
لا يخشى كاتبُ هذه السطور غيابَ مُفردة الديمقراطية عن الحياة السياسية السورية هذه الأيام، ولكن يخشى فقدانها أثناء الانشغال بتملُّق الهويات الدينية، والطائفية، والقبلية. ولا أتصوّر أن علينا أن نخشى على الديمقراطية من الدين، أو الطائفة، أو القبيلة؛ بل من أدلجة الدين، وتسييس الطوائف، واستعارة منهج القبيلة في السياسة. نخشى عليها من الراياتِ المؤدلجة المرفوعة في ساحاتٍ أنتجتها الثورة بالتفكير، واليوم يُعاد إنتاجها بغياب التفكير. تُولَدُ الخِشيَة في هذه المنطقة السوداء التي صارت مرئيةً أكثر، حيث يمارسُ “لبَّاسو العُبي” سحراً عجيباً يصير معه كلُّ شيءٍ خارج العباءة نوعاً من الإغواء، بما في ذلك الديمقراطية، خصوصاً أن “الشيخ الأصيل” لا يتم إغواؤه، والعباءة تجعل رأسه ثقيلًا جداً، وحركته صعبة إن أراد أن يُغيِّر اتجاه نظره؛ فعند “الشيوخ” إيقاعُ الحياة نمطي، وإيقاعُ الزمان رتيب، ومع ذلك الحياة صاخبة ومليئة بالكلام، والقصص، والتشويق، والفخر. كلُّ هذا ساحرٌ وجاذب، ولكن لا طعم له من منظور التأسيس الديمقراطي، ولا لون. ما ينبغي أن نخشاه، ونتوقف عنده بحق، تَحوُّل الديمقراطيين إلى المشيخة فيما يبدو كأنه قلبٌ للمسار: يعني بدلاً من أن ننجز التحوُّل إلى الديمقراطية، صرنا نعمل في اتجاه تحوُّل الديمقراطيين إلى شيوخ!
في رواية “سمرقند” لأمين معلوف شخصية مدروسة بعناية فائقة الروعة والجمال، اسمها شيرين، وكأن الكاتب أرادها مشتركةً بين الزمان الذي عاش فيه عُمر الخيام أحد أهم أبطال الرواية التاريخيين والعصر الحديث للرواية الذي فيه مخطوطة الرباعيات، وأفكار جمال الدين الأفغاني، وبنجامين، وتايتانيك، في ذلك الحين. وفي رسالةٍ كتبتها شيرين عن ثورة إيران الدستورية التي وقعت بين عامي 1905 و1911، تقول بروحية الشخصية التي تقف على جسرٍ في الزمان: “بلاد فارس مريضة، وعند سريرها عددٌ من الأطباء، عصريين وتقليديين، وكلٌّ يعرض أدويته، والمستقبل رهن بمن يفوز بالشفاء. إذا انتصرت هذه الثورة كان على الملالي أن يتحولوا إلى ديمقراطيين، وإذا أخفقت وجب على الديمقراطيين أن يتحوّلوا إلى ملالي” (انتهى الاقتباس).
يمكن، من منظورٍ سوري راهن، أن نفهم الكثير من عبارة شيرين القصيرة، وهنا أمران: أولاً، أن هذا التحول، من ملالي إلى ديمقراطيين، أو العكس، يرتبط بانتصار الثورة أو إخفاقها؛ فمن جهة، تَحوُّل الملالي إلى ديمقراطيين مؤشّرٌ على انتصار الثورة والعكس. ومن جهةٍ أخرى، تحول الديمقراطيين إلى ملالي مؤشرٌ على إخفاقها، والعكس. وثانياً، تُشكِّل هذه الجملة الرائعة مساحةً واسعةً للتفكير في ظاهرة طغيان الرغبة في الحكم، على الرغبة في الوطن؛ فالتحوُّل في الشخصية بين المُلّا والديمقراطي يتبع بالضرورة التحوّلات التي تحدُث في معايير انتصار الثورة وإخفاقها، وفي ميزان القوة. ويكون هذا التحول، في حالات كثيرةٍ، متداخلاً مع مفهوم التأقلم؛ فيمكن أن تُحرِّكه المصلحة الشخصية المحض، ولا يكون أكثر من تهيئة النفس لتكون انتهازية، تريد “منصباً” يحقق لها القرب من السلطة. وهذا ما أشار إليه معلوف في موضعٍ آخر من الرواية نفسها بوجهٍ مباشر حين قال عُمر الخيام: “المزايا المطلوبة لتولي الأحكام غير المزايا المطلوبة للوصول إلى سُدَّة الحكم”. من دون مواربة، ما يمكن أن يخشاه المرء في سورية أن تتباعد المزايا المطلوبة لتولي الأحكام عن المزايا المطلوبة لتولي سُدَّة الحكم، وتمتلئ السلطة بالمتملقين، وأصحاب العُبي الحديثة بعد أن تحوّلوا من ديمقراطيين إلى ملالي.
سوريون كثيرون مِمَّن كانوا حريصين على تقديم أنفسهم “ديمقراطيين” أثناء الثورة يتبنون اليوم مقاربات الطائفية لفكرة الديمقراطية في توليفة غريبة عجيبة
ولنكون مباشرين أكثر، نناقش في هذا السياق نفسه ظاهرتين، ثقيلتي الظل، ولكنهما موجودتان في سورية الآن: الأولى نسميها حرمان الديمقراطية من حاملها “السُني”، والذي يساوي ويعني تطييف السنة في سورية، وحرمان السوريين كلهم من حاضنة مشروعهم الوطني التاريخي بهذا التطييف. والثانية بناء أقليات دينية مُناهضة للديمقراطية، وربما لفكرة الوطنية من أصلها. ولنناقش كلَّ واحدةٍ على حدة. تنتمي الظاهرة الأولى إلى احتمال تَحوُّل الحامل الديمقراطي السُني المُطمئِن إلى طائفة، وهذا احتمالٌ ضئيل، ولكنَّه خطير إذا ربطناه بالمعنى الذي أرادته شيرين، إذ يعمل بوصفه معياراً لانتصار الثورة أو إخفاقها، وينبغي أن يعود، كما كان دائماً، إلى خارج دائرة المُمكن. ولنكن واضحين جدّاً، واستباقيين، بالقول إن هذا لا يعني نكران حق الأكثرية في ابتكار دولة تعبر عن أكثريتهم، بل يعني بوضوح عدم تطييف الأكثرية السنّية فحسب، لأن هذا التطييف يعمل ضد الأكثرية نفسها، ومن ثم ضد جميع السوريين. والظاهرة الثانية أن الأقليات الدينية بدأت بادّعاء الديمقراطية، والعلمانية، بطريقةٍ توحي أن المفهومين الأخيرين مرتبطان بها، وملكيتهما حصريةٌ لها! الأمر الذي قد يُذكِّرنا بمُلكية الأقليات الدينية لليسار في مرحلة سابقة، وبأنهم، بادّعاء هذه الملكية، فرَّغوا اليسار من الديالكتيك بأن جعلوا منه “هوية”؛ فيما الديالكتيك، كما يقول أدورنو، هو “الوعي الصارم باللاهوية”. واليوم يُنجِز بعضُ أبناء “الأقليات” انتقالهم الهُووي السلس الاعتيادي من اليسار إلى المشيخة الدينية، بما ينبئ بشيءٍ لا يُبَشِرُ بالخير، وصولًا إلى أن يصير شيخ عقل الدروز حكمت الهجري، في نظر بعضهم مرجعاً ديمقراطياً، وكأن للديمقراطية مقاساً درزياً يُفصَّل تفصيلًا مثل العباءة. في حين يفيد تحليل خطاب الرجل، ومن حوله من تنفيذيين (مسلحين وغير مسلحين)، بأنه لا يقوم بأكثر من تملقٍ لذاته الدرزية بوساطة تعظيم التطرّف السنّي، والغزل بـ”العلمانية”، التي لا يعرف معناها بدقة. والغريب أن كثيرين مِمَّن كانوا حريصين على تقديم أنفسهم “ديمقراطيين” أثناء الثورة يتبنون اليوم هذه المقاربات الطائفية لفكرة الديمقراطية في توليفة غريبة عجيبة، وصولاً إلى بيان تلاه أحد “ديمُقراطيي” الساحل يطالب بانفصال، وحكم علماني يقوم على المواطنة للعلويين! وأيضاً قلاقل كردية مشابهة لهذا الهذيان الهُووي الكارثي، وغير ذلك الكثير الذي نعرفه كلنا.
لا يبدو في هذا المشهد السوري أن جماعةً واحدة في البلد قد نجت من تحكّم الماضي بمقاربات مستقبلها. وظلت الجماعات الدينية على اختلاف قناعاتها وعقائدها وطرائق تكوينها الاجتماعي والنفسي، غير قادرة على تحصين نفسها ضد الإصابة بداء مستقبل الماضي، أو “استمضاء المستقبل”، أي تصوّره وكأنه ماضٍ جديد نريد له أن يتكرّر فحسب. ولا يبدو أن تغيير هذا التصوّر للمستقبل ممكنٌ من دون تطوير فكرة المواطنة، وانحسار فكرة النعرة العصبية. وهذه موهبةٌ يمتلكها الخيال الواسع الطموح المقدام، وسمةٌ من سمات الأفراد، وليست من سمات الجماعات العصبية. ولن تتقدّم الديمقراطية في هذا البلد، إلا ببناء شبكات ثقةٍ مدينية على أنقاض العصبية، تراكم رأس مالٍ اجتماعي وطني يجعل الديمقراطية تعمل (بتعبيرات بوتنام). ويمكن للدين أن يلعب دوراً إيجابيّاً مدهشاً وضرورياً في هذا المسار الأخلاقي الوطني السياسي، كما تلعب أيديولوجيا الدين مساراً هدّاماً وكارثياً.
المصدر: العربي الجديد