ينقسم الكُرد في سورية على ذواتهم وتتشعّب توجهاتهم، كحال المسرح السياسي السوري. وثمّة فروقات تبين اختلاف التعاطي الكُردي مع شقيقه عن التعاطي العام ضمن سورية. ويتجسد تقاطع الهويتين، الكُردية والعربية، ضمن هوية جامعة، مفقودة، ومن الصعب الإتيان بأخرى جديدة يُمكن معها الحفاظ على هوية واحدة لكل سورية. وكحال الانقسام الدولي بشأن مصير الطاقة، وحدودها ومصادرها، وصراع الهويات في سورية. طرح الكُرد هدفاً غير موحد؛ بسبب عدم وحدتهم، فتشابهت التسميات حول الفدرالية، واختلفت حول العمق السياسي والمعنى اللفظي والمدى النفعي، إضافة إلى الجغرافيا المحدّدة.
تقاطعت شروط المجلس الكُردي ودعوات الإدارة الذاتية في جزئيات مُحدّدة، كفتح المقار الحزبية، وفتح تحقيق وتبيان وضع المعتقلين، وحوار غير مشروط، لكنها كانت لدى الوطني الكُردي مُجرّد تهيئة مناخات الحوار، ولدى الإدارة الذاتية أدوات ضغط. وهكذا بدأت حكاية الشّد والرخي ما بين مُبادرة قائد قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، مظلوم كوباني، وقبلها مساعي رئيس إقليم كردستان السابق، مسعود البارزاني، لرأب الصدع العميق بين الطرفين. ولكن ما فات مبادرة كوباني أن عليه التوجه أولاً صوب حزب الاتحاد الديمقراطي قبل التواصل مع باقي الأطراف الكردية. إذ بات واضحاً وجود مساعٍ بتوجهين مختلفين ضمن الجسم السياسي والإدارة للمنظمة برمتها، توضحها التصريحات المناوئة أو المخالفة للمبادرة، ثم إسراع تلك الأطراف إلى لقاء الجانب الروسي والنظام السوري. قابلته جملة لقاءت المجلس الوطني الكردي مع الفاعلين الدوليين، منها لقاء مع وزير الخارجية التركي، مولود جاووش أوغلو، وما سببه من ضجة إعلامية للإدارة الذاتية عن سبب اللقاء، واتهامهم بفض الاتفاق وإجهاض المبادرة.
ولأن البيئة العامة في ما تبقى من المنطقة الكردية ما تزال قلقة سياسياً وعسكرياً، والحدود الحالية أمنية لا سياسية، فإن ذلك يستوجب الانتقال إلى نظام سياسي جديد وشكل جديد للعلاقة بين الأطراف والمركز، واتفاقٍ على شكل إدارة كل طرف، وهل سيبقى بنمطية خاصة به، أم مع باقي الأطراف أيضاً. ستبقى هذه الحدود هشّة وأمنية، حتى اتفاق السوريين على شكل علاقة الأطراف مع المركز، وخصوصاً من الناحية الاقتصادية والثروات وآلية صرف الضرائب، ووجود البيئة الآمنة التي تحدثت عنها عملية جنيف التفاوضية.
ويذكر أنه بعد أن نشر فرانسيس فوكوياما كتابه “نهاية التاريخ”، بالتزامن مع انتهاء الحرب الباردة، ومع كل ما شرحه عن الانتصار النهائي للديمقراطية الليبرالية، استدرك خطأه، وعاد ليعترف، مع حجم ما يملكه من شهرة وعلو في الوسط السياسي العالمي، باستعجال استنتاجه السابق، ليطرح كتاباً جديداً في 2018 “الهوية المطالبة بالكرامة وسياسة الاستياء”، طارحاً إلى حد عميق قوة القبائل المعاصرة بتجلياتها المخيفة، وشارحاً أن الهويات تشكل، عبر حِراكها وصراعها، ضغطاً لعدم إغلاق باب التاريخ.
وقد جاء طرح قضية الهوية الشعبية، عبر مفاهيم أخوة الشعوب والأمة الديمقراطية، في وقت شهد فيه العالم تراجع قيمة الهويات حاملاً جمعياً للشعوب، بعيداً عن الخصوصيات واكتفاءً بالهوية الجامعة الهشة، إلى ارتقاء قيمة الهوية والفرد عبر إطاره القومي السياسي، أو الديني، ولاحقاً الديني السياسي. إذاً، اعترف فوكوياما بخطئه، لكن الإدارة الذاتية لا تزال تصرّ على أنها عميقة في طرحها السياسي الذي يفوق مقدرة عقولنا الصغيرة!
