صادف يوم 17 ديسمبر/ كانون الأول الحالي الذكرى العاشرة لانطلاقة ثورات الربيع العربي التي دشنها التونسي محمد البوعزيزي، بإحراق نفسه في مدينته سيدي بوزيد، مجسّداً بذلك تراكم زمن طويل من فقرٍ وقهرٍ وظلمٍ وإذلالٍ وتهميشِ، تعدّدت وجوهه، وألوانه، ودرجات فعله، وعمق تجذّره، وما تلاه أكد وجوده في البلاد العربية كافة، وإنْ بنسبٍ مختلفة. وقد أعطى، بالإضافة إلى مسائل أخرى، شرعية تلك الثورات، بدوافعها الموضوعية. وعلى ذلك، هبَّ الشباب العربي معبراً عنها، إثر الشرارة التونسية التي أشعلها البوعزيزي، والتي تلتها في اليوم الثاني مظاهرات ضخمة في عدد من المدن التونسية، أدت إلى سقوط الرئيس زين العابدين بن علي بعد أقل من شهر، لتهبَّ مصر بعدئذ على نظام متوارث عسكرياً منذ عام 1952، ومنه بالذات فتح بابِ العلاقات مع إسرائيل، على الرغم من أن مصر كانت الدولة العربية الأكثر استعداداً، بما تملكه من مؤهلاتٍ تفتقر إليها دول المنطقة، للنهوض دولةً إقليميةً لها دورها ومكانتها، وربما قاطرةً للدول العربية كافة. وهكذا جاءت ثورة 25 يناير في 2011، بغضّ النظر عن مآلها، وتسلط العسكر من جديد على شعبها، محرّضاً رئيساً لبقية الدول العربية، إذ تلتها اليمن في 11 فبراير/ شباط لتتبعها ليبيا في 17 الشهر نفسه، ثم لتشتعل سورية في 15 مارس/ آذار، وكأنَّ الجميع على موعد واحد. ولمَ لا؟ أليس طعم الظلم واحداً، وإنْ ظن بعض هؤلاء أنهم في منأى عن ذلك الربيع، فسورية “الله حاميها” (الله لا يحمي الظالمين، لكنه، “يمهل ولا يهمل”)، إذ صرح ذلك الحاكم، آنذاك، بأن سورية ليست رمال الصحراء الليبية! وهكذا تتابعت الاحتجاجات في بقية البلاد العربية، وإنْ على نحو أقل قليلاً في البحرين والأردن وعُمان والمغرب وجيبوتي والسودان 2011 أولاً، ثم عادت في الجزائر والعراق ولبنان في 2018، بغضّ النظر عن الابتزاز الأميركي/ الصهيوني الذي قد يخلق فرزاً جديداً.
ما يهم هنا، تأكيد أن هذه الثورات ليست مؤامرات خارجية، ولا هي نتيجة خيانات داخلية تأتي من نكرات، أو جراثيم (ليبيا وسورية)، فالمؤامرة، أية مؤامرة، لا يمكنها أن تنجح، وتدخل بلداً ما، إن لم يكن لها أرجل، ولقد صنعها لها الحكام، بابتعادهم عن شعوبهم وتصغيرهم إياها بسجنها، وبما ارتكبوه من جرائم بحقها وحق أوطانهم وما نهبوه من أموال، وبما عاشوه من بذخ وتبذير ما لا يملكونه، ولم يجلبوا لشعوبهم، في النهاية، إلا التخلف، وذلَّ الهزائم، وبعض هؤلاء تراهم اليوم، يحتمون بعدو بلادهم التاريخي، فيفتحون أبواب بلدانهم وثروات شعوبهم دونما خجل أو وازع من ضمير.
قالت الشعوب كلمتها بوعي من أجيالها الشابة التي تعيش عصرها الديمقراطي، وثوراته التكنولوجية متعدّدة الأوجه، وهي ماضيةٌ نحو بناء حياتها الجديدة، وتحطيم هياكل نظم عفا عليها الزمن. النظم الباقية من عهود الإقطاع، وعقلية زعيم القبيلة أو الطائفة. أما تلك التي زعمت البناء والنهوض ومقاومة العدو الإسرائيلي، فإنها دارت في فلك نظم هي وجه آخر للأولى، إنها النظم البيروقراطية التي أنهكت شعوبها، وبدّدت ثرواتها دونما طائل أيضاً، فتخلّفت عن ركب حضارة جاورتها، على الرغم من كل ما تملكه من مؤهلاتٍ مادية وبشرية، لأنها كانت تعلك الشعارات، وتهدّد بها شعوبها، فكان القمع الرهيب، وكانت السجون والمعتقلات والقتل والتهجير والخراب الشامل الذي طاول بلاداً عربية عديدة. وكان لهؤلاء الحكام تعاونهم على الشعوب من حال جديدة لا يريدون الاعتراف بها، إذ تشكل خطراً عليهم، وعلى ما ينعمون به، وفضحاً لجرائمهم السياسية والعسكرية والاقتصادية والأخلاقية التي تصل إلى حدَّ الفعلية للأوطان والشعوب.
قيل الكثير في دوافع تلك الثورات، وفي مبرّرات قيامها، على الرغم مما اعتراها، ويمكن إيجاز ذلك في أنه يعود إلى غياب الحريات العامة، وما تفترضه من وجود أحزاب سياسية غير مدجّنة، تنظِّم عملها قوانين واضحة ودقيقة تنبثق من دستور يقره الشعب، لا يتجاوزه أي فردٍ في الدولة، كبيراً كان أو صغيراً، وقضاء عادل لا سلطة عليه غير سلطة القانون، وإعلام حرّ يكون مرآةً للمجتمع بأطيافه، وتطلعاته، وتنمية ثرواته، وإبداع أبنائه وكل ما يعتريه من مشكلات، وعقباتٍ لا للحاكم وحاشيته ومنجزاتهم المظهرية، بحسب عبد الرحمن منيف ومدنه الملحية. وبذلك انصرف هؤلاء الحكّام عن تنمية بلادهم وحمايتها في اقتصاد قوي، وعمل آمن لمواطنيها، فكان الفساد، والقمع وسطوة أجهزة الأمن، ومن ذلك كله أتت الهزائم المريرة، ثم الاستخفاف بالحكّام والطمع بثروات بلادهم.
عمق تلك الثورات العربية قد تجذَّر، وهي مستمرّةٌ بأشكال مختلفة، على الرغم من أن أصابع دولية وإقليمية تعبث بها، وتتناحر حول غنائم هذه البلاد، وعلى الرغم من تناقض القائمين عليها وصراعهم، لكنها لا تزال قائمة، وقد دفعت الشعوب ثمنها دماً وخراباً ومعاناة مريرة في اليمن وليبيا وسورية والعراق ولبنان، فالثورات لا تحقق غاياتها بين يوم وليلة، إنها عملية حفر في الصخر. ولا بد من التذكير بأن الثورات لا تسير وفق خط مستقيم، وأن ما يحدث في بلادنا ثورات فعلية، على الرغم من نواقصها وسلبيات القائمين عليها. وهذا ما يهم الآن، وما يمكن استخلاصه، والاطمئنان إليه.
هرولة بعض الحكّام العرب خلف عمليات التطبيع مع العدو الإسرائيلي، وإن ارتدى لباس الضغط الأميركي الذي يفخر به ترامب، وبه يكسب ود اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة، ويدعم صديقه نتنياهو. ولكن الهرولة، في لبّ حقيقتها، هي الرعب من أن تمتدَّ تلك الثورات إلى أنظمةٍ عفا عليها الزمن، فتهرّأت، وتعفّنت، وأنتنت، وتفسّخت، وآن أوان سقوطها. ومن هنا، فإن فعل الهرولة هذا هو هروب إلى الأمام. وهو ناجمٌ عن ضعف وجبن وطبع خيانة يبحث عن حماية جديدة. هؤلاء اليوم في حالة رعب، فعلى الرغم من كل القتل والخراب والأموال التي أُهْدِرَت تراهم محاصرين في مآزق لا منجاة منها، فما يفعلونه لا ينفع بشيء، غير أنه يقوي مبرّرات الربيع العربي.
ثورة المعلوماتية والاتصالات تبشّر اليوم بعالم جديد، وهي، في الوقت نفسه، سلاح بيد الأجيال الجديدة، فسلاح العلم والمعرفة، والوعي الحقيقي غير المزيف، قد قشَّر الأغلفة التي تستّر بها الحكام، فبانت عوراتهم. وها هو ذا العراق تزداد بروق ثورته لمعاناً. إذ لا يزال الشباب يتقدّمون بصدورهم العارية لمواجهة رصاص المليشيات الطائفية، يفضحون زيفها برفعهم الهوية الوطنية العراقية، وما تنطوي عليه من معانٍ قوميةٍ واجتماعيةٍ، تؤكد مشروعية نضالهم ضد بؤس الحال وروائح الفساد وتفاهة الفكر الطائفي المغرق في الجهل والتخلف الحضاري. ويرفع المحتجّون شعاراتٍ تمجِّد شهداء حراكهم منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2019، وقد بلغ عددهم حتى الآن أكثر من سبعمائة شهيد، ويفضح المتظاهرون فساد النخب الحاكمة وتقاسمهم المواقع السياسية، ويهتفون ضد الأحزاب، ويطالبون بوطن عراقي صرف يفدونه بالروح والدم.
المصدر: العربي الجديد