في 22 مارس 2019 ظهر الرئيس الاميركي دونالد ترامب مزهوا كالطاووس ممسكا بخريطة ورقية لسورية والعراق ، وأعلن الإنتصار على تنظيم داعش ، ونهاية دولة الخلافة برئاسة أبي بكر البغدادي .
وفي 27 اكتوبر 2019 كرر ترامب ظهوره الخيلائي ليعلن اصطياد البغدادي في محافظة ادلب بغارة جوية – برية .
وتنفس العالم كله الصعداء وهو يسمع أخبار التخلص من أخطر تنظيم ارهابي ظهر في عام 2014 ، وبسط نفوذه على مساحات واسعة من غرب العراق وشرق سورية ، واقترف أبشع الجرائم والمجازر الوحشية المقززة ، في أعرق مدن الحضارة العربية – الاسلامية بين الموصل وحلب .
خلف هذه المشاهد التلفزيونية العابرة للفضاء العالمي عبر واشنطن ثمة غموض يكتنف صورة واقعية أخرى ، تتموضع على أرض الواقع ، مفادها أن “داعش” ظل يتحرك في الجغرافيا السورية طوال العامين السابقين ، بدون غياب تام ، كما زعم لاعبون متعددون ، تقاسموا “الانتصار” المزعوم على هذا ” العدو المتلون ” الذي أثبت قدرته وبراعته على الكر والفر ، والتكيف مع كل البيئات الطبيعية ، وظروف الصراع .
الدواعش : ثعالب الصحراء :
والحقيقة التي ظل الأميركيون والتحالف الدولي يحاولون إنكارها هي أن داعش قد تلقى ضربة قاصمة ، ولكنه لم ينته ، ولم يختف مطلقا ، بل أعاد بناء هياكله ، وأعاد الانتشار والتموضع والتكيف مع واقعه الجديد بعد إنهيار دولة خلافته بسرعة تفوق توقعات أعدائه ، ثم استعاد زمام المبادرة في مواجهة أعدائه الأقربين . وهو استمر في الإعلان عن وجوده من خلال هجماته هنا وهناك ، على رقعة واسعة من سورية ، بين الحين والآخر ، واتسمت هذه العودة بالتصاعد باستمرار ، عددا وقوة ونطاقا ، مستعملا استراتيجية قتالية جديدة ، تختلف عن استراتيجيته أثناء وجود ” دولته ” التي اعتمدت على التمدد أولا ، وتوسيع مساحة الدولة ، والدفاع عنها ثانيا ، حيث بلغت مساحتها 40% من إجمالي مساحة سورية ناهيك عن إقليمها العراقي . أما اليوم فهو إنما يقاتل بغرض تأكيد وجوده ، كلاعب قوي على الأرض السورية ، وحسب ، واستنزاف أعدائه ، وإثبات قدرته على الحاق الخسائر الفادحة بهم ، وتهديدهم بشكل مستمر .
وحسب (مركز جسور للدراسات) فإن التنظيم نفذ في عام 2020 ما مجموعه 726 هجوما على رقعة واسعة جدا ، تمتد بين محافظة دير الزور في أقصى الشرق ، حيث قاعدة تمركزه الرئيسية ، بعد انهيار دولة الخلافة ، والى ريف الحسكة شمالا ، ومحافظة الرقة غربا ، وصولا الى ريف حلب الشرقي وضواحي منبج ، وتمتد كذلك الى أرياف محافظتي حمص وحماة الشرقية ، كما تمتد الى درعا جنوبا ، وبشكل أقل ، السويداء ، والقنيطرة . وأمكنه قتل حوالي 700 عسكري من قوات الأسد والميليشيات التابعة لها ، وخاصة حزب الله اللبناني ، وبينهم 108 من عناصر ميليشيات ايران ، حسب احصاءات المرصد السوري لحقوق الانسان . وقتل 288 مقاتلا على الأقل من قوات (قسد) الكردية .
وفي الأيام الأخيرة من العام المنصرم 2020 ضاعف ” ثعالب الصحراء الدواعش” هجماتهم ، ووصلوا الى مناطق قريبة من شرقي حماة وحمص ، وأوقعوا خسائر فادحة بقوات ماهر الأسد ، إذ قتلوا في عمليتين متتاليتين 40 عسكريا ، وقبلها 20 جنديا ، فضلا عن عشرات الجرحى اعترف النظام بهم رسميا . وفي نفس الفترة قتل هؤلاء الثعالب جنرالا روسيا رفيعا ، يدعى فياتشيسلاف غلادكيخ في منطقة السخنة ، التابعة لحمص بواسطة عبوة ناسفة . وفضلا عن تهديده تحركات قوات النظام عبر الصحراء والبادية ، هدد التنظيم آبار النفط التي تسيطر عليها قسد بحماية قوات التحالف الدولي ، كما هدد قوافل الفوسفات العابرة للطرق والممرات الواقعة شرقي حمص ، والتي تسيطر عليها روسيا .
تقدر مساحة هذا الميدان الواسع بثمانين ألف كم2 ، تغلب عليه الطبيعة الصحراوية ، وشبه الصحراوية ( البادية المسماة بالشامية ) ، حيث يندر السكان ، وتنعدم القواعد العسكرية المستقرة لكل الأطراف بسبب صعوبة التمركز فيه . إلا أن داعش استفاد من هذه الخاصية واتخذ من الصحراء ميدانا لحركته الواسعة ، للوصول الى ست محافظات سورية مهمة ، تطبيقا لنظرية عسكرية معروفة ، سبق أن استخدمها الاسرائيليون في عدوانهم على مصر عام 1967 تقوم على فكرة (واجه قسوة الطبيعة لكي تتفادى خطر العدو) .
وبحسب المعلومات المتوفرة فإن التنظيم استخدم العوامل والأساليب التالية في إعادة بناء قوته ، وهياكله العسكرية ، وفي تكتيكاته القتالية :
1 – تقسيم قواته الى مجموعات مستقلة تتحرك وتقاتل ذاتيا بدون العودة للقيادة .
2 – اعتماد اسلوب حرب العصابات التي تقوم على مبدأ اضرب واهرب وعدم التمسك بالارض أو بموقع ثابتة .
3 – إنشاء أنفاق ودشم في قلب الصحراء ، ويقول المحلل العسكري حاتم الراوي ( إنها حفرت نفقا بطول 40 كم بين البوكمال والداخل العراقي ) .
4 – الاستفادة من معرفته وخبرته بالتحرك الليلي في صحراء مترامية تصعب الحركة فيها على القوات النظامية والآليات الثقيلة ، وعجزت روسيا عن مراقبتها جويا ، وعن التمركز فيها بسبب نقص القوات البشرية .
5 – استهداف أضعف الأعداء : قوات النظام وقسد وميليشيات ايران ، بسبب تدني إرادة القتال والمعنويات لديها .
6 – تجنب المواجهات المباشرة والمعارك الكبيرة مع قوات التحالف الدولي ، أو روسيا ، والاكتفاء بضرب الدوريات الصغيرة نسبيا .
7 – التمويه على الاعداء وتضليلهم بارتداء مقاتلي النظام ملابس رعاة الأغنام ، أو ملابس قوات النظام ، أو ملابس الميليشيات الايرانية .
8 – وجود عيون وعملاء بين سكان هذه المناطق تنقل لداعش معلومات عن تحركات قوات أعدائه .
9 – زرع الغام وعبوات ناسفة على محاور ومفاصل الطرق القليلة التي تسلكها قوات النظام وحلفائه .
10 – استهداف الموارد الاقتصادية والقوافل ، واغتيال المسؤولين المدنيين والوجهاء المتعاونين مع ايران والنظام .
داعش الجديدة : ذراع من ؟ :
عودة داعش الى ساحة الصراع ، وحضوره كلاعب رئيسي على الأرض ، وتنامي قوته بهذه السرعة ، يشكل تهديدا حقيقيا لكل الأطراف المتواجدة على الأرض ، ويثير كما يقول العميد أحمد رحال المحلل العسكري السوري أسئلة كثيرة عن مصادر قوته ومن يغذيه ، وحجم عديده ، وعن ارتباطاته وتحالفاته الغامضة التي مكنته من الصمود في وجه أعدائه ، والعودة الى ساحات القتال في هذه المنطقة الصعبة .
التحليلات والتفسيرات المتداولة حاليا كثيرة ، تبدأ من حاجة ماسة لكل القوى المتصارعة على سورية لهذا اللاعب الشيطاني ، واستعداده لأن يقدم خدماته لها ، لأن داعش ظاهرة مصطنعة ، مثله مثل تنظيم القاعدة . وهناك علاقات واضحة بينه وبين ايران دلت عليها قرينة اغتيال أحد قادته في طهران ، وكذلك بينه وبين النظام ، بل بينه وبين روسيا أيضا ، بدليل أنه لم يقاتل هذه الأطراف كما قاتل سابقا الشعب السوري وفصائل جيشه الحر المقاتلة ضد المحور الثلاثي النظام ، وايران ، وروسيا . كما إن هذه الاطراف لم تقاتله بالضراوة التي قاتلت بها قوات الثورة السورية ، ولا سيما الجيش الحر .
ويقول بعض المحللين إن عودة داعش تشير الى احتمال وقوف روسيا وراءه هذه المرة ، لاستعماله في استراتيجيتها الرامية لإضعاف الوجود الايراني ، في سياق (الحرب) غير المعلنة المشتعلة بين الحليفين للاستحواذ على مصير سورية . وتشير بنفس القدر في نظر آخرين الى احتمال أن يكون قتال هؤلاء الجهاديين المتطرفين لحساب اسرائيل ، أو حتى ايران ، فهم بلا وطنية محددة ، ولا استراتيجية ثابتة ، بل ينطبق عليهم وصف ( بنادق للايجار) ، وتنظيمهم مخترق من جهات دولية كثيرة ، بسبب اعتمادهم على متطوعين مجهولين النسب والخلفية والهوية يأتون من كافة اصقاع العالم ، بدون معايير ، سوى زعم الايمان بالاسلام ، ودعمهم لعقيدة التنظيم العالمي الذي صار له وجود في عشرات الدول وقارات اوروبا وافريقيا وآسيا واميركا . ويشير العديد من الباحثين المختصين بالجماعات الجهادية الى أن تنظيم الدولة – داعش في تجربته الأولى بين 2014 – الى 2020 ، هادن جميع الاطراف باستثناء الثوار السوريين فقد ظل يقاتلهم طول الوقت ، وبلا رحمة ، وهاجم الحاضنة المجتمعية الاسلامية (السنية) أكثر مما فعل مع أعدائه المزعومين ، كالايرانيين والشيعة والعلويين والكرد . وهو مسؤول عن استهداف قوات وفصائل الجيش السوري الحر من ظهره ، وجره الى حروب جانبية واستنزافه . وبينما هاجم تركيا وفرنسا وبريطانيا لم يهاجم ولا مرة ايران ، أو روسيا !
ويشير بعض المحللين أخيرا الى علاقة موجة التصعيد في سلوك الدواعش على المسرح السوري بتصعيد بقية الدواعش على امتداد المسرح العالمي ، من أفغانستان ، الى اليمن ، ومن ليبيا الى نيجيريا .. إذ يريد هذه التنظيم الذي ورث زعامة التطرف الجهادي عن تنظيم القاعدة القول للعالم كله إن ترامب خدعكم بقوله إنه اجتث جذور تنظيم الدولة ، لأننا ما زلنا اقوياء ، ونتمدد ونتوسع ، ونضرب بدون قدرة لأعدائنا على التصدي لنا !
المصدر: المدار نت