تحدث أمين معلوف عن الهويات القاتلة كالثنائيات المتنافرة في الأوساط السوري والعراقي واللبناني، أكثر من غالبية دول المنطقة، فلا الشيعة والسنة اتفقوا منذ 14 قرناً، ولا السنة والعلويون اتفقوا في سورية، ولا العرب والكرد اتفقوا في أكثر من مكان. وفي ظل شلال الدم والمقتلة السورية، فإن العودة إلى الجذور والأصول على حساب الحسّ العام أصبحت ظاهرة فاضحة، وانتعشت معها عصبية الشعور الخاص بالأطراف والأقاليم والمناطق، ورُبما مزيد من الدمار، يُنعش مزيداً من الخصخصة والعصبية صوب القرى أو ما دون التجمع القروي.
يصطدم طرح أخوة الشعوب، مع مضمون المواطنة ومفهومها الذي تطرحه المعارضة السورية، وهو مفهوم بات يعيش في أبراج عالية، يُقتصر الوصول إليه على المرويات فحسب، بعيداً عن القيم الإنسانية النبيلة لحقوق الأفراد، الطبيعية والسياسية. بعد فشل مفهوم المواطنة في أغلب الدول العربية، وخصوصاً سورية والعراق ولبنان، بات من المستحيل إعادة إقناع المكونات بهذا الطرح، بعد تشظي الصراع الهوياتي بين المكونات، وخصوصاً أنها دعوة لم ترتبط باستعادة الإجماع عليه من المكونات الدينية والقومية المشكلة للمعارضة التي يُفترض بها التجانس والتوافق في الطرح السياسي ضمن الجسم السياسي كحيز للعمل والتحام الطروحات ضمن كيان واحد. وأكثر ما عرقل مفهوم المواطنة، خلال العقود الماضية، عدا عن الكبت والإلغاء السياسي، كانت المسائل الاقتصادية وحاجات الشعب المادية، والاستياء الذي صاحب حيوات الناس، وتحديداً الجيل الجديد، بسبب الفروق الاقتصادية الهائلة التي وجدت في دول تبنّت المواطنة وطرحتها، وحولت المواطن إلى شيء والوطن إلى مزرعة، وتلك الفروق ما كانت إلا بسبب النهب والفساد، أو تشكيل كيانات إدارية تسرق وتتيح المجال للفساد أكثر من العمل. وإذا عدنا إلى الواقع الكردي الحالي، فإن الفروق الفاحشة للطبقات الاقتصادية الجديدة، وسحق الطبقة الوسطى وإلغاءها، باتت من أبرز أحاديث الناس واعتراضاتهم، بسبب الفساد المالي المنتشر في المنطقة وصعود طبقات اقتصادية بشكل مخيف وسريع، قوام ثرواتها الأعمال اللاشرعية، مقابل بنية مجتمعية منخورة بالفقر والجوع.
في مقابل ذلك، يطرح المجلس الوطني الكردي نفسه حاملاً لطرح الدولة الاتحادية، لكنه يفتقد عقل العمل الميداني، وهو فقدان منعه وجود الفراغات والمساحات ضمن سياسات الإدارة الذاتية. ربما يكتب لهذا الطرح النجاح، لو تمكن الكرد من رفض الهوية المتولدة من مفهوم المواطنة، في ظل العداء الشعبي وعدم وحدة الشعب السوري حالياً. ويحتاج بذلك إلى مشروع جامع لمكونات ما تبقى من شرق الفرات، أو أن الحرب والتجهيل ومزيد من عزل النخب الثقافية والعلمية ستكون عناوين المرحلة المقبلة.
في عودة إلى مقدمة المقالة، يعيش الكرد صراعاً هوياتياً عنيفاً، كان للقوة الدولية دور مهم في ضبط إيقاعه ومنعه من الانزلاق صوب مزيدٍ من التصدّع والصراع والمواجهة المباشرة. ولا تزال الجهود مستمرةً في رأب الصدع، وخصوصاً أن “قوات سوريا الديمقراطية” تعيش القلق الوجودي لانسحاب القوات الأميركية في أيّ لحظة، أو إفساح روسيا المجال لقوات جيش النظام السوري بالانقضاض على مناطق نفوذ “قسد”، والمجلس الوطني الكردي يطلب أن يكون شريكاً في إدارة جديدة، وليس أن يصبح مشاركاً في الإدارة الحالية. إن كان الطرح الهوياتي مختلفاً بين الطرفين، ومتعارضاً مع طروحات المعارضة، ومتعاكساً مع دمشق، فإن الكرة تبقى في ملعب “قسد” لفعل ما هو مطلوب منها أوروبياً وأميركياً، وخصوصاً أنها (قسد) تسعى بكل ثقلها إلى الانضمام إلى المعارضة السورية طمعاً في المكاسب السياسية، ولا بوابة عبور لها سوى المجلس الوطني الكردي.
المصدر: العربي الجديد