يصعب الحديث في تجارب الثورات العربية، عن نموذج القادة الكبار، من ذوي المكانة التاريخية والرمزية، الذين التصقت ثورات التحرر الوطني، وحركات التغيير الاجتماعية، في القرن العشرين بأسمائهم من أمثال “مهاتما غاندي – ماوتسي تونغ – هوشي منه – شي جيفارا – كاسترو – مارتن لوثر كينغ – عمر المختار – عبد الكريم الخطابي – سعد زغلول – سلطان الأطرش – جمال عبد الناصر – ياسر عرفات، وآخرون”.
إذ لم نقع -كما يبدو- على من حظيّ/ أو نالوا تلك المكانة، خلال تجارب الثورات والانتفاضات العربية، التي تقف على أعتاب عشريتها الثانية. فيما برز نموذج القائد الميداني ذات التأثير المحلي، وسقط أغلب من جسّدوا ذاك النموذج شهداء على جبهات القتال، أو بأشكال أخرى من عمليات الاغتيال والإزاحة، ومنهم أسماء خلّدت سيرتها البطولية والتضحوية في ضمائر الناس. إذاً في أحسن الأحوال يُمكن الإشارة، إلى واجهات سياسية مُعارضة تصدرت مشهد الثورات، ونادراً ما لقيت قبولاً وتقديراً في المجتمعات، التي دفعت أثماناً باهظة على طريق خلاصها، وهي ظاهرة لم تشغل بال الكثيرين من أبناء الثورات في بدايات حراكاتها، حين كان الرأي الغالب يرى في غياب مكان القائد العام، وشغور موقع هيئة القيادة العليا، نقطة قوة تمنع تمركز القرار الثوري بيد شخصٍ أو أشخاص قلائل، وتفوّت على أجهزة قمع الأنظمة، الفرصة لتصفية الثورة بمجرد الانقضاض على قائدها أو قياداتها الأبرز. عدا تبرم الشعوب العربية من “فكرة الرئيس الأبدي والزعيم الاستثنائي” التي احتكرها حكام أنظمة الاستبداد.
بيدَ أنَّ نقاشاً أعمق حول دور القائد والقيادة، في تدبير شؤون الثورات والانتفاضات العربية، كان ينطلق من فكرة بناء المؤسسة القيادية، التي تعكس الجوهر الديمقراطي لثورات شعبية، يفترض أنها تجاوزت المفهوم الكلاسيكي للقائد الفرد، وعليها أن تقدم نموذجاً مؤسساتياً، تلتزم فيه الهيئات القيادية، بإدارة مراحل الصراع مع الاستبداد، ومُستحقات الانتقال السياسي، وفق محددات ومطالب قوى الثورة، لا وفق رؤى واجتهادات سياسية معيارية.
مع طول الدروب الوعرة التي خاضتها ثورات الشعوب، كشفت تحولات ومسارات التغيير في التجارب العربية، عن فشل متتالي ومزمن في إنتاج مؤسسات قيادية، تجسد مبادئ الاستقلالية الوطنية، ودمقرطة العمل الجماعي، وتُجسّر المسافة بين أهداف الثورات وأدائها الأقرب لتحقيقها. في مقابل ذلك نشأت نُخب سياسية استمدت أدوراها في قيادة الثورات، من توافقات داخلية بين تكتلات وقوى سياسية محدودة التأثير الشعبي، أقامت مؤسسات تمثيلية على نزعات المحاصصة فيما بينها. فيما استعاضت تلك النُخب كلما تآكل رصيدها من الشرعية الثورية، بإعادة نسج أدوارها على نول القوى الخارجية، والدخول في لعبة المحاور الإقليمية والدولية، حتى لو كان المردود اختطاف قرار الثورات، وانحراف سياقها التحرري.
مقاربات المعضلة في الممارسة
لم تكن نُخب المعارضة السورية، التي أحكمت قبضتها على مؤسسات الثورة، المثال الحصري على بؤس مؤسسات القيادة التمثيلية في الممارسة الواقعية، فقد شهدنا أمثلة أخرى على نظائرها في التجربتين اليمنية والليبية، ومستويات القصور الفادح في مؤسسات الحكم الانتقالي، التي فشلت في إنقاذ البلدين، من لهيب الصراعات الداخلية التي ألمّت بهما. فيما لاحظنا من مقلبٍ آخر، درجات الارتباك والتعثر في التجربتين اللبنانية والعراقية، اللتان لم تفلحا في استيلاد هيئات قيادية ذات طابع تنسيقي، تتولى إدارة وتوجيه الحراك الشعبي في تلك التجربتين. ليس بعيداً أيضاً عن المحصلات البائسة تلك، ما يتحمله الاخوان المسلمون في مصر، من أخطاء وقصور في الرؤية خلال قيادتهم إدارة المرحلة الانتقالية بعد الثورة، وما تتحمله القوى الديمقراطية التي انخرطت في الثورة بمختلف تياراتها، من مسؤولية كبيرة حين صمت بعضها عن الانقلاب العسكري، وأيده بعضها الآخر، مع أن الانقلاب لم يستهدف فحسب تصفية الإخوان المسلمين، بل ضرب الشرعية الدستورية عرض الحائط، وقطع مسار التحول الديمقراطي في مصر بصورة مأساوية.
أما التجربة السودانية، التي تشاركت فيها قوى التغيير المدنية مع طبقة العسكر وجنرالاتها النافذين، لإنجاز مهام الانتقال السياسي الآمن، فإن الحقائق الأولية تشير إلى استعادة هيمنة العسكر على مفاصل القرار السوداني بعد الثورة، وبروز نزعة للمساومة والمراوغة من قيادات التغيير المدنية، على حساب استقلالية السودان واستعادة قراره السيادي الحر. لعل الضغوطات التي مارسها عسكر السودان، لتمرير قرار التطبيع مع الكيان الإسرائيلي، دليل يؤخذ بالحسبان على مأزق القيادات التي تُصعّدها الثورات، واتساع الفجوة بين علاقتها بمطالب الناس، وما يمليه عليها منطق الدولة المُقيدة بقفازات السلطة الفعلية.
تبقى المقاربة التونسية رغم الأزمات الحزبية الحادة، التي تهدد استقرار مؤسسات الدولة بعد الثورة، الأفضل نسبياً من غيرها، بحكم أن النخب التي تقود تلك المؤسسات، لازالت تدير خلافاتها السياسية، ضمن آليات ديمقراطية، تضبط إيقاع المشهد السياسي، بدواعي الخشية من تداعيات انفلاته، على بلد لا يحتمل ما حلّ بجيرانه. تختلف بهذا المعنى المقاربة الجزائرية من أوجه عديدة، لا سيما أن حركة الشارع المطلبية ونشطائها المؤثرين، لازالوا ينظرون بعين الريبة لتحالف الجيش مع مؤسسة الرئاسة، ولكنهم يراهنون من موقع الضاغط الحذر أكثر من ترجيح المواجهة المفتوحة، على تغييرات تدريجية في بنية السلطة، بدلاً من المخاسر الكبيرة في حال مواجهتها، والتي قد تؤدي إدخال الجزائر في نفقٍ مظلم لا تُحمد عقباه.
في مأسسة مفهوم القيادة
تطرح تلك الأمثلة ومقارباتها المختلفة، معضلة القيادة في زمن التحولات العربية الكبرى، وفي ظل متغيرات مفهوم القيادة، ومواصفات القادة في الفكر السياسي الحديث. إذ لم يعد ممكناً تناول مسألة القيادة ببعديها الفردي والجماعي، دون إقرانها بمفهوم المؤسسة القائدة بمختلف مستوياتها، والتي لم يعد دورها الأساسي حكراً على الدول الديمقراطية المُستقرة، بل أصبحت ضرورة لتحقيق الحكم الرشيد على مستوى الدول عموماً. غير أن شرعية ومواصفات القيادة كمؤسسة في تجارب الثورات العربية، ما يثير مشكلات وتحديات من نوع آخر، تفرضها أزمة القيادات كمعضلة حادة، سواء على صعيد شرعيتها التمثيلية المهدورة، أو أدائها غير المطابق للمشاريع التحررية التي تدّعي مسؤولية الدفاع عنها. في خضم البحث عن معالجات عقلانية لتلك المعضلة، التي بات تهدد فعلياً مصير الثورات ومشاريعها في غير مكان، تبرز وجهات نظر مختلفة، منها من ينتظر القائد المُنقذ الذي طال غيابه، والذي يتوفر بشخصه مواصفات استثنائية، تُمكّنه بزخم حضوره الكاريزمي من حل المعضلة. ومنها من يدعو إلى تصحيح مقولتي الشرعية والتمثيل، من خلال تبني شرعية الإنجاز معياراً حصرياً لمن سيحظى بموقع القيادة الموثوقة والمؤتمنة، وطروحات أخرى تنطلق من ضرورة بناء مؤسسة القيادة، بالتعويل على رسوخ ثقافة العمل الجماعي بين المنضوين فيها. يغيب عن أصحاب وجهات النظر تلك على اختلاف تنويعاتها الحقائق التالية:
الحقيقة الأولى:
الحفاظ على الطابع الشعبي للثورات والانتفاضات، وتثمير كفاحها على كافة الصعد، يقتضي وجود قوى وتيارات سياسية، متفارقة في بنيتها التنظيمية والحركية، عن الأحزاب والأطر التقليدية التي انخرطت في الركب الشعبي للثورات، وكانت عبئاً عليه بدلاً من التصدي لدورها في حشد طاقاته وتنظيم جهوده. الرد على فوات وعطالة تلك الأحزاب، بنشر ثقافة التبرؤ من الصيغ التنظيمية للجماعات السياسية، أفضى إلى تجفيف أحد أهم المصادر الحيوية في تصعيد قيادات مؤهلة، لديها المواصفات والخبرة لتولي مهام قيادية. ذلك أن تشكيل جماعات سياسية ” أحزاب – تيارات – تحالفات جبهوية ” لديها بنى حيوية ومنظمة، وامتداد مجتمعي وبرنامج وطني فاعل، هو المختبر الحقيقي في صقل شخصيات قيادية مُجربة. فالقيادات لا تصنعها المصادفات التاريخية، ولا الرغبات المثالية، ولا منطق المحاصصة في مؤسسات فوقية لا صلة لها بالواقع.
الحقيقة الثانية:
دون تأطير النشاط المدني على اختلاف ميادينه: الحقوقية والإنسانية والإعلامية والنسوية والتنموية.. الخ، في سياق وطني حاضن، للمبادرات الفردية والجماعية، سيتواصل تجفيف المصدر الحيوي، الذي تمثله تلك القوى المدنية، وأهميتها في رفد التنظيمات السياسية بقيادات وكوادر، امتلكت كفاءات تخصصية، ومعارف حداثية، وخبرات تقنية، تعزز من فاعلية وتأثير أية مؤسسة حزبية أو سياسية، في زمن مُتغير بات يطبع عالم السياسة، كعلم قائم بذاته وبصلاته بالعلوم الأخرى. يمتحن قدرات الخائضين في حقوله، بما يمتازون به من فكر وثقافة وخبرة وتخصص في مجالات متنوعة، تُحاكي لغة العصر الحديث، بما يحقق استنهاض مجتمعاتنا، ووضعها على سكتي التحرر والتقدم، من خارج الإيديولوجيات الحزبية المغلقة، التي لم تنتج سوى قادة عالقون بين تجارب الماضي، وفشل التعامل مع تحديات الحاضر والمستقبل
الحقيقة الثالثة:
توفير ديناميات التوازان في مفهوم وممارسة المؤسسات القيادية، بين قدرات الشخصية القيادية، ومواصفاته المعرفية والتحليلية، ومرجعية المؤسسة ككيان جماعي يرسخ علاقات الثقة بين أعضائه، ويضع محددات العمل الجماعي من منظور تكاملي. يتوقف هذا التحدي على احترام التقاليد الديمقراطية، التي تمنع تغول الفرد على المؤسسة، وتحول دون اختزال شخصية الفرد في إهاب السطوة الكلية للجماعة.
الحقيقة الرابعة:
تحرير الحياة السياسية من طابعها النخبوي، وهي أولوية مهام الجماعات السياسية المهجوسة بمشاريع التغيير والنهوض، من خلال التصاق برامج التشكيلات السياسية بالبيئات المحلية، وفحص أدواتها التنظيمية، ومدى ملاءمتها في الممارسة العملية، على تنشيط دورة الحياة السياسية في أوساط تلك البيئات. ما يطرح على عاتقها التصدي لأسئلة مفصلية حول أسباب ابتعاد الشباب والمرأة عن الانخراط في العمل السياسي؟ وكيفية الانتقال من الفكرة المتوترة حول صراع الأجيال، إلى لوازم تكامل الأجيال في مسؤولياتهم وأدوارهم المجتمعية والسياسية؟ إلى الإجابة عن سؤال إعادة صوغ رؤية وطنية عامة، تقوم على إحياء أطروحة الثورة، بعد كل التشوهات والانحرافات التي أصابتها، باعتبارها خشبة الخلاص لكل أبناء الوطن ..؟.
الحقيقة الخامسة والأخيرة:
اندلعت الثورات والانتفاضات العربية في منطقة، كانت محكومة بأن تبقى أسيرة الاستبداد السلطوي، وتحت هيمنة القوى الخارجية الطامعة، ومن استخف بتلك الحقائق وتعقيداتها التاريخية، التي تفسر ضراوة الصراع بين قوى الحرية وأعدائها النافذين والكُثر، ومن توهمَ أن خلاصها سيتوقف، على من أغرقوها في دوامة الحروب والدمار والفساد. يستحيل باستخفافه وأوهامه أن يكون عنواناً لمشاريع تحررها الحقيقي، فكيف أن يكون في موقع قيادة ثوراتها !!. ليس بأمثال هؤلاء تسير الثورات، على خطى ثابتة نحو نيل حقوق الشعوب. ما يدعو بإلحاح إلى إحداث تغييرات عميقة، في ذهنية وموروث مجتمعاتنا، المُثخنة بتصورات غيبية عن القائد المُلِهم، وفي توليد جماعات سياسية ومدنية وثقافية، تسهم في تصعيد قيادات مخلصة وواعية، ولديها أفكار تجاوزية مُبتكرة، تضمها مؤسسات قيادية موحدة، تخضع للرقابة الشعبية والداخلية، وتجدد نفسها بآليات التداول الديمقراطي، وتتموقع تلك المفاهيم والقيم في مكنون أدائها. ويكون قائدها الأول، المايسترو الذي يستجمع طاقاتها الغنية، من مختلف الصفوف والهيئات والمستويات، ويضبط مواقفها وتوجهاتها على إيقاع المصلحة العامة، فترقى إلى مؤسسات جديرة بمن تمثلهم، وتدافع عن حقوقهم ومصالحهم، فتكون على قدر القضايا الكبرى التي تحملها.
المصدر: سيريا برس