تعيد التعزيزات التركية المتواصلة في إدلب إلى الأذهان فترات ما قبل التصعيد الجارية في المنطقة من قبل النظام وروسيا خلال السنتين الماضيتين منذ توقيع اتفاق سوتشي في العام 2018، وما تبعها من عمليات عسكرية وخروقات وسيطرة للنظام بدعم روسي على مزيد من المساحات والقرى والبلدات، وتطرح التساؤلات بشدة كذلك عن التوافقات الجارية في المنطقة، التي لم تشهد حتى الآن اتفاقا نهائيا بين الأطراف المعنية لوقف التصعيد والخروقات، ويؤسس لوقف إطلاق النار الدائم محولا إدلب وريفها والمناطق الخاضعة للمعارضة إلى منطقة آمنة أسوة بمناطق درع الفرات وغصن الزيتون، بل في كل مرة يجري الحديث فيها بشكل مستمر عن توافقات قصيرة ومتوسطة المدى، دون التمكن من الوصول إلى اتفاقية نهائية بين الأطراف المؤثرة، وخاصة تركيا وروسيا، اللتين تنتظران وتترقبان مؤخرا انتقال الحكم في أميركا، ومعرفة السياسة الجديدة لواشنطن حيال موسكو وأنقرة، وهي من المحددات الأساسية للوضع في سوريا أيضا ومعرفة كل طرف كيفية تموضعه ضمن السياسة الجديدة.
وشهدت الأيام الماضية دخول تعزيزات عسكرية تركية كبيرة إلى المنطقة مع إنشاء نقاط ومواقع عديدة، وتنفيذ تمركزات عديدة فسرت على أنها استعداد لردع أي عمل عسكري قد تقوم به قوات النظام في المنطقة، في ظل وجود تهديدات مستمرة ومتواصلة، وأيضا ضمن تقارير أفادت بأن الهدف هو العمل على فتح الطرق الدولية من قبل الجانب التركي، وإن كان من المستبعد شن قوات النظام عملا عسكريا على المنقطة في الفترة القريبة لعدم وجود الحشودات الكافية المؤشرة، ولانتقال عناصر من الميليشيات إلى قتال فلول وبقايا تنظيم داعش بمناطق ثانية، فإن الاحتمال الثاني يبقى الأرجح وهو فتح الطريق الدولية، إلا أن استهداف عناصر جيش النصر في عملية تسلل، وعدم الرد من قبل المعارضة عليها، أعاد مجددا فكرة بدء قوات النظام عملا عسكريا، أو اعتماده تكتيكا جديدا، ولكنه في الواقع كان رسالة روسية ضاغطة على المعارضة وداعميها، تشبه عملية قصف معسكر تدريب فيلق الشام قبل نحو شهرين، في ابتذال روسي متواصل بعمليات استهداف وحشية.
وإزاء الوقوف أمام هذين الاحتمالين، تفيد مصادر مطلعة على المفاوضات الجارية بين تركيا وروسيا، أن هناك توافقا على فتح الطريق الدولية “إم 4” حلب – اللاذقية، في الجزء الذي تسيطر عليه المعارضة أمام حركة التجارة فقط، وليس للاستخدام العسكري، أي أن الجانب التركي سيعمل على تأمين فتح الطريق الدولية من أجل عبور القوافل التجارية حصرا، دون أن يكون هناك أي سماح لعبور القوافل العسكرية للنظام أو لروسيا عبر هذا الطريق، وأن هذا التوافق يأتي ضمن إطار ردع روسيا لقوات النظام من تنفيذ أي هجوم على المنطقة، بمعنى تجنيب إدلب عملية عسكرية وشيكة، لأن هناك تهديدات جادة من عمل عسكري للنظام يرافقه قصف روسي يسبب في النهاية نزوحا وآلاما كثيرة، وإن عرقلت تركيا العملية العسكرية ومنعت تقدمها ميدانيا، ومقابل المنع الروسي لشن عملية عسكرية، كان هناك مطالب بتنفيذ فتح الطريق الدولية، والقوات التركية التي عززت في المنطقة، ستعمل على توفير الأمن ومنع الاستفزازات والاستهدافات التي قد تحصل لهذه القوافل، خاصة أن هناك أطرافا لها مصلحة بفشل أي توافق تركي روسي، وإظهار أنقرة على أنها غير قادرة على الإيفاء بالتزاماتها رغم قدرتها على ذلك، بشكل يشبه ما حصل في موضوع الدوريات المشتركة، واستهدافها من خلال تنظيمات مشبوهة الانتماء، ومعروفة التبعية للنظام والميليشيات الإيرانية الساعية لتعطيل التوافقات في المنطقة، بهدف إيذاء المدنيين والسيطرة على مزيد من المساحات.
ويعتقد أن فتح الطريق الدولية لحركة التجارة في الوقت الحالي سيهدئ الجانب الروسي لفترة زمنية، وإن كان هذا الهدوء قصيرا لأن روسيا دائما ما تسعى لإيجاد نقاط خلافية في موضوع إدلب، وتقديم مطالب جديدة، وبما أن تركيا رسمت خطوطها الحمراء بعدم تجاوز الطريق الدولية، عملت على القبول بفتح الطريق لكسب الوقت والتهدئة، خاصة أن روسيا كانت قد تقدمت بهذا الطلب في مسعى منها لوضع الجانب التركي في وضع صعب في ظل التصعيد الأخير، وتهدف تركيا من خلال التوافق الجديد إلى كسب الوقت لمعرفة مآلات الوضع الجديد مع الإدارة الأميركية الجديدة، لأن تركيا حاليا لا تستطيع التعويل على الجانب الأميركي الذي كان دائما إلى جانبها في موضع إدلب، بشكل يقدم دعما لمواقفها وهذه الحالة قد تستمر لعدة أشهر، وذلك لحين تولي إدارة جو بادين الحكم وترتيب صفوف الإدارة الحاكمة، قبيل الانتقال للسياسة الخارجية، كما أن أنقرة تجهل حتى الآن سياسة بايدن تجاهها، وآفاق التعاون المشترك في المسألة السورية وبقية الملفات أيضا، وانعكاسات العلاقات الثنائية المشتركة على الوضع الميداني في سوريا.
التسلل الذي أصاب جيش النصر وعدم الرد عليه أيضا رسالة روسية تماما كما حصل مع قصف المعسكر، بأن هناك إمكانيات ومسارات للرد والضغط على تركيا من أجل تحقيق التوافقات، فروسيا تدرك أن أي معركة وإن كانت صغيرة الحجم وإن خسرها النظام ستعود على تركيا بالضرر، وذلك من ناحية حصول النزوح والفوضى والتغيير الميداني، ولذلك ربما تعمل على الضغط بشكل متواصل على تركيا في الفترة المقبلة، وهو بسبب التوافقات في ظل عدم وجود الاتفاق النهائي، وبالتالي سعت تركيا إلى امتصاص اللعب الروسي على هامش الوقت بانتظار تولي الإدارة الأميركية الجديدة، والتصريحات الصادرة عن جويل رايبرون حول الشروط والمواقف الأميركية تبقى مجرد كلام استهلاكي وحبر على الورق لجميع الأطراف، وإن كانت السياسة الخارجية الأميركية واضحة إلا أن أسلوب الرئيس وطريقة تعاطيه، والعلاقات الثنائية بين الدول لها الدور أيضا في رسم السياسات، ولهذا يمكن القول إن هناك توافقات في إدلب لا اتفاقات.
التوافقات الأخيرة آنفة الذكر في إدلب يرافقها غموض يلف منطقة عين عيسى بين الطرفين، خاصة في ظل وجود إصرار روسي على تسليم المنطقة للنظام ومنع المعارضة من القيام بأي عمل عسكري بدعم تركي، روسيا تعمل على إظهار إصرارها بشكل واضح لكل من يقترب من المنطقة، حيث إن هناك رغبة روسية بإخراج قسد من المنطقة، وإقحام النظام، ولكنها بالمقابل تدرك الدعم الأميركي لقسد، فيما تركيا ترفض النظام وقسد على السواء، وإن كانت التحفظات التركية على قوات النظام أقل من قوات قسد، ولكن الموقف الأميركي رافض لسيطرة قوات النظام على المنطقة ولكنها تقبل بتقاسم النفوذ بين النظام وقسد، وهو ما ترفضه تركيا والنظام، وبالتالي تعتبر الأمور معقدة في هذه الجبهة حاليا، وهي أيضا تنتظر وضوح الرؤية حول الملف السوري، والموقف الأميركي في التعاون مع تركيا قبيل عقد هذه الاتفاقات رغم أن روسيا تحاول استباق ذلك ومحاولة اللعب على هذا الهامش من الوقت.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا