وضعت الشعوب العربية على العقد الثاني من القرن الحالي، على خلاف العقود السابقة، بصمةً لا يمكن إغفالها. لأول مرة منذ عقود، تحضر الشعوب العربية بوصفها ذواتاً سياسية تبحث عن حياة أفضل، وتقتحم أخبارها شاشات العالم. لأول مرة تتحرّر النضالات الداخلية بين الحاكم والمحكوم من النضالات “القومية”، فلا تحضر إسرائيل والإمبريالية مصدّات تمنع الصراعات الداخلية من أن تتخذ بُعدها التحرّري. كان لافتاً كيف استحضر النظام السوري المصدَّ الإسرائيلي، حين صرح بأن ثورات الربيع العربي لن تستهدفه، لأنه لم يطبع مع إسرائيل، وأنه في “محور المقاومة”، ثم استغاث بهذا المصدّ، في بدايات الثورة عليه، فكتب على إحدى اللافتات: “إسرائيل هي العدو”، محاولاً ستر عداوته الشعب السوري بعداوةٍ أخرى.
في هذا العقد، لم تكن أخبار الشرق الأوسط هي أخبار الصراع مع إسرائيل، بل الصراع مع الاستبداد الداخلي الذي لطالما راكم الفشل في الميدان الوطني، كما في ميدان التنمية، فضلاً عن اعتدائه الثابت على حريات محكوميه الفردية والعامة. وفي نهاية هذا العقد العربي الفريد، يمكن تسجيل بضع ملاحظات:
أولاً، آخذين بالاعتبار المآلات المُحبطة التي وصلت إليها الثورات العربية، ولا سيما الموجة الأولى منها (ما عدا تونس، موطن الشرارة الأولى)، يبقى الربيع العربي ربيعاً، على الرغم من كل التعابير “الفصلية” الأخرى المقترحة: الخريف العربي أو الشتاء العربي. ربيعية الربيع العربي تكمن في أن الشعوب العربية أثبتت حيويةً أوشكنا أن نشكّ فيها، وخرجت في وجه أشد أنواع الأنظمة السياسية بطشاً وإزماناً. والحق أن هذا هو مصدر الذهول الذي أصاب معمر القذافي أمام خروج الليبيين عليه، حين عبّر عن استغرابه الشهير “من أنتم”؟ كان يعني أنه لم يألف هذا النوع من البشر. كان يستغرب أي بشرٍ هؤلاء الذين يخرجون على نظامٍ سدّ كل منافذ الخروج؟ وكيف يتمرّد هؤلاء الذين كان يراهم مطبوعين على التسليم والانقياد والتهليل والتصفيق؟ والحال نفسه ينطبق على بقية أقرانه من المستبدين. .. وتتفوق هذه الحقيقة على كل الحقائق الأخرى (وهي حقائق بلا شك) التي دفعت بعضهم إلى نقض تسمية “الربيع العربي”.
ثانياً، لم تكن في المجال الثقافي العربي حيوية فكرية تقابل الحيوية النضالية التي أظهرها الجمهور في الساحات. يمكن القول إن الثورات العربية كانت يتيمةً فكرياً، لا أبوة فكرية لها، سوى كلام عمومي، منقولٍ في الغالب، يلخصه المطلب الديمقراطي مفهوماً على النمط الغربي. اليتم الفكري للثورات العربية هو المسؤول الأول عن اليتم السياسي التالي لها، نقصد غياب تمثيل سياسي يستطيع ترجمة طاقة الثورة إلى قوة تغييرٍ سياسيٍّ تحرّري ومدرك لمقاصده. على هذا، كان لدينا في العقد المنصرم ربيع الشعوب وخريف النخب.
