تقوم المواطنة في جوهرها على الحق الإنساني بالمشاركة المتساوية في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها، دون تمييز بين أفراد المجتمع الأحرار على أساس العرق أو الجنس أو الدين أو غيرها من أشكال التمييز القديمة منها أو الحديثة.
لم يكن الحقل التربوي بعيداً عن تجليات مفهوم المواطنة، بل كان في صلب اهتماماتها، إذ تنهض المؤسسة التعليمية بدور تربية الإنسان (خُلقيًا واجتماعيًا وجماليًا وسياسيًا وثقافيًا)، من ثَمَّ تشارك في صوغ موقفه العام أو الكلي من الحياة، وآلية تفاعله الإيجابي معها، فلم تعد مهمة المدرسة أو المؤسسة التربوية تنحصر في تقديم المعلومات والأفكار، أو بعض المهارات الحياتية، بل تهدف أيضًا إلى إعداد الشخصية الإنسانية القادرة على فهم الحياة، وإدارتها بطريقة إيجابية فاعلة، وهو ما أصبح يطلق عليه اليوم اسم المواطنة.
وهكذا أضحى مفهوم المواطنة مفهومًا كونيًا معترفًا به عالميًا، إذ تحاول الدول المتحضرة إرساءه بوسائل عدة، ولعل أكثرها أهمية التعليم، فذلك مردّه دور التربية والتعليم في بناء الإنسان كي يكون فاعلًا مبدعًا في حياته الفكرية والاجتماعية، وقادرًا على التكيف الاجتماعي ككل متكامل، ولا سيما مفهومات العيش المشترك، والاعتراف بالآخر وغيرها.
لا شك أن التعليم يمثل انعكاسًا للنظام السياسي الذي يحكم المجتمع، سواء أكانت طبيعته ديموقراطية تخلق الانسان الحر القادر على التفكير النقدي، أم كانت طبيعته استبدادية تخلق العبيد الذين تسودهم روح القطيع التي تحول القائد إلى رمز نحرق البلد من أجل عيونه.
اللامواطنة أو الاستبداد التربوي في سوريا:
حجّمَ النظام الاستبدادي التربية لتتناسب وأهدافه التسلطية، وحول المدرسة إلى آلة دعائية تعبدية باسمه، ووجه المنظومة التربوية لتكون مُخرجاتها أداة أخرى في ترسيخ واقع القهر والحرمان في فضاءات المجتمع كله، فتحولت قيم التعليم الإنسانية العليا في المناهج المدرسية إلى قيم الاستبداد والتربية عليه، وصناعة الولاء الأعمى لرموزه، فبني النسق التربوي بمكوناته كلها، الفكرية والسلوكية، من أجل هذه الغاية.
لا تنفي الأنظمةُ الاستبدادية قيمَ المواطنةِ كليًا، وإنما تحاول أنْ تستغلها، وتلتف على مفهوماتها المدنية والديموقراطية، وتدلس مضامينها، وتشوه المعنى الحقيقي لها، ليكون ملائمًا لغرس أيديولوجيتها الاستبدادية، فتتحول المواطنة من تنشئة المواطنين الأحرار إلى تنشئة الرعايا والعبيد، ومن انتماء إلى الوطن -بصرف النظر عن الجنس أو العرق أو الطائفة- إلى انتماء إلى رمز الوطن: القائد الذي صنع هذا الوطن.
بعد الانقلاب العسكري الذي قام به حافظ الأسد 1970م، برزت الحاجة إلى أيديولوجيا ترسخ النظام القائم، فكان لا بدّ لهذا النظام السياسي الجديد من نسق تربوي يستند إلى التربية على الاستبداد، بحيث تكون مخرجاته أداة فعّالة في تكريس الواقع الجديد في قطاعات المجتمع كلها.
اعتمد النظام الأسدي في بناء المنظومة التربوية على التصورات الأيديولوجية القومية والوطنية لتكريس مشروعيته السياسية، كالدفاع عن الأمة والوطن، ومصالح الطبقات الكادحة ومقاومة الاستعمار، وتحقيق الوحدة الوطنية، ولم تكن مادة التربية القومية الاشتراكية، أو التربية الوطنية لاحقًا، تجسيدًا لهذه التصورات الأيديولوجية فحسب، وإنما بنيت المناهج الدراسية كلها في المراحل التعليمية الأخرى لتحقيق هذا الغرض.
لمادة التاريخ أو الدراسات الاجتماعية خصوصيةُ في رسم تلك التصورات الأيديولوجية وتجسيدها؛ إذ استخدمت أداة قوية في محوِ ذاكرة المجتمع السوري السياسية، ليُختزل معظم التاريخ السياسي العريق لسورية إلى مقدمات لولادة القائد الرمز، أو القائد البطل، أو الرئيس الأبدي الخالد، سياسيًا، أو الفلاح الأول، أو العامل الأول، أو الإطفائي الأول، أو المعلم الأول وغيرها.
ولضمان تكريس قيم الاستبداد، لم يكتفِ النظام الأسدي بعسكرة التعليم ابتداءً من اللباس المدرسي العسكري إلى أسوار المدارس التي كانت أشبه ما تكون بأسوار السجون العالية، وصولًا إلى وجود مادة التربية العسكرية التي تكرس مفهوم التسلط الآمر، بل تعدى الأمر ذلك إلى إحداث منظمة طلائع البعث للمرحلة الابتدائية، ومنظمة شبيبة الثورة للمرحلتين الإعدادية والثانوية بوصفهما منظمتين سياسيتين لتربية النشء على ثقافة قومية اشتراكية تستمد عقيدتها من أفكار القائد وحزب البعث، غايتهما صنع الانتماء إلى القائد رمز الوطن بدلًا من الانتماء إلى الوطن.
وعلى الرغم من التغيرات الشكلية التي لامست التعليم -مع مجيء الأسد الابن- ومنها إلغاء اللباس المدرسي العسكري، وإلغاء مادة التربية العسكرية، فإنّ بنيةَ التعليم لم تتغير في ترسيخ قيم الاستبداد، والتربية عليه في مفاصل العملية التعليمية كلها. والتي تحولت في الفترة الأخيرة من تجديد الولاء إلى تأصيل أخلاق الطاعة من جديد في نفوس السوريين بعد أن خرجوا على سلطته الدكتاتورية، فهذه المناهج تؤكد في كل مرة من تجديدها على أن المواطنة لا يتعدى حضورها الناحية الشكلية المرتبطة بالجانب الدعائي للأسدية على المستوى المحلي والدولي.
التربية على المواطنة بديلاً من التربية على الاستبداد:
ليس مصادفة تاريخية أن تنخرط سوريا في الربيع العربي، وأن تتحول قيم المواطنة ومبادئها في الحرية والكرامة وحق المواطنين جميعهم في الوطن، إلى شعارات
ومُثل وقيم تنادي بها الثورة السورية في الحياة السياسية والاجتماعية، ولم تكن مبادئ المواطنة وقيمها حاضرة في فكر الثورة السورية إلا لتغيير الواقع القائم على التمييز، والإقصاء، والقهر، والظلم، والعبودية، هذا الواقع المفروض على السوريين منذ عقود.
إن التربية المضادة للتربية على الاستبداد هي التربية على المواطنة، لما لها من أهمية رئيسة في بناء المجتمع الديمقراطي، ومن المؤكد أن التربية على المواطنة تعد الحجر الأساس في بنائه، إذ لن يتحقق المجتمع الديمقراطي من دون وجودها، لأنها الأداة الصلبة والموثوقة في الوصول إليه.
أولى خطوات التربية على المواطنة هي عدم اعتماد مقرر دراسي نظري مخصص لقيم المواطنة، يُدرس كما تُدرس المناهج الدراسية الأخرى، بمثل التاريخ أو الجغرافية أو حتى التربية الوطنية، وهي العادة المتبعة في المناهج الدراسية الحالية في عدد ليس بقليل من دول العالم، لأن الكتاب المدرسي، المنوط به القيام على زرع هذه القيم الوطنية، يستخدم في هذه الدول لتقديم معلومات عن الحياة السياسية، وطبيعة النظام السياسي الحاكم في هذا البلد أو ذاك، وهو ما جعله في أغلب الأحيان دعاية للنظام السياسي، وأداة قوية لتكريس أيديولوجيته في المنظومة التعليمية والتربوية.
أما الخطوة الثاني فهي اعتماد مفهومات المواطنة وقيمها جزءًا أساسًا في استراتيجيات التعليم الرئيسة المعرفية في اكتساب المعرفة والفهم والتفكير النقدي، والاجتماعية والعاطفية في الانتماء إلى الإنسانية، وتبادل القيم والمسؤوليات واحترام الاختلاف والتنوع الثقافي، أما السلوكية فتتجلى باتخاذ إجراءات فعالة ومسؤولة على المستويات الوطنية والعالمية من أجل عالم أكثر سلمًا.
الخطوة الثالثة هي تنفيذ التربية على المواطنة في البيئة المدرسية من خلال خطة دراسية متكاملة ووفق خطوات دقيقة، أولاها النشاط الصفي الذي يستعين بالمناهج الدراسية، ويبنى في الأساس على طرائق التدريس المعاصرة كالتعليم التعاوني، والتعليم الذاتي، والتي يتحول فيها المعلم من ملقن للمعلومات إلى ميسر ومحرض لها، ثم يكملها النشاط اللاصفي بنشاطات مثل النشاط الذي تقيمه المدرسة كالمسرحيات، أو المعارض أو الإذاعة المدرسية، وذلك كله وفق خطة قيمية تسعى إلى تضمينها في النشاط المدرسي.
الخطوة الرابعة والأخيرة فهي أن التربية على المواطنة لا تحقق أهدافها المنشودة في بناء المجتمع الديمقراطي، من دون عملية إشراك المجتمع المحلي المرتبط بالمدرسة كأولياء التلاميذ مثلًا، لذلك لا بد من اطلاعهم على الخطة القيمية والتعليمية، مع التأكيد على أنهم شركاء في هذا النمط من التربية، من أجل أن يتكرس في وعي التلاميذ فكرًا وممارسة داخلَ المدرسة وخارجها.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا