من المعروف أن المنطقية والانسجام ليسا عنصرين أساسيين في الأداء السياسي، وإلا كنا رأينا مثلًا السياسة الأميركية منسجمة مع إعلاناتها التي تدافع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان؛ فمحرك هذه السياسة، وسياسات الدول جميعها، هو المصالح بصورة رئيسة، مصالح شعوبها أو النخب السياسية والاقتصادية المتنفذة فيها، وهذا ليس جديدًا. لذلك لا تجد الدول حرجًا في أن تكون مواقفها متغايرة إزاء قضية واحدة، أو متبدلة عبر الزمن، مثل قضية حقوق الإنسان التي يختلف التعاطي مع انتهاكها بحسب المصلحة والزمن وطبيعة الدولة التي انتهكتها.
لا تجد الدول نفسها معنية بتحقيق الانسجام بين مواقفها عبر الزمن، ولا بالحرص على أن تكون مواقفها منطقية، لكنها تبذل جهدها لتغطية مواقفها بأغلفة منطقية أو لتصديرها بطريقة تبدو منطقية عن طريق التلاعب بالألفاظ والمفردات، وأحيانًا بالقانون الدولي. هذا أمر معروف ومفهوم على مستوى العلاقات الدولية والدبلوماسية. في المقابل، تشيع في السياسة الدولية اتهامات الدول لبعضها بعضًا باتباع سياسة الكيل بمكيالين، مع أنها كلها تكيل بألف مكيال. يعني ذلك أن العين السياسية للدول، تاريخيًا وواقعيًا، هي عين عوراء، لكنها عين طبيعية، ومنسجمة مع طبيعة عمل السياسة الدولية، أما اتهامنا للسياسة الأميركية أو غيرها بأنها تكيل بمكيالين، فهو اتهام بديهي، ساذج، يسوقه غالبًا الضعيف والعاجز في وجه القوي والقادر.
لا تقتصر العين السياسية العوراء على ميدان العلاقات الدولية، بل تتجاوزها إلى ميدان القوى السياسية والسياسيين الأفراد الذين يقرؤون ويحلِّلون الواقع والحوادث السياسية؛ إذ تفتقر المواقف السياسية التي تعلن عنها القوى والشخصيات السياسية كتابة، أو تصوغها في بيانات سياسية، أو تبثها في وسائل التواصل الاجتماعي، أو تتحدث عنها في حوارات مغلقة أو مفتوحة، إلى المنطقية والانسجام؛ انسجام المواقف وتكاملها عبر الزمن، منطقية التحليل أو القراءة السياسية.
يمكن فهم وتفسير التناقضات على مستوى الأفراد العاديين، الذين يستندون، عمومًا، إلى الحدس والمباشر والآني والجزئي والمعلومات البسيطة والانطباعات السريعة، في قراءة الواقع وبناء مواقفهم إزاء الحوادث السياسية. أما العين العوراء على مستوى المثقفين وقارئي، فهي معيبة حقًا. هنا تلعب عوامل كثيرة في شيوع اللامنطق واللانسجام، لأن العين السياسية العوراء تشتغل، عادة، بدلالة المصلحة الشخصية أو الفئوية أو بدافع الأيديولوجية أو الانتماء، وفي أحيان كثيرة من وحي نقص الوعي أو سيطرة الأوهام والمخاوف والوساوس على أصحابها. الخطير في الأمر هو أننا عندما نقرأ ونحلِّل السياسات، ونتخذ المواقف السياسية بعين عوراء، نكون حكمًا أمام نصف أو ربع حقيقة، وأحيانًا أمام تزوير صارخ.
من خصائص العين العوراء أنها، بقراءة بسيطة أو متسرعة، تمسك بقضية ما، وتجعل منها قضيتها “المركزية”، فلا تعود ترى شيئًا غيرها، لتغدو منطلق التحليل ومستقره، ويصبح كل ما يحدث في الواقع مرهونًا بهذه القضية. لذلك، فهي مغرمة، عادة، برفع قضية أو حدث أو ظاهرة ما إلى الرتبة الأولى، وقد يكون هذا صحيحًا في لحظة ما، لكن العين السوية لا تكتفي بذلك، بل ترى ارتباطات القضية “المركزية”، إن كانت كذلك فعلًا، بالقضايا الأخرى.
في بعض الأحيان، ترفع العين العوراء قضيتها “المركزية” إلى مصاف المقدس. هكذا تعاملنا مع القضية الفلسطينية مثلًا، حكومات وتيارات سياسية وثقافية، إلى درجة لم نعد نرى قضية سواها. قد يكمن السر في نقص الوعي، لكن السبب يعود أحيانًا إلى وجود نية قصدية ورغبة أساسية في تضليل الآخرين، تهدف إلى التغطية على القضايا الأخرى أو حجبها أو التقليل من أهميتها أو مصادرتها نهائيًا. في المقابل، هذه العين العوراء نفسها، في لحظة أخرى، عندما اكتشفت التضليل الذي تعرضت له، ركلت القضية المقدسة نفسها، ولم تعد تراها أبدًا، ورمت بها إلى مصاف المدنس. هكذا تعاملت العين العوراء فعلًا مع القضية الفلسطينية، مرة بالتقديس، وأخرى بالتدنيس. يبدو من العسير على العين العوراء أن ترى أي قضية ما، مثل القضية الفلسطينية، في ارتباطاتها المعقدة، ومن دون جعلها قضية وحيدة، مقدسة أو مدنسة.
كذلك، إن جعل قضيتنا المركزية “إسقاط النظام السوري” على طريقة ومنطق العين العوراء، قد ساهم في تصدير وتعميم رؤية سطحية وسريعة تتمثل بإسقاطه الآن وسريعًا ودفعة واحدة، وبأي طريقة، ما أدى واقعيًا إلى اتخاذ خيارات سياسية خاطئة غير محسوبة العواقب، ساهمت هي الأخرى نفسها في إبعاد الهدف عن التحقّق أكثر من ذي قبل. لقد قادت العين العوراء كثيرين منا، بدافع من الاقتناع بالقضية “المركزية”، إلى التغطية على التطرف الذي أخذ ينخر جسد الثورة السورية، وأحيانًا إلى التحالف مع قوى متطرفة يمكن أن تسهم، وفق حساباتهم، في إسقاط النظام. هذه عين سياسية عوراء لم ترَ ما يمكن أن تفعله القوى المتطرفة تدريجيًا، أكان لجهة عزل القوى السياسية والمدنية عن الفعل والتأثير، أو لجهة التهام المجتمع السوري جنبًا إلى جنب مع النظام، بتنسيق مشترك أو من دونه، أو لجهة تغيير صورة الثورة في الرأي العام، عربيًا وعالميًا، أو لجهة إمكانية بناء نظام ديمقراطي على أنقاض نظام الاستبداد. أيضًا، التحليل الذي يقوم على أساس أن المسار الكارثي لثورتنا سببه “غدر” الدول بها فحسب، هو تحليل خاطئ، ورؤية بعين عوراء تعفينا من المسؤولية، وتمنعنا من رؤية تقديراتنا الخاطئة، وخياراتنا الساذجة، وتعفينا من المراجعة والنقد والتصحيح.
في المقابل هناك من جعل من التطرف وتعبيراته التنظيمية، (داعش) و(النصرة) وأشباهها، قضيته الرئيسة أو “المركزية”، وما عاد قادرًا على رؤية أي قضية أو مهمة أخرى، أو على تحليل أسرار وأسباب نمو التنظيمات المتطرفة نفسها، ولا على قراءة دور النظام السوري، وأدوار الأنظمة الأخرى، العربية والإقليمية والدولية، ولا أخذ الأبعاد السياسية الاقتصادية للتطرف، ولا أبعاده التاريخية الثقافية، في الحسبان. هذه الرؤية العوراء قد يكون سببها خلل الرؤية فعلًا أو وجود رغبة خفية باصطناع قضية “مركزية” أخرى تغطي على العجز إزاء قضية أخرى، أو ربما بقصد التضليل والتغطية على قضايا أكثر أهمية، أو بحكم الخوف من الحديث بشأن قضية من القضايا، أو انطلاقًا من دوافع أيديولوجية ودينية ومذهبية… إلخ. ليس من العسير أن ترى سياسيًا أو مثقفًا يرفض ما يقوم به (داعش) و(النصرة) وغيرهما، لكنه يقبل ما تقوم به جماعة (الحشد الشعبي) و(عصائب أهل الحق) وغيرها، والعكس وارد أيضًا.
لا توجد قضية تُقارب بمنطق العين العوراء مثل قضية الإرهاب والتطرف، حيث الجميع ينفي الصفة عن نفسه ويُلحقها بالآخر، على الرغم من أن الأكثرية، عمومًا، من الدول والحكومات والتنظيمات السياسية والسياسيين ورجال الدين والمثقفين… إلخ، بطريقة أو أخرى، قد مارست التطرف والعنف والإرهاب بأشكاله المادية أو المعنوية، العالية أو المتدنية؛ بعضنا يربط الإرهاب بالدين، ويعمل على تصدير رؤية نمطية للإرهاب تكتسي لبوسًا إسلاميًا صرفًا، وبعضنا يحصره بالأنظمة الاستبدادية والشمولية، وبعضنا بسياسات الدول الكبرى ومصالحها الاقتصادية، وبعضنا لا يرى إلا البعد الميكانيكي للتطرف والإرهاب، أي العنف المباشر، ولا يرى الجذر الثقافي للعنف، وبعضنا لا يرى العنف اللفظي الذي يمارسه سياسيون ومثقفون وغيرهم، والذي قد يؤسس لعنف من نوع آخر، … إلخ. في اعتقادي، ليس من الصعب رؤية كل جوانب الإرهاب وأشكاله، واتخاذ موقف مبدئي ونهائي من ممارسة العنف بدرجاته ومستوياته كلها، لكن هذا يحتاج إلى نبذ منطق العين العوراء أولًا.
يرتبط بالعين السياسية العوراء مجموعة من العلامات الدالة؛ فالعين العوراء، عدا عن الرؤية بعين واحدة، مغرمة بالمهمة الوحيدة والعدو الوحيد والقضية الوحيدة… إلخ، ولا تستطيع أن ترى وجود مهمات وقضايا عديدة في الوقت نفسه، ولا وجود أعداء وأصدقاء عديدين؛ استنفر “المجلس الوطني السوري” مثلًا لأجل مهمة وحيدة هي جلب التدخل العسكري لمصلحة الثورة وضد النظام، وسار في أدائه السياسي على عكازة واحدة، هذا إن كانت عكازة صحيحة أصلًا، على الرغم من وجود مهمات عديدة كانت في انتظاره، وعمل “الائتلاف الوطني” هو الآخر من أجل مهمة وحيدة هي “السلاح وتحقيق الانتصار العسكري”، وعندما كُشف وهم وخطل هاتين المهمتين، أصبحت قيمة كل من المجلس والائتلاف صفرًا، كونهما لم يُنجزا أي مهمات أخرى. الأمر نفسه ينطبق على “الهيئة العليا للمفاوضات” و”اللجنة الدستورية”، والتشكيلات السياسية الأخرى.
عندما نقرأ البيانات السياسية للقوى والأحزاب السياسية، سوف نكتشف ندرة وجود الموقف السياسي المتوازن الذي يتوافق مع العقل من جهة، ويبتعد من سياسة الكيل بمكيالين من جهة ثانية، وتخف فيه الشحنة الأيديولوجية والشعاراتية من جهة ثالثة، ويمتاز ببعد النظر السياسي من جهة رابعة، وبالمسؤولية والرزانة من جهة خامسة، هذا إن لم يكن المطلوب فعلاً أكثر من ذلك، بخاصة لجهة حضور الروح الوطنية السورية جلية، ومن دون تردّد. معظم البيانات السياسية ترى بعين عوراء، تقارب قضايا وحوادث واحدة أو متشابهة بمواقف سياسية مختلفة ومتضاربة.
من السهل جدًا اكتشاف التناقضات في رؤى/مواقف القوى السياسية والمثقفين، خلال مدة زمنية قصيرة، ولا أسهل من اكتشاف سياسة الكيل بألف مكيال لدى معظمنا، وكثيرون منا يجدون أنفسهم غير معنيين بتحقيق الانسجام أو التكامل فيما بين الرؤى/المواقف المتنوعة والعديدة. هذا يحدث فعلًا على مستوى قضايا أبسط أيضًا؛ عندما تشتغل العين العوراء مثلًا في حيز تقييم البشر تنتج الكوارث، ربما تختزل الفرد إلى أحد أبعاده، الانتماء الطائفي أو الإثني، أو تختزله في حدث أو لحظة ما، أو في موقف إيجابي أو خاطئ ما، ولا ترى مسار الفرد في كليته، وبعضنا إذا رأى نقطة إيجابية أزاح بصره عنها، وإذا سمع بسيئة التقطها ونشرها سريعًا، ولذلك تكون كل تقييمات وأحكام العين العوراء ضالّة أو مضلِّلة.
المصدر: المدن