ثالثاً، أحد أسباب الفجوة الكبيرة التي ظهرت جلية في “الربيع العربي”، بين ما نريد وما نستطيع، هذه الفجوة التي ابتلعت الثورات، وجاهزة لابتلاع موجاتٍ أخرى منها ما لم تعالج، هو اختصار المهمات الشاقة، والتي تحتاج عملا معرفيا وميدانيا ومدنيا طويلا ودؤوبا وتراكميا، في حلولٍ سحريةٍ تتأرجح بين “الإسلام هو الحل” أو “الشيوعية هي الحل” أو “الوحدة العربية هي الحل”، وصولاً إلى “الديمقراطية هي الحل”، من دون أن يستطيع أصحاب هذه الحلول السحرية تفصيل القول في أيٍّ منها، سوى في تنظيراتٍ مقطوعةٍ عن واقعها. وكأننا نريد تدارك تخلفنا العام بوصفةٍ سحريةٍ لا تحتاج سوى إلى الاستيلاء على السلطة السياسية. يمكن لهذا “السحر” أن يحشد، وأن يحرّك، قطاعات واسعة من الناس، ولكنه لا يمكن أن يقود جمهوره إلا إلى مزيدٍ من الإحباط والتشتت.
رابعاً، في كل التنويعات التي انتهت إليها ثورات الربيع العربي، لم تحقّق الشعوب الثائرة ما خرجت لأجله. على أن البلدان التي توصلت فيها الثورة إلى تسوية مع قوى النظام (مصر، السودان)، ظلت، على كل حال، أفضل وضعاً، بمقياس الدمار والموت، من البلدان التي دخلت فيها الثورة في صراع حياةٍ أو موت مع النظام القائم (ليبيا، سورية). في حين لم تنفع التسوية في الحالة اليمنية، بسبب تراكب الصراع هناك على خطوط مذهبية وعشائرية، والسماح للرئيس السابق، علي عبد الله صالح، الذي قبل مكرهاً التخلي عن الرئاسة، أن يبقى في البلد، ويدخل في صراعٍ على السلطة، الأمر الذي ساهم في تأجيج الصراعات وتعقيدها.
خامساً، لم تمثل إطاحة رأس النظام نجاحاً للثورة (مصر)، ولم تجنّب البلاد الدخول في نفق الاقتتال والدمار والتمزّق الاجتماعي (ليبيا، اليمن). على أن النموذج السوري، حيث حافظ النظام على رأس الهرم فيه، شكّل الحالة الأشد تدميراً وتمزيقاً للبلاد وللمجتمع، إلى حد يثير الشكوك في إمكانية استعادة وحدتهما. النتيجة التي يمكن تلمّسها هي أن تجاوز الأنظمة الاستبدادية المزمنة يحتاج تفكيكها من القاعدة.
سادساً، تميّزت الموجة الثانية من الانتفاضات العربية (لبنان، العراق، السودان، الجزائر)، بأنها تجاوزت مطبّي العسكرة والتغذية الطائفية، مستفيدةً من تجربة الموجة الأولى. مع ملاحظة أن النظام “الديمقراطي” القائم على المحاصصة (العراق، لبنان)، أظهر قدرةً أكبر على مقاومة التغيير من دون الإفراط في العنف، يعود ذلك إلى مرونته العالية وتعدّد نقاط ارتكازه، قياساً على الأنظمة المستبدة ذات الرأس الواحد التي ترتد بوحشيةٍ أكبر على أي محاولة تغيير، لأنها ضعيفة المرونة. في الجزائر، أتقن الشعب درس “العشرية السوداء”، حين اكتوى بنار العنف الإجرامي المتبادل بين الجيش والجماعات الإسلامية في العقد الأخير من القرن الماضي، فحافظ على سلمية حراكه، على الرغم من عدم استجابة مؤسسات النظام لمطالبه، كما أن الجيش، في المقابل، لم يلجأ إلى العنف. هذا ينعش الأمل بأن يكون العنف الرهيب الذي شهده العقد المنصرم درساً مفيداً للجولات القادمة.
سابعاً، تبيّن أن غلاف الاستبداد السياسي، إذا ما ضعف أو تمزّق، فإنه يكشف في المجتمع عن قوى وميول استبدادية، سرعان ما تحتلّ المجال العام الذي يهجره الاستبداد الأم. وهكذا يبدو أن الاستبداد لا يكتفي بحرق حاضر المجتمعات التي يحكمها، بل يُضعف أيضاً إمكانات التحرّر المستقبلية فيه.
ما سبق يطرح على المشتغلين في الشأن الفكري والسياسي البحث الأصيل عن السبل التي يمكن من خلالها تفكيك الاستبداد، وجعل النضال التحرّري أكثر جدوى وأكثر قابلية للتراكم.
المصدر: العربي الجديد