يقول التاريخ الحديث، إنّ ألمانيا، بعد خسارتها أعداداً كبيرة من عمالتها في الحرب العالمية الثانية، عرضت على إيطاليا عام 1955 ومن ثم على اليونان عام 1960 وأخيراً على تركيا عام 1961 لترفدها بالعمالة وفق اتفاق استمر حتى أزمة النفط العالمية عام 1973.
واعتمدت ألمانيا وقتذاك، قاعدة “رابح رابح”، بحيث تستقدم عمالة تسد النقص في سوق العمل، وتلتزم بتأهيلهم والعيش الكريم، لعامين مبدئياً، أو من عرفوا قتذاك بـ”عمال ضيوف”، ليتم تخييرهم بعد ذلك بين العودة إلى بلادهم أو الاستمرار والحصول على كافة الحقوق والميزات التي يتلقاها الألماني.
ولأنّ ألمانيا قدّمت لـ”العمال الضيوف” ما لم يجدوه في بلادهم، امتنع 750 ألف عامل تركي عن العودة واستوطنوا ليشكلوا نواة جالية تصل اليوم إلى زهاء 2.5 مليون تركي، ما نسبته 14% من عدد السكان، واحتلوا المركز الأول ضمن 16 مليون شخص من أصول مهاجرة في ألمانيا.
لو عكسنا ما قاله التاريخ بالأمس عن العمالة التركية في ألمانيا، على واقع حال العمالة السورية في تركيا، فأي تشابه في الحالتين وما هي أوجه الخلاف؟
من الغرابة ربما، تطابق عدد العمال السوريين في تركيا مع عدد العمالة التركية قبل نحو ستة عقود في ألمانيا. فوفق مراكز الإحصاء التركية، يوجد في تركيا نحو 750 ألف عامل سوري من ضمن نحو 3.6 مليون لاجئ، كما يتقارب زمن ما قضاه العمال الأتراك، منذ اتفاق العمالة حتى وقف التدفق، مع زمن وجود السوريين في تركيا، منذ عام 2011 حتى اليوم.
لكن الاختلاف كبير ومؤلم، فألمانيا عاملت العمالة التركية، خلال السنين الأولى، كعمال ضيوف ومنحتهم كامل الحقوق وربما أكثر، عبر إغراءات لم يجدها العمال السوريون في تركيا، ربما حتى الآن، فهم محرومون في الغالب من إذن العمل، ولا يتقاضون إلا أقل الأجور ضمن شروط عمل قاسية، وفق اعتراف عضو البرلمان التركي وحزب “العدالة والتنمية”، أحمد سورجون.
والبرلماني سورجون قال حرفياً، خلال مقابلة تلفزيونية أخيراً “لولا وجود السوريين لانتهت الصناعة”. وألمح إلى الأعمال الشاقة التي توكل إليهم، وأن 35 ألف عامل فقط من أصل 750 ألف عامل في تركيا يعملون بشكل قانوني.
وأثار كلام البرلماني التركي ردود أفعال كثيرة، بعد أن سلط الضوء على قضية إنسانية وقانونية وأخلاقية، فكتب العديد من الكتاب والإعلاميين، مثل مراد أوغلو في صحيفة “سوزجو” وكوبرا بار في “خبر تورك”. وتعالت الصيحات بضرورة قوننة عمل السوريين والاستفادة من قوة عملهم التي تتمناها دول كثيرة.
وهنا، لن نشير إلى ما يتعرض له غالبية العمال السوريين في تركيا من ظروف سيئة، إذ إن حاجتهم للعمل تجعلهم يقبلون العمل بشكل غير قانوني الذي يتركهم عرضة للحوادث، أو الاستغلال من حيث الأجور وساعات العمل الطويلة.
وليأخذ الطرح صفة التوثيق، لا الرمي والاتهام، يقول تقرير “جمعية الصحة والسلامة المهنية” التركية: شكل السوريون أعلى نسبة بين اللاجئين في 2019 بتعرّضهم لحوادث عمل في تركيا، توفي 40 عاملاً سورياً شكلوا ما نسبته 37% من إجمالي الوفيات بسبب حوادث العمل بين اللاجئين في تركيا.
وأكثر من ذلك، وبحسب رئيس اتحاد النقابات إرغون أتالاي، يتقاضى معظم العمال السوريين رواتب شهرية تتراوح بين 1500 و1800 ليرة تركية، أي أقل من الحد الأدنى للأجور.
ومن عوامل الاختلاف، وليستوي القول، لا بد من الاعتراف بأنّ السوريين في تركيا لم يأتوا بطلب تركي لنقص العمالة، كما أنهم يقيمون وفق “قانون الحماية المؤقتة” وليس كلاجئين، يمكنهم المطالبة بحقوقهم والجنسية بعد مضي مدد محددة، بيد أن ذلك لا يلغي طرق الاستفادة المتاحة، بما فيها الجنسية الاستثنائية وكسب العقول والمهارات التي تهاجر حتى اليوم باتجاه أوروبا.
نهاية القول: يقول آخر مسح حول اللاجئين السوريين في تركيا، والمعروض حالياً أمام البرلمان، إنّ 51.8% من المستطلعة آراؤهم قالوا إنهم لن يعودوا إلى سورية أبداً حتى لو انتهت الحرب، في حين هذه النسبة لم تزد عن 16.7% خلال سنوات لجوء السوريين الأولى إلى تركيا.
فإن علمت تركيا، وهي تعلم، أنّ من يعيش من السوريين في المخيمات ويتلقى مساعدات، هم فقط 59.7 ألف سوري من أصل 3.6 ملايين لاجئ سوري، أي لا تزيد نسبتهم عن 1%، ستعلم بعدها، وهي تعلم، كم ينفق السوريون في الأسواق، وكم يدفعون إيجار منازل، وكم يساهمون بشكل عام، بتحريك الاقتصاد، ما يستوجب على تركيا أن تستفيد منهم، ولو وفق ما تعاملت ألمانيا مع عمالتها، فتمنح السوريين عوامل الاستقرار التي تبدأ بالحقوق كما العمالة التركية ولا تنتهي عند منحهم الجنسية، لتكسب حينها كما كسبت ألمانيا وربما أكثر.
كما أن لدى السوريين نقاط اختلاف عن العمالة التركية عندما هاجرت لألمانيا، إذ إن بعض أصحاب الرساميل يحتلون قوائم الأكثر استثماراُ في تركيا لأربعة أعوام على التوالي.
المصدر: العربي الجديد