حيث توجهنا بالنظر عبر عام 2020، فإن عيوننا تقع على آثار كارثية، أوقعها فيروس «كورونا» في العالم من حولنا، والكلام في هذا الجانب، لا يتصل بالبلدان القليلة النمو أو في البلدان الفقيرة، إنما يتجاوزها إلى البلدان المتقدمة والأكثر تقدماً، بما هي قادرة عليه من جذب الأنظار والاهتمام، في حين البلدان الفقيرة أو قليلة النمو أبعد عن المتابعة لبؤس واقعها، وضعف احتمال التغيرات غير المتوقعة فيها.
واحتلت الولايات المتحدة مكانة أولى في قائمة البلدان المتقدمة التي أصابها فيروس «كورونا» في العام الماضي، ثم تليها من الدول المتقدمة بريطانيا وفرنسا وألمانيا ودول أوروبية أخرى، قبل أن يصيب «كورونا» الصين عملاق العالم، التي ركز كثيرون على قول، إن دورها كان أساسياً في كارثة «كورونا»، حيث انطلق وحشه من إحدى مدنها، ولو أن ذلك يبدو بمثابة أسطورة متواضعة عصية عن الثبات في ذاكرة إنسان القرن الحادي والعشرين.
المهم في الآثار الكارثية، التي سببها فيروس «كورونا» في هذه البلدان، أنها شملت كل مناحي الحياة في المستويين العام والخاص. وباستثناء ما تركه من فقد وألم كبيرين، فإنه فرض تغييرات في طبيعة العلاقات وأشكال التواصل الاجتماعي بين سكان تلك البلدان في كل وحداتهم الاجتماعية، ورغم أن البعض في هذه البلدان، ما زال يرفض التباعد الاجتماعي أو يحتج ويعترض عليها، فإن القسم الأكبر من السكان، جعلها أساساً في سلوكه اليومي، أو أنها صارت جزءاً من تطبيقات الحياة اليومية، وكانت إلى جانب الحجْر العام الذي تكرر في ثلاث تجارب متوالية، سبباً في تغيير طبيعة العمل سواء لجهة توقفه، وسيرورة أصحابه إلى بطالة، أو تغيير مكانه بانتقاله إلى عمل من البيت، وفي كل الحالات تغيرت ملامح الحياة في ارتباطها بما حدث من تحول، فانخفضت مداخيل أو غابت أو تغيرت طبيعتها، وحدث تغيير في أولويات الإنفاق والاهتمامات.
وإذا كانت تداعيات «كورونا» على سكان بلدان متقدمة بهذا المستوى، فإن تداعيات الفيروس على حكومات تلك البلدان كانت أوسع، ليس فقط للارتباط العميق بين تلك الحكومات وشعوبها، حيث الأولى ناتجة من صندوق انتخابات الثانية، بل لأن للحكومات مسؤوليات اجتماعية تجاه مواطنيها في إطار مسؤولياتها العامة الأخرى، وكون آثار «كورونا» تضرب في المساحة الجغرافية والبشرية العامة للبلاد، فإن حمل المسؤولية الاجتماعية كبير، خاصة أن نتائجه في هذا الجانب، تتزامن مع نتائج أخرى في ترديات الأنشطة الإنتاجية والخدمية، وبالتالي انخفاض العائدات الناجمة عنها، وثمة حادثة عشتها في لندن ذات مساء من أبريل (نيسان) 2020 لها دلالة ذات معنى. ففي واحدة من ساحات لندن التي تصل بين أربعة مفارق لشوارع رئيسية بمنطقة الوسط، لم يكن هناك غيري لنحو ربع ساعة، وهو ما أعتقد أنه لم يحدث من قبل.
ومما لا شك فيه، أن دول العالم الأخرى، عاشت تفاوتاً في تعاملها مع «كورونا» وتداعياته على السكان وحكوماتها في آن معاً، وكل واحدة من الحكومات اتبعت سياسات أقرب إلى روحها وقدراتها وموقعها وعلاقاتها مع المجتمع، فاتخذت سياسات تراوحت بين الأفضل وصولاً إلى الأسوأ في تلك العلاقات، غير أن حالة الأسوأ في عموم البلدان لا تتماثل ولا تتقارب مع الأسوأ في بلد مدمر، وقد صارت البلدان المدمرة، وإن اختلفت مستويات تدميرها ظاهرة في عالمنا المعاصر.
ففي عالم اليوم، صارت البلدان المدمرة تشكل بقعاً ظاهرة على خريطة العالم، لكن الكثافة الأشد والأوضح في الظاهرة، تتموضع في جنوب غربي آسيا، ممتدة من أفغانستان مروراً إلى العراق، ثم سوريا وبعدها لبنان شاملة ثلاثة من بلدان المشرق العربي، التي تصل بين البحر المتوسط وإيران، وهي جزء من طريق تسعى فيه إيران للوصول إلى اليمن على زاوية التقاء البحر الأحمر مع خليج عدن.
ورغم الاختلافات البينية في واقع تلك البلدان، فإن فيها كثيراً من التشابهات؛ فكل واحد منها يتمتع بمزايا تجعلها جاذبة من طراز قدرات العراق، وموقع سوريا ولبنان واليمن، وكلها تجذب اهتمام إيران؛ مما جعل الأخيرة مهتمة بحضور قوي فيها مباشرة أو عبر وكلاء لها، وغالباً بالمزاوجة بين الحالتين لضمان السيطرة عبر التدمير، كما يحدث في بلدين دمارهما ساخن هم سوريا واليمن، وبلدين دمارهما متواصل هما أفغانستان والعراق، وبلد يجري تدميره بأقل قدر من الضجيج وبلا استخدام مباشر للسلاح هو لبنان، عبر تحالف يديره سلاح «حزب الله» اللبناني ذراع إيران القوية في لبنان والمنطقة.
في هذه البلدان المدمرة نتيجة تدخلات إيران وميليشياتها، بالتحالف مع فئات حاكمة مرهونة لسلطة الملالي في إيران، يظهر وجود «كورونا» باعتباره إحدى قوى التدمير، لا باعتباره فيروساً ممرضاً، بل إن تداعياته لا تتماثل مع تداعيات مثيله في البلدان المتقدمة، وهو واقع يستند في الأهم من أسبابه إلى التفاوت بين حالتي البلدان المتقدمة والبلدان المدمرة.
إن مؤشرات ظاهرة الدمار، تبدو في واقع العنف ضد السكان الذي يولد قتلاً واعتقالاً وتشريداً وتهجيراً لأعداد كبيرة من السكان طبقاً لمستويات العنف، وبين مؤشراتها الفقر والجوع والبطالة في بلدان، تملك قدرات وإمكانات، يمكن أن تعيش عليها ومنها أعداد مضاعفة من السكان، كما يظهر في مثالي العراق وسوريا. ولعل الأهم في مؤشرات ظاهرة دمار هذه البلدان، هو سياسات السلطة الحاكمة، التي تحرص على استمرار سياسات، أدت إلى ما صارت الأمور عليه تحت شعارات كاذبة ومضللة، عن استقلال تنتهكه بتسليم البلاد إلى أعداء، صاروا في عداد المحتلين وناهبي الفئات الأوسع من الشعب، وعن مقاومة لدول وقوى، تسعى حكومات الدول المدمرة لاسترضائها بكل الطرق والأساليب للقبول باستمرار بقائها في السلطة على ركام ما تبقى من الشعب والبلاد، من دون أن ترف جفونها إزاء كل ما يبدو من مظاهر تدهور وبؤس، فيما صارت إليه حالة البلاد وسكانها الذين غالباً ما تقوم تلك الحكومات بتحميلهم مسؤولية ما آل إليه الحال.
إن نسق ومحتوى سياسات حكومات البلدان المدمرة، جعل من الأخيرة تختط نهجاً مختلفاً في التعامل مع وصول فيروس «كورونا» إلى تلك البلدان، فأدخلته في سياق سياساتها، بل وفي أدواتها من أجل مزيد من التحكم والسيطرة، ومن هذه الزاوية يمكن ملاحظة سياسة التعتيم والتكتم المحيطة بواقع انتشار «كورونا»، والتي وصلت إلى حد الكارثة في تلك البلدان، مثلما تبين التسريبات والمعلومات غير الرسمية، كما أن الحكومات لا تتحرك لإنهاض سياسات صحية، ولا تعمل من أجل ترميم أنظمة وهياكل صحية مدمرة وعاجزة، ولا تتخذ أي خطوات من شأنها الإيحاء بأن ما يحدث من اجتياح لـ«كورونا»، يستحق اهتماماً من جانبها.. إنها باختصار شديد، لا تجاوز في سياستها حيال «كورونا» وتداعياته، فكرة أن «كورونا» وجه الكارثة في بلد مدمر.
المصدر: الشرق الأوسط