتاج الوطنية اللبنانية. لقد خرجت سوريا من لبنان ثلاث مرات، لكن افتقاد أرضية وطنية حقيقة للتوافق اللبناني إضافة للاستقواء بالخارج، جعلت أعادة لبنان للسيطرة السورية الإيرانية امرا مقبولا بل ومطلوبا دوليا بل عملت عليه وكرسته قوى دولية عديدة.
يواجه الأردن في ذات الوقت تحدياً بذات المعنى. ففي حين حاولت العديد من القوى زعزعة الركائز الشرعية للدول،ة قام الملك الراحل حسين بشكل مبكر، ومن ثم الملك عبد الله، بشكل مبكر التمركز على تعزيز وتكريس الهوية الوطنية الأردنية. لكن تبقى ثمة تحديات كبرى تجابه البلاد في وقت تشكل القضية الفلسطينية والسورية عوامل ضاغطة منقطعة النظير. ان أهمية تحقيق حوكمة رشيدة وتعزيز مقومات التوازن الاستراتيجي المحيط به وتوطيد الوحدة الوطنية وإعادة تعزيز منهج التقدم الاقتصادي يبقى هو المخرج الأساسي من اجل ان يثبت الأردن قيمته المضافة في مناخ إقليمي عاصف.
بالنسبة لسوريا لم تكن التعبيرات القومية والاسلاموية الا تسامياً اسطوريا نافياً للوطنية السورية. ولا زلت اذكر كيف تلقيت توبيخاً من وزارة الخارجية لقولي في أحد المحافل الهامة ان “سوريا اولاً” وكان الرد باننا لسنا إلا قطرا في امة تمتد من الخليج الى المحيط، والا فاين تذهب القضية الفلسطينية؟ وأين؟ وأين؟
ولكن سرعان ما طلب منا ان نضع شعار مركزنا فوق الاسكندرونة في خارطة سورية بهدف عدم اغضاب تركيا في ظل شهر العسل القصير بين تركيا وسوريا في العقد الاول من القرن الحالي. إذ لم تكن الوطنية السورية ببعدها التاريخي ولا الجغرافي ولا السياسي مسموحة علنا. لكن هذا حديث آخر سأعالجه لاحقا.
لذلك لا غرابة انه مع تبدد الأحلام في المشروع القومي العربي وانهيار مشاريع الخلافة الإسلامية واليسارية على مختلف طوائفها، انكشف الفراغ العميق في العمارة الوطنية للأمة السورية.
المقاربة الاستراتيجية الدولية لشرق المتوسط- سايكس بيكو الجديد:
في مراكز الأبحاث الدولية، يعود بشكل متواتر الحديث عما بعد سايكس بيكو في شرق المتوسط. وتتشارك في هذا الجدل دول إقليمية إضافة لكل من أوربا وامريكا وروسيا بل واسرائيل وإيران.
وفي مسارات هذه المناقشات تطفو جملة من الاعتبارات التي تذكرنا بالاعتبارات التي أسست لسايكس بيكو القديم. اذا يجري الجدل ان تجربة القرن الماضي لم تثبت الا حقيقة ان شعوب وطوائف شرق المتوسط لم تكن يوما قادرة على إدارة شؤونهم الا تحت هيمنة أحد الدول الكبرى في الإقليم.
تعم لهذه المراكز والمحافل الدولية بشكل متسارع على محاور مختلفة تماماً. ثمة اعتبارات مستجدة تحيط بهذا الجدل لعدة اعتبارات وتدور بمجملها حول تراجع أهمية المنطقة.
اذ يتراجع موقع شرق المتوسط والخليج تدريجيا تتحدد أهميته من جديد من خلال اعتبارين:
- عدم السماح للقوى المنافسة للولايات المتحدة، بالسيطرة على ممرات النفط من وسط آسيا ومن المتوسط نحو أوربا
- إدارة أمن الطاقة المتعلقة في شرق آسيا بما فيها الصين حيث لا يمكن للصين بإمكانياتها الحالية ان تحمي خطوط النفط والتجارة مع طريق الحرير والتي تبعد عن اقرب موانئها 5000 كم على الأقل
- كما ان إسرائيل قد توصلت الى وضع معقول لأمنها بشكل تتراجع بشكل ملموس احتمالات اية تهديدات وجودية أو جدية على مدى العقود المنظورة المقبلة.
- لم تعد منطقة شرق المتوسط تكتسب اهميتها من مواردها ودورها في ضبط الإقليم بل صار عدم الاستقرار فيها هو مصدر التهديد للسلام الإقليمي وبالتلي فان أهميتها تنحصر في موقعها كمعبر من جهة وكمنطقة يفترض ضبط صراعاتها ضمن حدود معينة ومنعها من تهديد السلم العالمي، من جهة اخرى.
- اما قضية الإرهاب فلقد تراجع بشكل كبير كأولوية في التخطيط الاستراتيجي، حيث يعتبر تهديدا طفيفا قابلا للضبط في ظل صعود أولويات كونية مستجدة.
وتتم مقاربة الوضع العام في شرق المتوسط، من منطق الإقرار بموازين القوى الراهنة والمتحققة، والبحث عن قدر من الاستدامة في الحلول المطروحة، بما يسمح بحد ادنى من الاستقرار مع الاخذ بعين الاعتبار احتمال ان تبقى بعض عناصر الصراع ملتهبة تحت نار خفيفة.
تشير الحروب الأهلية المستعرة او الكامنة في شرق المتوسط الآن ليس إلى موت الربيع العربي بل إلى انسداد توجهاته الحالية فيما لا يزال يختمر بعمق وقوة. يختمر؟ لان بديله ما عاد الا خيال مآته. ولا يعيقه الا غياب النحب، وغياب السياسة وغياب العقل الاستراتيجي. ففي المعارك الكبيرة ليس المهم ان تنتصر في القتال بل ان تبقى في الأرض ومن ثم ان تتمكن من الانتصار في السلم.
لقد استغرق الربيع الأوربي مئة وأربعين عاما منذ انتصار الثورة الفرنسية حتى انتصار الديمقراطية والتشارك الطوعي القومي والطائفي كنمط في الحكم والحوكمة في كل أوربا. في حين استغرق المشروع الديمقراطي في أوربا الشرقية ما لا يقل عن أربعين عاما منذ الثورة المجرية عام 1956.
القضية ليست قضية تفاؤل او تشاؤم. بل هي دراما تاريخية عظيمة دخلتها كل البشرية وندخلها نحن وسندفع ثمنا باهظا لها كما فعلت كل شعوب العالم. وبحسب التجربة التاريخية لهذه الدول، نجد ان العامل الوحيد الكفيل باختصار التكاليف هو وعي النخب وحكمتها لترجح منطق التوافق والطوعية على طريق التغيير التدريجي. هذا المنطق هو النقيض لمنطق الثورة ودراما الانعطافات الكبرى.
فأمام انسداد النهائي لأفق المشروع القومجي والاسلاموي القائم على الريع وليس على التنمية وامام اختناق رأسمالية الدولة الاحتكارية المحسوبية، وأمام انسداد افق المشاريع ما فوق القومية لانزال نرى بقوة ارهاصات الربيع العربي.
اهم ما في هذا الربيع العربي انه ليس عربياً. ليس عربيا بالمعنى القومي بل عربيا بالمعنى الجغرافي فحسب. بمعنى ان هدفه ليس تحقيق وحدة الامة العربية الافتراضية بل تكريس الدولة-الأمة في كل من لبنان وسوريا والعراق الخ…. وبهذا المعنى قد لا تطول الأيام ليصبح إيرانيا او تركيا.
نعم ربيع يموت فيه القديم وتتعسر فيه ولادة الجديد. فرغم ان نظام الأسد مثلاً قد بقي لكنه غير قادر على الحياة ورغم ان منظومة المحاصصة الطائفية في لبنان لا تزال باقية لكنها غير قادرة على الانتصار في السلم، وكذا حال الأمور في العراق. لنجد أنفسنا هنا امام وضع لا يقدر فيه الجديد على النصر ولا يستطيع القديم هزيمة الجديد. فما هو السبب؟
يثير هذا السؤال بقوة المخاطر الناجمة عن غياب المشروع الوطني للدولة-الامة في العراق وسوريا ولبنان وغيرها من دول شرق المتوسط، في وقت تتحدى الحركات المدفوعة في معظمها بالأصولية الإسلامية بمختلف شقوقها، التكوين السياسي الحالي للمنطقة وسيادة الدولة الوطنية.
سايكس وبيكو القرن الحادي والعشرين يصير حقيقة:
هذا الجدل وهذه الوقائع هي أس النقاش الذي يجري دولياً حول مستقبل المنطقة. على المستوى الدولي، وبالرغم من كثرة الحديث عن التمسك بوحدة الأراضي، يمضي حديث معمق حول مستقبل دول المنطقة وهيكلياتها.
لم تعد هذه الأفكار ابحاثاِ بل أصبحت مباحثات.
في المرحلة الأولى: بدأت هذه المباحثات بشكل اولي في التبلور في لقاء جمع في القدس رؤساء الامن في كل من روسيا وإسرائيل والولايات المتحدة كما تبلور بعضها في مباحثات وتوافقات سوتشي بين ايران وتركيا وروسيا.
وتستمر مراكز البحث الاستراتيجي والدبلوماسي في العمل الحثيث عليها ولا تقتصر هذه الابحاث على مصائر سوريا فحسب بل تمتد، كما حصل مع كل من سايكس وبيكو على مدى انابيب النفط والغاز من وسط آسيا ومستقبل كردستان الخ.. وكمأ كان الحال في اتفاقات سايكس بيكو لم يبدلها شيء الا تحول الوقائع على الأرض.
يدور الحديث في هذه الأوساط الان عن ان التفكك وانهيار العصبية الوطنية الجامعة قد وصل إلى حد قد يصعب معه تصور امكان استعادة النظام القديم.
بل إنه في ضوء الواقع الطائفي والعرقي المختلف في المنطقة، يبدو ان نظاما اقليمياً جديدا لابد من افساح المجال له ليتكون يحكم قواه الموضوعية. وفي سياق الفشل الكبير في انتاج حد ادنى من التوافقات الوطنية لتجاوز الازمات المستحكمة، قد يكون لابد مما لابد منه، بان تستعاد من جديد نسخة جديدة من الانتداب لقوى إقليمية علي المنطقة. وبحسب هذه الدراسات، فطالما لم تتمكن هذه الاقوام من التوافق على قواسم مشتركة للعيش المشترك والتوافقات مع الاثنية والثقافية التي تم اغفالها بل قعمها في منظومة ما بعد سايكس بيكو، فلابد من قوى خارجية. وكأن منطقتنا في شرق المتوسط تبحث عن مستبد جديد بلباس عسكري او بلحية يضبط المظلوميات ويقمعها.
تتحدث هذه الدراسات عن احتمال الاضطرار للجمع بين الحدود التي أعيد رسمها واستخدام تشكيلات سياسية جديدة لم تستخدم في المنطقة، مثل الاتحاد/الاتحاد الكونفدرالي. وأقاليم مضبوطة السيادة في اطار شكل جديد للاتحاد.
لكن “يبدو أن الأقليات والفصائل والحركات المقاتلة ليست مستعدة بعد للنظر في وضع ترتيبات سياسية دائمة جديدة في بيئتها الجغرافية، ناهيك عن إعادة رسم الحدود للدول.
وترى هذه الأوساط انه قد يكون “من السابق لأوانه بل من غير المجدي، أن تتم مناقشة هذه التغييرات المتفق عليها حول استبدال النظام القديم للحكومات المركزية بنظام مختلف”. “كما انه قد يكون من غير المجدي افتراض أن بعض القوى التي تقاتل في شرق المتوسط ستكون راضية ببساطة عن العودة إلى الوضع الذي كان قائماً قبل الحروب الاهلية”.
لم يعد اجتماع مسؤولين كبار لدول كبرى وإقليمية للعمل على اغلاق صراعات المنطقة سراً. لكن الشكل الجديد يتعلق بانتداب قوي اقليمية (وانا أجد ان روسيا هنا مجرد قوة اقليمية)، ولم يعد بعيدا عن التصور تكريس ذلك في معاهدات دولية من اجل اغلاق هذه الصراعات بما فيها من تناقضات وقروح وابقاؤها على لهب منخفض لا يهدد المصالح العامة للدول الكبرى.
من الواضح أن ثمة اختلافات شاسعة بين عامي 1916 2020- . من أهمها غياب قوة خارجية قادرة او راغبة في فرض تسوية – حتى لو وافق عليها المجتمع الدولي. حيث يبدو واضحا إحجام الجهات الفاعلة الرئيسية من خارج المنطقة عن نشر قوات على الأرض بصفتها أداة رئيسية لفرض الهيمنة.
لذلك يجري البحث عن قوات ضاربة اقليمية. كما يجري التخطيط لمنع وقوع الأسلحة في أيدي جماعات تعارض التسوية السياسية، ومنع متطوعين جدد من الوصول إلى القوات المحلية، وتدمير الترسانات والمستودعات، مما قد يعجل بالرغبة في النظر في حلول وسط.
هذه العملية، مثلها مثل عملية سايكس بيكو 1916، تبحث من حيث المبدأ بين الجهات الفاعلة الرئيسية الداخلية الخارجية بشأن إعادة تشكيل المنطقة لجعل هذا التغيير ممكناً.
انها تبحث عن عصبية قابلة للتماسك والتوافق. وتجري في المرحلة الأولى عمليات التفاوض لإنتاج تصور يقوم على انه يمكن لسوريا والعراق ان تصبح اتحادات لكونفدراليات بالمعنى الواسع للكلمة بعد تغييرات محددة في الحدود.
حيث قد يتطلب الأمر إعادة ترسيم الحدود الداخلية بشكل عام بين الولايات الفدرالية. وقد تترك التفاصيل سواء لحراك الأوضاع على الأرض او للمفاوضات بين المكونات المستقبلية للهياكل السياسية الجديدة/الولايات الاتحادية، مع القبول بتقسيم واسع بين صلاحيات المركز وصلاحيات الوحدات التي ستصنع الدولة الفدرالية.
في المرحلة الثانية: سيكون من الضروري ضبط سلوك اللاعبين الإقليميين واقناعهم بضرورة القبول بلجم الصراعات بينهم وانجاح المشروع القائم بخطوطه العريضة.
ذلك ان بقاء الاحتدام الاقليمي قد يفشل الحلول ويبقى المنطقة في حالة من الفوضى. وفي حال تحقيق تفاهم واسع في مع اللاعبين الإقليميين يمكن ان يتم فيما بعد جلب بعض الدول العربية الاخرى.
في المرحلة الثالثة: سيطلب من بعض اللاعبين المحليين إعطاء موافقتهم.
قد يكون من السابق لأوانه الإعلان عن “سايكس بيكو” جديدة، ولكن من المؤكد ان خطوطه العريضة في اطار البحث عن نظام انتداب جديد في الشرق الأوسط، حيث يفترض ان تتشكل الصورة النهائية بشكل تراكمي عبر الاحتفاظ بالأجزاء بهدوء القائمة وإضافة أجزاء جديدة، لاستيعاب التغييرات التي حدثت وتحدث.
على الجانب الآخر، بالنسبة لنا أبناء شرق المتوسط: سواءً كنا عراقيين أو سوريين أو لبنانيين أو اردنيين فإن النقاش يبدو مسدود الأفق نظرا لان التنمية والحوكمة والديمقراطية غير ممكنة من دون وحدة وطنية طوعية لكل مكونات الدولة الامة.
ما لم يقر هذا الجيل في مجمل الإقليم بطوباويته العقائدية وخيبته السياسية والعملية، وما لم يخْلِ السبيل للجيل القادم الذي يبحث في وطنه عن الدولة-الامة لعله يستطيع بناء غد ممكن.
السؤال الجوهري بالنسبة لجيلنا هو هل يمكن إعادة انتاج الوطنيات الحديثة من قبل جيل جديد يتجاوز منطق العقائد الطوباوية ويصهر الأمة-الدولة طوعا ويحقق الحوكمة ويبني التنمية؟ يبدو ذلك خيالا لكنهه في كل الاحوال اقل شطحا من الطوباويات العقائدية.
الديمقراطية وحدها ليست قادرة على حل قضية الهويات الثانوية، الطائفية الاثنية. وإلا لما كانت في بلجيكا مقاطعات فرنسية وفلمنكية ولا كانت فنلندا تكتب كل اعلاناتها باللغتين الفنلندية والسويدية ولما كانت كندا، وما كانت الهند، الخ.. ولما كانت بيلاروسيا ولا أوكرانيا.
ثمة عدة ميزات تعطينا بعض الامل، مما قد يقطع الطريق على ال”قابلية للاستعمار” الت يوصف بها مالك بن نبي قطاعا كبيرا من مثقفينا:
- أولها نهاية الريع، ونهاية كل امل في استمرار رأسمالية الدولة الاحتكارية المحسوبية، الاساس الاقتصادي السياسي لدولة الاستبداد في المنطقة.
- ثانيها ان دول الإقليم الطامحة للهيمنة تثبت يوما بعد يوم فشلها في اجتراح نموذج قابل للحياة السلمي تكرس هيمنتها ويكرس قدرا أدنى من الاستقرار فلا تركيا ولا ايران ولا روسيا فعلت ولن تستطيع.
- ثالثها ان لا أحد من هذه الدول سيكون قادرا على الاستمرار على الأرض. فالاستعمار الجديد – الاستعمار الاقتصادي، لم يكن امرا أجبرت عليه الدول الاستعمارية بل هو خيارها في وقت لم يعد من المجدي احتلال البلدان للحصول علي مواردها. وكما فعلت بريطانيا وفرنسا فالاستعمار بشكله القديم ما عاد مربحا ولا ممكناً. وكذا ستفعل الدول المحتلة للمنطقة.
- رابعها ان ثمة جيل جديد صاعد يكفر بمسلمات الطوباويات وما لم يهاجر لن يكون له من افق في الحياة إلا بإعادة التأسيس للدولة الامة
- رابعا لا احد من القوى الدولية والإقليمية، والحمد لله، مستعد لتوفير الريع الضروري لتحقيق حد ادنى من الاستقرار المستدام لمنظومة استبداد جديدة
- لم يعد النفط مصدرا كبيرا استراتيجيا للريع بالنسبة لشرق المتوسط
عند هذه الحواجز يتوقف الان المشروع الجديد لما بعد سايكس بيكو في مرحلته الأولى. فهل تتجمع الكتلة الحرجة الوطنية الضرورية لقلب المجن من قبل جيل جديد، يعيد تأسيس الدولة الامة في كل من لبنان وسوريا والعراق. والا فلن يكون الا سايكس بيكو جديد يدير تفسخا ديموغرافيا واستراتيجياً مأساويا وباهظاً.
ثلاث سيناريوهات لمستقبل المنطقة:
السيناريو الأول: سايكس بيكو جديد يكرس الأوضاع الراهنة في المنطقة بكل ما فيها من مظالم وموازين قوى ويندب بعض المستبدين الإقليميين لإدارتها وقمعها وضبطها.
السيناريو الثاني فليترك الإقليم لصراعاته ولتبق بعض القوى الوصائية تضبطه من الخارج دون تورط كبير المنطقة متروكا للتفسخ الذاتي الى ان تنشأ نوازع جديدة لعصبية توحيدية.
السيناريو الثالث: تكون وصعود نخب وطنية في وجه القوى الدولية الوصائية، كما فعل زعماء الكتلة الوطنية السورية، لإثبات ان ثمة قوة وطنية جامعة قادرة على التوافق بما يتجاوز منطق الحرب الاهلية وانتقاماتها وحساباتها.
نخب تخلق البديل للحرب الاهلية وتجترح توافقات وطنية جديدة تسمح للناس بالتعايش والحياة.
المطلوب هنا ليس مشروعا عظيما تاريخياً وعقائديا بل مجرد سلم اهلي وتعايش وطني لقلب منطق الحرب الاهلية. في سبيل ذلك، نحن نتطلع لبديل للحرب الاهلية يتجاوز ازمة السلطات والمعارضات، ويعيد التأسيس لتوافقات تؤسس للتوحيد الطوعي لكل الدولة الامة.
المصدر: الناس نيوز
رغم خلافنا مع الكثير مما ورد في هذا البحث ننشره ليطلع عليه قراء الموقع، واحترامًا منا للرأي الآخر.