قراءة إسرائيلية للواقع الأمني والعسكري في سورية

عدنان أبو عامر

وسط زيادة التحذيرات الإسرائيلية من تفاقم المخاطر الأمنية المحيطة بها، تبرز الجبهة السورية في ذات المستوى من التوتر، الذي يتطور حيناً، ويخف حيناً آخر، حسب التطورات الميدانية في ساحة مشتعلة تشهد تورط العديد من الدول والعواصم الإقليمية والدولية.
في الوقت ذاته، تقدر إسرائيل أن إيران بصدد استغلال حالة الفوضى في جنوب سوريا، تحضيرا للعمل على إقامة جبهة هجومية ضدها في هذه المنطقة، رغم ضغوط إسرائيل وروسيا والولايات المتحدة عليها، مما يتطلب من إسرائيل تغيير استراتيجيتها، وتقليل الاعتماد على العوامل الخارجية، والمبادرة الفورية إلى سياسة نشطة وواضحة وحازمة في الملف السوري.
لعل ما يكسب الجبهة السورية في السنوات الأخيرة أهمية استثنائية أنها باتت ساحة خلفية لإيران، مما تجلى بوضع احتمالية أن تكون الأراضي السورية خيارا متوقعاً للرد على اغتيال رئيس المشروع النووي محسن فخري زاده، بجانب عزمها على المضي قدماً باستكمال مهماتها، وزيادة نفوذها المدني والعسكري داخل سوريا.
تتحدث المعطيات الإسرائيلية أن ما تصفه بـ”الواقع الفوضوي” في منطقة جنوب سوريا تحديدا، ينبع من عدم وجود سيطرة فعالة من قبل نظام الأسد، فضلا عن المصالح المتنافسة للعديد من الأطراف العاملة هناك: قوات النظام، الميليشيات الإيرانية، حزب الله، القوات الروسية، السنة والدروز، فضلا عن قوات المعارضة.
يتطلب هذا التعقيد، وفق التقدير الإسرائيلي، التدخل فيما يجري بالجنوب السوري، قبل أن تحقق إيران ما تريد، وتحقق نفوذا متزايدا في المنطقة، بعد أن استعاد نظام الأسد في صيف 2018 السيطرة على المنطقة، عقب التوصل لمصالحة بوساطة روسيا، التي تعهدت للولايات المتحدة والأردن وإسرائيل بالعمل على إبقاء إيران خارج المنطقة، مقابل عدم تدخل تلك الأطراف.
لكن اللافت، أنه خلافا لترحيل السوريين من مناطق أخرى إلى شمال البلاد بعد الاتفاقات، فلم يتم ترحيل السوريين الجنوبيين، بمن فيه عناصر المعارضة المسلحة، وهناك من تحدث عن تجنيد بعضهم بقوات الأمن المحلية الخاضعة للنظام.
هذا الواقع لا ينفي فرضية أن ما تعتبره إسرائيل “سيطرة شكلية” للنظام على بعض المناطق السورية، إذ بقيت المحافظات السورية الجنوبية الثلاث تحت سيطرة وتأثير قوى مختلفة، وأكبر تلك المحافظات هي درعا، ذات المليون نسمة، وبرز دورها في بدايات الثورة، وتتمتع اليوم بدرجة من الاستقلالية في إدارة الحياة اليومية بقيادة شخصيات نشطت في معارضة الأسد سابقا، ويتحدث السوريون هناك أن هذه القيادات مدعومة من قبل اللواء الثامن التابع للفيلق الخامس، الذي أنشأته روسيا كإطار ضمن ترتيب قوات جيش النظام.
في الوقت ذاته، فإن المحافظة درعا ذاتها تشهد وجودا محدودا لعناصر نظام الأسد فيها، في حين تنتشر في المقابل ميليشيات الدفاع المحلي المدعومة والمدربة من قبل طهران، جنبا إلى جنب مع وحدات اللواء 313 الذي تم إنشاؤه كجيش منفصل تحت النفوذ والسيطرة الإيرانية، لمنافسة الفيلق الخامس، المحسوب على موسكو.
ينتقل التركيز الإسرائيلي إلى المنطقة السورية الثانية وهي القنيطرة في الغرب، وسكانها 90 ألفا من السنة، ووجود النظام وحزب الله فيها أكثر وضوحا، أما المنطقة الثالثة فهي السويداء، شرقا، وسكانها نصف مليون، وتحت سيطرة العناصر الدرزية المحلية، بما في ذلك ما يعرف بـ”قوات الكرامة”، ورغم الهيمنة الدرزية، فهناك حضور متزايد في هذه المحافظة للعناصر الموالية لإيران، خاصة قوات الدفاع الوطني.
من الواضح أن نظام الأسد يستخدم الميليشيات المدعومة من إيران لإحداث انقسامات داخل المجتمع الدرزي، وقمع تطلعاتهم بالحكم الذاتي في قطاعي السويداء والجبل الدرزي، وهذه النوايا أسفرت عن عملية لعسكرة سكان المنطقة، والتضخم بمراكز النفوذ في جنوب سوريا، مما أسفر عن معادلة هشة للقوى المختلفة، وتميزت بمستويات عالية من العنف، والحوادث الأمنية، والفقر، وعدم الاستقرار.
تشير الديناميكيات السائدة في جنوب سوريا في الأشهر الأخيرة إلى انتشار النزاعات بين الخاضعين للنفوذ الإيراني، وبين من يضعون ثقتهم في روسيا، وتنامي التنافس على النفوذ بين الجانبين، مما يعبر عن تضارب المصالح في المنطقة، رغم كونهما جزءا من التحالف الموالي للأسد، والداعم له.
تسعى إيران لترسيخ سوريا كـ”شركة تابعة” من خلال التدخل العميق والمتعدد التخصصات في المنظومات السورية: الأمن والاقتصاد والتعليم والمجتمع والثقافة والدين، مع الاستيلاء على البنية التحتية الحيوية، ودعم الميليشيات الموالية لها، والمشاركة ببناء جيش النظام السوري، وقيادة التغيير الأيديولوجي والديموغرافي.
علاوة على ذلك، تقدر إسرائيل أن إيران بترسيخ وجودها في المحافظات الجنوبية السورية قرب حدودها، فهي تسعى لتشكيل جبهة احتكاك ومواجهة أخرى معها عبر مبعوثيها، فضلا عن قيامها برشوة العناصر المحلية، وإثارة التوترات الداخلية، من أجل الإضرار بالنسيج الاجتماعي، وكسب ولاء الجماعات المحلية، مع نشر أيديولوجية النظام الإيراني في الوقت نفسه.
من جهة أخرى، ورغم تصميم إيران على الاستمرار بالتمسك بسوريا، فإن سياسة الضغط الأقصى الأميركية، والهجمات الإسرائيلية، والمنافسة مع روسيا، جميعها عوامل تجبر طهران على تغيير موقفها من تطورات الساحة السورية، ويعود ذلك أيضا إلى أن الميليشيات العاملة في المنطقة أتت من خارج سوريا.
في المقابل، يحاول الإيرانيون الاعتماد على عناصر محلية مثل: قوى الدفاع، ميليشيات محلية، يدربها جيش النظام، خاصة الفرقة الرابعة بقيادة ماهر الأسد، وحزب الله، مع العلم أن هناك هيئتان للحزب تعملان بالجنوب: المقر الجنوبي ويضم ضباط الحزب كمستشارين ومفتشين بجيش النظام، ووحدة مرتفعات الجولان تحت القيادة المباشرة للمقر، حيث يتم تأسيس خلايا مسلحة من السوريين.
لم يعد سراً أن الحزب شريك في النشاط الإيراني في الجنوب السوري، بما يتجاوز الجانب العسكري، بما في ذلك تشغيل شبكات التهريب، شراء الأراضي، وتقديم الخدمات والمنتجات لتوسيع النفوذ، وتعبئة الرأي العام المحلي المتعاطف، وفقاً لما تتحدث به الأوساط الإسرائيلية.
روسيا من جهتها تسعى جاهدة لاستقرار الوضع في الجنوب السوري، ويظهر مسؤولوها العسكريون نشاطا في المنطقة، ويحافظون على الاتصالات مع مختلف القوات، مع الحفاظ على النظام المركزي للأسد، لترجمة أدائها العسكري الميداني إلى أداء سياسي، ومكاسب اقتصادية، ونفوذ طويل الأمد في سوريا والشرق الأوسط.
رغم أن المحافظات الجنوبية تخضع رسميا لسيطرة النظام، لكن يبدو أن موسكو تفكر بصيغة فيدرالية للحكومة المحلية، تتماشى مع النموذج الروسي، بمسودة الدستور التي اقترحتها على دمشق أوائل 2016، على أساس مبدأ “اللامركزية”.
في حين تهتم روسيا بالحفاظ على علاقات طبيعية مع إسرائيل، والحفاظ على التنسيق الاستراتيجي الذي تم تشكيله بينهما على الساحة السورية، وتُظهر استعدادها للوفاء بوعدها للولايات المتحدة وإسرائيل بإبعاد الوجود والنفوذ الإيرانيين في نطاق 80 كم من الحدود مع إسرائيل، بدليل أنها في وقت مبكر من 2018، أنشأت اللواء الثامن التابع للتجنيد، بعد أن كان لها دور فعال في تنظيم وضع الثوار بمحافظة درعا، واليوم يحد من توغل المبعوثين الإيرانيين في الجنوب، بل ويواجه في كثير من الأحيان قوات النظام، خاصة الفرقة الرابعة.
تعتقد دوائر صنع القرار الإسرائيلي أن تعدد اللاعبين في الساحة السورية، لا سيما في الجنوب السوري، يظهر تنافساً على النفوذ بينها روسيا وإيران، مما يؤدي إلى لامركزية ديناميكية للتأثير بهذه المنطقة، ويفضل المحليون الانضمام لمن يُنظر إليهم على أنهم عامل القوة، خاصة من يدفعون ويقدمون مظروفا من المساعدات الأمنية والمدنية، ورغم تصميم إيران على تعميق قبضتها على المنطقة، فإنها مجبرة على تخفيف أنشطتها بسبب قيود الميزانية، ونتيجة القيود التي اتخذتها روسيا.
في المحصلة فإن روسيا لديها قدرة محدودة على تقليص المؤسسة الإيرانية في المنطقة، ناهيك عن إبعادها ومبعوثيها عنها، وتبنى نظام الأسد الحياد السلبي تجاه منافسة روسيا وإيران، مما سمح للصراعات المحلية بين مختلف اللاعبين بمنع تأسيس عامل مهيمن واحد في الفضاء، مما يسمح لهم بتآكل بعضهم، بما في ذلك مواجهة جنوب سوريا منخفضة المستوى.
منذ بداية الثورة السورية في 2011، اختارت إسرائيل ما تصفها “المراقبة المضادة”، وعدم التدخل المباشر في الصراع للسيطرة على جنوب سوريا، إضافة للعمليات العسكرية العلنية والسرية ضد تهديدات ملموسة في المنطقة.
ولكن مع عودة نظام الأسد للجنوب، ألغت إسرائيل ما تسميه مشروع “الجوار الطيب” الهادف لتقديم المساعدات للسوريين فيها، خاصة في التجمعات القريبة من حدود هضبة الجولان، مقابل الاستقرار، ومنع الهجمات عليها.
هذا يعني من وجهة النظر الإسرائيلية أن موسكو لم تف بوعودها بشكل كامل حتى الآن لتل أبيب، في حين ستسعى الأخيرة لإعادة تفعيل اتفاقياتها معها بهذا الخصوص، ومن أجل منع طهران من خلق حدود معادية، واحتكاك شديد في الجولان عبر وكلائها، ترى إسرائيل نفسها بصدد الاستفادة من الضعف الحالي للمحور الإيراني، بما في ذلك نظام الأسد، وآلية التنسيق مع الجيش الروسي، كفرصة لمتابعة سياسات استباقية في جنوب سوريا.
أخيراً.. فإن سياسة عدم التورط المباشر التي صاغتها إسرائيل بداية الحرب السورية، باستثناء إحباط الهجمات، ونقل أسلحة متطورة من إيران لحزب الله عبر سوريا، سمحت لإيران، بجانب قتالها مع الأسد، بالاستيلاء على البنية التحتية والقدرات العسكرية، وتفعيل جبهة حرب أخرى ضدها، وعندما اتضح الوضع لإسرائيل، كان لا بد من صياغة رد عسكري ضد إيران، وإلقاء ثقلها على روسيا للحد من وجودها العسكري في سوريا، وتصميم ترتيب مستقبلي يناسبها.

 

المصدر: موقع تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى