الشتيمة ليست شعاراً فلسطينياً وحدوياً

لميس أندوني

تستنجد غزّة فيما يسقط أطفالها من أسطح البنايات المحترقة من الصواريخ التي تمطر موتاً عليها، والضفة الغربية والقدس يتم اقتطاعهما وترهيب أهلهما. … يجتمع المجلس المركزي لمنظمّة التحرير الفلسطينية لنسمع الرئيس الفلسطيني، محمود عبّاس، يشتم حركة حماس، وسط تصفيق الموجودين، ثم يَصدُر بيان ختامي يدعو إلى حوار وطني واسع. … كيف يمكن أن يجتمع الأمران، خصوصاً أن الدعوة إلى الحوار يرافقها أمر لـ”حماس” بتسليم قطاع غزّة إلى السلطة.

لستُ معنية بحكم الحركة غزّة، ولم أؤيد يوما استئثارَها بالسلطة في غزّة عام 2007، لكن المسألة هنا هي إنقاذ غزّة والضفة والقدس وقضية فلسطين. إذ يحقّ لأي فلسطيني نقد “حماس”، ويحقّ لأهل غزة أن يصرخوا ويشتمونا جميعاً. ولكن، لا يحقّ للرئيس محمود عبّاس الذي لا يستطيع حماية الضفة الغربية والقدس من جنود الاحتلال أن يشتم أي حركة مقاومة فلسطينية، خاصة وهي مستهدفة من أميركا والغرب وإسرائيل معاً.

إذا كانت الحرب على أهل غزّة فلا مكان للشتيمة، بل هي لحظة تتطلّب التعاضد لإنقاذ غزّة، والجميع، بمن فيهم السلطة و”حماس”، مُطالب بتحمّل مسؤولياته، فمهادنة إسرائيل في الضفة لم تُنجِ مخيمات جنين وبلاطة ونور شمس من تهديمها وتهجير أهلها. كان يمكن أن يكون خطاب عباس في افتتاح أعمال المجلس المركزي مهمّاً، لما احتوى من أرقام مهولة لضحايا الشعب الفلسطيني في غزّة، لكن المنافسة على سلطة وهمية ومحاولة مهادنة المطالب الأميركية اعتقاداً بأن ذلك ينقذ السلطة والشعب الفلسطيني إغراقٌ في خداع النفس.

لا يحقّ للرئيس محمود عبّاس الذي لا يستطيع حماية الضفة الغربية والقدس من جنود الاحتلال أن يشتم أي حركة مقاومة فلسطينية

شتم عبّاس، في خطابه، الأميركيين أيضاً، ولا أريد هنا التشكيك بصدق غضبه، لكن الأولوية توحيد الشعب الفلسطيني وليس تفريقه، وأكيد ليس استبعاد من لا يعجب أبو مازن من الشخصيات من المجليس المركزي أو أي مؤسّسة فلسطينية، فهي ليست ملكيته الخاصة، ولا مسجلة باسمه أو باسم عائلته. ولكن الهدف لم يكن فتح حوار وطني، وإنما استحداث منصب نائب رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمّة التحرير، وهو ليس موقعاً مستحدثاً تماماً، بل شغله فترة وجيزة أحد أهم رجالات القانون، إبراهيم بكر، بين 1969-1971، وكان إشغال الموقع في ذلك الوقت قراراً فلسطينياً لا علاقة له بتدخل وشروط أميركية. ويبدو أن واشنطن تعتبر أمين سر اللجنة التنفيذية للمنظمة، حسين الشيخ، مقبولاً لديها، لأنها تريد إعادة هيكلة السلطة الفلسطينية على مقاسات جديدة تناسب مرحلة فرض الهيمنة الإسرائيلية على المنطقة. وهنا يخطئ الرئيس الفلسطيني ومن حوله في الظن أن ما تنادي به واشنطن سيوصِل السلطة إلى غزّة، فالرؤية الأميركية لغزّة، وهناك أكثر من مقترح، أن تكون السيطرة التامة لإسرائيل فيما تقوم إدارة فلسطينية أو عربية لتسيير الأمور بدون معارضة لما تريده إسرائيل أو لخطط الرئيس دونالد ترامب بجعل القطاع مشروعاً عقارياً رابحاً ومربحاً لشلته من أثرياء العالم. ولكن قِصر الرؤية التي جعلت السلطة تهدم منظمة التحرير، وتعود إلى إحياء مؤسّساتها لساعات كل فترة، لتحقيق أهداف ومصالح ضيقة، لا تجعلها قادرةً على تقديم نموذج يوحد الشعب الفلسطيني ويتحدّى المحاولات الأميركية الإقليمية الهادفة إلى تصفية القضية الفلسطينية. وهنا لا بد من الاعتراف بأنه ليس لدى أهل غزّة ترف التفكير في سلطة وطنية حقيقية على أرضها أو أي نموذج، لأنهم، وهم محقّون، يريدون نهاية للعذاب المستمر، فإذا كانت بعودة السلطة فلا يهمهم سوى وقف الكابوس الذي لا ينتهي، وليس لديهم ترف التفكير بمن أفضل أو لديه رؤية. لذا، سمعنا وقرأنا لأصوات من غزّة وصل بها الأمر أن تؤيد شتيمة أبو مازن “حماس”، التي أتبعها بما يشبه الأمر بإطلاق “الرهائن” لدى المقاومة في غزّة، خاصة الأميركي الإسرائيلي، فوراً لوقف شلال الدم، وهم معذورون، ولا يحقّ لنا مجرّد التعليق على كلامهم… ولكن لا يحق لسياسي ورئيس الاعتقاد أن الشتيمة هي التي ستنقذ غزّة، وهو يعرف أنه حتى إطلاق الرهائن وتسليم حركة حماس سلاحها لا يضمن وقف الحرب.

إذا استماتت السلطة بتحقيق المطالب الأميركية تحت بند “إصلاح”، فستفهم شتيمة أبو مازن بأنها التبرؤ ليس من “حماس” فحسب، إنما من كل عمل مقاوم أيضاً

مفهوم أن إطلاق سراح المحتجزين الإسرائيليين بدءاً من الأميركي قد يسهّل مهمّة الوسطاء، لكن مهمّة السلطة الفلسطينية هي الإصرار على دور وطني مشترك لاتخاذ قرارات وطنية، وليس مجرّد محاولات لاستدامة حكم شخوص السلطة، فالرضوخ للمطالب الإسرائيلية قد لا يوقف الحرب، والموقف الفلسطيني الضعيف والتشرذم يُغري دولاً عربية لتنفيذ الرؤية الأميركية للاستمرار بإمعانها في سحق الفلسطينيين.

من يتواطأ مع الإدارة الأميركية لا يفرّق بين أسرى حركتي حماس وفتح في السجون الإسرائيلية، فجميعهم إرهابيون، والقضية ما هي إلا عثرة يجب التخلص منها، فما يحدُث على الساحة الفلسطينية من توسيع الشق الداخلي وتفتيت الفلسطينيين لا يسهم إلا بتسهيل عملية إنهاء الحقوق الفلسطينية. وما شهدناه من مهزلة في المجلس المركزي لا يشي بالخير، لذا لم تفهم القيادة معنى مقاطعة تنظيمات فلسطينية عدة أو انسحابها، مع أنّ رسالتها كانت واضحة؛ أنها ترفض أن تكون شاهد زور لجلسة هدفها تدميري.

يريد محمود عبّاس من اختيار نائب له أن يثبت لواشنطن أن السلطة تقوم “بالإصلاحات” المطلوبة منها. لكن ما يعنيه الأميركيون بالإصلاح تأمين خلافة سلسة وسلمية لعبّاس تشترط تعيين وجوه “مقبولة أميركيا”، وسبقها تهميش وتكبيل لكل المنافسين المغضوب عليهم إسرائيلياً وأميركياً. كما المطلوب تنفيذه في يونيو/حزيران المقبل ترتيب بموجبه يستلم أهالي الأسرى رواتب وفقاً لحاجتهم وتقاس بعدد سنوات الأسر في المعتقلات الإسرائيلية، بعدما مهّدت السلطة لذلك بتحويل رواتب عائلات الأسرى والشهداء إلى دائرة تُعنى بالشؤون الاجتماعية بعيداً عن دائرة الأسرى. والمقصود سلب الصفة النضالية الوطنية من الشهداء والأسرى، لأن أميركا وإسرائيل تعتبران النضال “إجراماً محظور مكافأته”، أي استئصال ثقافة المقاومة وفكرتها من عقول الفلسطينيين وقلوبهم. وإذا استماتت السلطة بتحقيق المطالب الأميركية تحت بند “إصلاح”، فستفهم شتيمة أبو مازن بأنها التبرؤ ليس من “حماس” فحسب، إنما من كل عمل مقاوم أيضاً…

المستهدف ليس “حماس” فحسب، إنما الشعب الفلسطيني كله، وهذا ما يجب أن يتذكّره أبو مازن، فليس هناك فلسطيني مقبول لإسرائيل

يدعو بيان المجلس المركزي إلى المقاومة الشعبية “اللاعنفية”، لكن هذه الدعوة فارغة وتبرير لرفض الفعل المقاوم، إذا لم يكن هناك دعم فعلي لتأسيس حركة المقاومة الشعبية أو حتى السماح بفكرةٍ لا تقال جزافاً، بل تحتاج لرؤية لا تستطيع وضعها سلطة مسكونة بهاجس المنافسة، وتعتقد أن الجميع يريدون الجلوس مكانها. قد ينطبق هذا على بعضهم، لكن المقاومة هي مقاومة، واستمرار تهميش الثوريين، حتى من أفراد حركة فتح والمستقلين، لن يسمح لها بالظهور أو النمو، بل هي ضرب من الكذب والتهريج اللفظي لا أكثر.

لا يتمّ إصلاح الوضع الفلسطيني بتعميق الشرخ والمهاترات، ولا يحتمل أيضاً أي حسابات لقيادة “حماس” غير مصلحة الشعب الفلسطيني، فلا إنكار لشجاعة المقاومة وأدائها فيما وقف العرب متفرجين، وهناك قسوة من أيدوا المقاومة في أوجها وذمّوها في ضعفها، ولا أقصد هنا أهل غزّة. … و”حماس” لا تملك رفاهية التفكير بها، إنما بأهل غزّة أولاً، لكن، يجب دعم أي قرار صعب بدل محاولة رميها، فالمستهدف ليس “حماس” فحسب، إنما الشعب الفلسطيني كله، وهذا ما يجب أن يتذكّره أبو مازن، فليس هناك فلسطيني مقبول لإسرائيل.

المصدر: العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى