المسألة الوطنية الكردية واحدة من المسائل الوطنية الأساسية لهذه المنطقة، وفتح ملفها ودعوة القوى السياسية العربية إلى الحوار من حولها وتحديد لموقف منها، إنما يتناول بالضرورة قضيتنا القومية العربية ذاتها، ومقوماتها ومبادئها، كما يتناول مسائل وحدتنا العربية وسبل تحقيقها “.
مؤلف هذا الكتاب صاحب قضية، قبل أن يكون باحثاً في تاريخ الأقوام والقوميات، وفي علوم التاريخ والاجتماع والاتنولوجيا وفي الجغرافيا السياسية، وإن كان قد أقحم هذه المواضيع كلها في بحثه، ليجعلنا نمسك معه بالقضية التي يبشر بها، وليحثنا على أن نتعاطف وإياه معها، وكأنه يريدنا أن نتحرك بأفكارنا ومواقفنا نحو إيجاد حل معقول وعادل لمسألة من المسائل الوطنية الصعبة التي تطرح نفسها على ساحة الشرق الأوسط والشرق العربي، وفي هذه المرحلة المتأزمة من مراحل صراعات المنطقة والعالم، ألا وهي المسألة الوطنية الكردية، والتي يكاد يجعل منها مسألة عربية – كردية. والتأكيد على القضية وما يرمي إليه الكتاب من أهداف، يبرز أمامنا منذ تلاوة صفحاته الأولى، وما أن يبحث في جغرافيا الأرض التي يسكنها الشعب الكردي كموطن ” أصلي ” له وفي معالمها وحدودها وتخومها وامتداداتها، ثم في السكان وأصولهم ومنابتهم. فالمؤلف في سياق كتابه كله، كثيراً ما نجده يقدم أمامنا قناعاته وأحكامه على الأمور، ويرد على القناعات المغايرة ويناقشها، من قبل أن يقدم عرضه الموضوعي للوقائع التاريخية والمصادر الاتنولوجية وللعوامل الثقافية والحضارية والأيديولوجية المتوافرة، أو هو يقدم لنا تلك القناعات في سياق البحث والعرض. فهو من خلال معايشته للقضية الكردية خلال فترة طويلة من الزمن، يعرف ما تطرحه هذه القضية من أسئلة ومسائل، وهو يرد عليها ويجيب، وهو يميل ويتعاطف ويحب، وإنما يتوجه في ذلك كله من منطلقه القومي العربي، بل ومن منطلق ” بعثي ” أيضاً.
فالأستاذ منذر الموصلي يريد أن يؤكد أمامنا على الوجود القومي للأكراد. وهو في هذا ” السفر ” الطويل، والذي سيتبعه كما يعدنا بدراسة مكملة تتناول جوانب أخرى من المسألة، يقدم لنا الكثير من المعطيات، سواء ما يتعلق بها بجغرافيا الأرض والوطن، أو ما يرتبط بالتاريخ ومصادره ومساراته، وبالثقافات التي تملكها هذه الجماعة الإنسانية وبالأيديولوجيات الدينية والمذهبية التي اعتنقتها، ويسرد ما هو قائم في تقاليدها وعاداتها وطباعها وأزيائها، ويسهب في الحديث عن عشائرها وأصولها وعن زعاماتها الأسرية ومنابتها. ويحدثنا عن عوامل تشتتها وتفرقها وعن عناصر تلاحمها ووحدتها. ويذكرنا بما قام لها في الماضي البعيد والقريب من ولايات وإمارات، بل ومن جمهورية إقليمية لم تعمر طويلاً. ويعرض ما بذل لها من وعود دولية أو ما أخذت به من أحلام وطموحات. إنه ليسوق هذا كله وكأنما يريد القول، أن أولئك القوم المتحدرين من ذلك الشعب العريق، الجبلي المقاتل الشجاع، والذين تسموا من خلال هذه المزايا والصفات، كرداً وأكراداً، إنما يحملون مقومات جماعة متماسكة عبر تشكلها التاريخي ومقومات شعب، ليكون من حق هذا الشعب أن يستكمل مقومات وجوده القومي كأمة، وأن يكون له كيان قائم بذاته ووطن. ومن الممكن بل ومن الحق أن يقوم كيان قومي لهذا الشعب، أسوة بغيره من القوميات والأمم. هذا إذا ما أردنا أن ندفع بالمعطيات التي يقدمها المؤلف والاستنتاجات التي يستخلصها إلى نهايتها. وهو إن لم يقلها تأكيداً فإنها تبقى في المضمون. فهناك شعب يناضل منذ عشرات السنين في عدد من أقطار المعمورة، وبإصرار وتصميم وبذل وتضحيات كثيرة ليحظى بالاعتراف بوجوده القومي، وليصل إلى هذا الحق كاملاً غير منقوص.
إن صاحب هذه القضية ليس ولم يكن كردياً، والقضية الكردية ليست قضيته التزاماً من حيث أنه ينطلق من منطلق قومي في النظر إلى وجود الشعوب والأوطان والدول والعلاقات فيما بينها. أما قضيته الأساسية فهي قضية القومية العربية والالتزام بمشروع لتحرر الأمة العربية وبناء وحدتها وتقدمها، ومن هذا المنطلق يأتي إلى القضية الكردية، وإلى القومية الكردية كحق طبيعي وإنساني، وكحقيقة تاريخية لشعب مضطهد وممزق ومازال يمسك به الانقسام والتخلف، ليصبح شاغل المؤلف بل والقضية التي يتمسك بها، أن لا يقوم تعارض أو تصادم بين القومية العربية والقومية الكردية، وأن لا يقوم بين الشعبين العربي والكردي تحارب أو عداء، وأن لا يتصادم المشروع العربي للتحرر والوحدة، في أي موقع أو مرحلة، مع المشروع الكردي في أن يكون للشعب الكردي وطن وكيان. وهكذا فإن المؤلف يمضي في كتابه من البداية إلى النهاية ليؤكد على التواصل العربي الكردي، وعلى ما يؤلف بين الشعبين من روابط تاريخية ودينية وثقافية. فتاريخ الإسلام مشترك بينهما ومن معتقداته وقيمه الأخلاقية يستمدان جل مقومات كل منهما الثقافية والأيديولوجية، وهناك النضال المشترك الذي خاضاه عبر مراحل التاريخ، حيناً في خطوط متوازية وأحياناً في وحدة واندماج ضد الغزاة، سواء القادمين من الغرب أو الوافدين من أقاصي الشرق والشمال. ويقف بنا مثالاً وتفصيلاً عند الدولة الأيوبية التي قامت كياناً عربياً – إسلامياً تحت قيادة وحكم أسرة كردية المنبت والأصول. تلك الدولة التي يعتز بها كل عربي كمأثرة من مآثر تاريخه وكملحمة من ملاحم نضال أمته. ثم أن كلاً من الشعبين وقع تحت وطأة الظلم وعهود الإقطاع والاستبداد الشرقي وفي ظلمة الغيبية والتغييب عن مسرح التاريخ. وكلاهما وقع تحت وطأة عهود التأخر وتحت تعسف الامبراطورية العثمانية وطغيان حكامها. ثم جاء الغزو الكولونيالي الغربي ليبسط نفوذه على المنطقة التي يعيشان فيها كلها. لقد قامت الدول الاستعمارية المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، ومن خلال تصفية التركة العثمانية وتقاسم مناطق النفوذ والسيطرة في العالم، باحتلال الشرقين الأوسط والأدنى، وأقامت حدوداً للأقطار والأقاليم وتوازعت الانتداب عليها، وفقاً لما سمي بالنظام الشرق أوسطي. وإذا كان ذلك النظام في التجزئة والتقسيم الذي أقامه النظام الاستعماري الكولونيالي، ثم جاء الاستعمار الجديد بصورته الامبريالية الرأسمالية يؤكده، قد أقام حدوداً فاصلة وسدوداً إقليمية بين شعوب أقطار المشرق العربي، ليضيف إليها فاصل الكيان الصهيوني كاستعمار استيطاني توسعي، فإن ذلك النظام لم يبق للشعب الكردي من أرض ولا وطن، بل هو بعثر الشعب كما وزع الأرض التي يعيش في حمى وديانها وجبالها وبين بحيراتها وأنهارها، بين أقطار عدة لأمم مختلفة. وإذا كان ” الحلفاء ” الغربيون قد أعطوا وعداً للوطنيين الأكراد، بإمكانية تأييدهم ليقام دولة مستقلة لهم في كردستان العليا من خلال تصفية تركة الامبراطورية العثمانية المهزومة في الحرب، كما جاء في معاهدة سيفز لعام 1920 فإنهم ما لبثوا أن مسحوا ذلك الوعد كله في معاهدة لوزان لعام 1923 التي جاءت إرضاء لدولة أتاتورك التركية ولكسبها إلى حلفها الغربي، وبذلك تم وضع معظم أراضي المنطقة المسماة بكردستان في إطار حدود الدولة التركية الجديدة، ولم تشترط تلك المعاهدة على تركيا، كما لم يشترطوا على بقية أقطار المنطقة المتاخمة والواقعة تحت الانتداب، والتي يتواجد على أراضي ضمن حدودها المرسومة دولياً شعب كردي، كالعراق وإيران، إلا مبدأ ” احترام الحريات الثقافية والمدنية والسياسية لكل الأقليات “، الذي جاء هكذا على وجه التعميم.
إن المشروع العربي للتحرر القومي والوحدة، قد اصطدم ومازال يصطدم حتى الآن، وإن عبر صيغ متغيرة، بذلك النظام الشرق أوسطي للهيمنة الامبريالية على المنطقة، بكل ما يحمله ذلك النظام وما يتداخل في تركيبه ويتوالى على تأكيده من مصالح وتوازنات دولية وقوى خارجية، وبكل ما يمسكه ويتمسك به من تناقضات محلية وكيانات مصطنعة ومصالح إقليمية وفئوية. إن حركة التحرر العربي لم تستطع اختراق ذلك النظام أو كادت إلا إبان موجة نهوضها الشعبي العارمة، في مرحلة النهوض الناصري، وما حققته من وحدة القطرين المصري والسوري ومن إسقاط حلف بغداد في بغداد، وهزم سياسة الأحلاف الدولية والقواعد العسكرية والامتيازات الأجنبية، بدءاً من تأميم قناة السويس، وكلنا يعرف ما قام في وجه ذلك الاختراق دفعاً على طريق وحدة أمتنا، من تآمر استعماري دولي ومن تواطؤ رجعي محلي، ومن حروب وحملات عدوانية تأتي بين شواهدها الكبرى حرب السويس عام 56 والعدوان الكبير في حرب حزيران عام 67، وما أعقب ذلك من حركات ردة وارتداد وصولاً إلى حرب لبنان وإلى التفجر الطائفي في لبنان، وإلى محاولة إيقاع المنطقة كلها في الانقسام الطائفي والصراعات الإقليمية. وإذا كان هذا بعض ما تعثر به المشروع القومي العربي وما قام في وجهه أو مازال يقوم، من معوقات كثيرة، مع كل ما هناك من تواصل بين الأقطار العربية ومن مقومات وحدة نضال ومصير بين شعوبها وقواها الشعبية وما لها من مؤسسات مشتركة، فإن أمام المشروع القومي الكردي وأمام قدرته على اختراق ذلك النظام الشرق أوسطي التجزيئي، مع كل ما تداخلت فيه من معطيات جديدة ومن صراعات وتعجزات، عقبات تبدو كبيرة ومسائل أشد تعقيداً.
وإذا ما وقفت هنا لأؤكد أن يقظة القضية القومية العربية أكثر سبقاً ومقوماتها أكثر تركيزاً في الزمان والمكان وأكثر تكاملاً من حيث مراحل التطور، في الاقتصاد والثقافة والسياسة فليس هذا لأنتقص في شيء من الحقوق القومية للشعب الكردي، ومنها حقه الأول في تقرير مصيره بنفسه، وحقه في حياة حرة كريمة على أرضه التي يتواجد عليها منذ أجيال بعيدة، وأن يكون له كيان ووطن.. إنه شعب يناضل بإصرار في سبيل أن يكون له وجود قومي ووطن، والمصادر التاريخية تقول لنا أن ثورات هذا الشعب، مازالت تتوالى منذ بدايات القرن التاسع عشر حتى اليوم، وقد بلغت ذروتها بعد الحرب العالمية الثانية.
ولكن في أي مصب راحت تصب هذه الثورات، بل الانتفاضات وحركات التحرر والعصيان، وعلى أي طريق تمضي، وإلى أية أهداف مرحلية أو بعيدة تهدف، وأين تلتقي ومن أي منظور تاريخي واستراتيجي تنظر؟ ذلك ما يبقى سؤالاً مطروحاً، وكذلك يبقى سؤالنا ” القضية ” هنا، وهو كيف يمكن للمشروع العربي الوحدوي أن يتقدم، وأن يعم سورية ويصل إلى العراق، من غير أن يتصادم مع تلك الأهداف الوطنية الكردية، أو أن تأتي لتعترض سبيله، في وقت تتداخل فيه الأرض الوطنية والمواطن البشرية، وتتصارع مصالح إقليمية وأخرى دولية، وتتشابك أيديولوجيات وقوى، وتقوم تحالفات منها الوطنية ومنها غير الوطنية، كما تقوم صراعات نظم وقوى حزبية تشد في هذا الاتجاه أو ذاك، وتغذى عصبيات كانت لمراحل ما قبل القومية وهي ما دون الوطنية، وقد تصد عنها وتشتت أهدافها ووحدتها.
فكيف للمشروع القومي الكردي، إذا ما أعطيناه أبعاده كمشروع تحرر وطني ووحدة شعب وأرض، أن يتلاقى ويتعاون، وأن لا يتعارض أو يتصادم، مع الأهداف والمطامح العربية التحررية والوحدوية، في إطار الظروف الراهنة المطبقة على المنطقة.
وإذا ما وقفنا مع المؤلف نؤكد على القربى والإخاء وروابط الدين والتاريخ، فهل حال ذلك كله دون نشوب ذلك الصراع الدامي، والذي طال وتوالت حلقاته على أرض العراق العربي ومن حوله؟ وهل حال أيضاً دون أن تأتي العديد من الحركات والتحركات السياسية الكردية تعترض سبيل المشاريع والتحركات العربية الوحدوية؟ وفوق ذلك أولم يشر الكثيرون إلى أن بين العوامل التي جعلت بعض الأحزاب الشيوعية العربية تعارض مشاريع الوحدة بين مصر وسورية ثم بينهما وبين العراق، العصبية الكردية التي كانت تشد بعض قيادات تلك الأحزاب لتقف موقفاً لا قومياً من قضية الوحدة العربية، ولتقف إلى جانب القوى السلبية التي فوتت على أمتنا فرصة من الفرص التاريخية الكبرى؟
وإذا جئنا إلى سورية أخيراً وإلى التعامل القومي العربي – الكردي فيها، وحيث لم تقم هناك مشكلات أو إشكالات بارزة من هذه الناحية، فهل حالت القرابة والقربى، بل والاندماج الوطني لكثير من الأكراد، دون أن يعتمد نظام الحكم، ذات يوم، خططاً وإجراءات في منطقة الجزيرة وشمالي سورية، أقل ما يقال فيها أنها غير عادلة وغير إنسانية، تجاه المواطنين الأكراد المتواجدين في تلك المنطقة وتجاه النازحين إليها هرباً من اضطهاد السلطات التركية. فمنذ عام 1967 أقامت الحكومة السورية ما يسمى بالشريط العربي أو الحزام العربي توطيناً وتمليكاً، كما حجبت عن كثير من الأكراد المقيمين في تلك المنطقة الجنسية والهوية السورية، بما في ذلك العديد من الأسر التي استوطنت هناك منذ زمن طويل ولها من مواطنيتها السورية أباً عن جد، فهل هي الشوفينية تأخذ مجراها، أم هي احتياطات غير موفقة تقدم تبريراً لها التحسب تجاه ما قد يراود بعض القوميين الأكراد، من إيجاد وطن بديل على الأراضي السورية، لما حيل بينهم وبينه في بلدان مجاورة؟
إن المؤلف لا يريد أن يتعصب لعروبته وحدها، ولا يريد أن يأخذ بالوطنيين العراقيين والسوريين أو بالقوميين العرب عموماً، التعصب والنزعات الشوفينية ومقولات التمثل والدمج، كما ولا يريد للقوميين الأكراد أن تأخذ بهم العصبيات أو أن يحجب عنهم التعصب رؤية الواقع والممكن. وهو يعرض أمامنا المآخذ التي يأخذها على ” غلاة الأكراد ” والمتطرفين منهم، أولئك الذين يحرفون وقائع التاريخ والحدود الجغرافية فيمدون أرضهم الوطنية حسب دعوتهم وتصوراتهم، فوق أراضي الآخرين وأوطانهم، ويشدون تخومها ومراميها إلى الخلجان والبحور، وبذلك لا يعود تطلعهم مجرد تطلع إلى موطن فعلي أو وطن لشعب مقيم، وإنما لما يشبه الامبراطورية الكردية، وهذا ما ينعكس سلباً على المشروع القومي الكردي نفسه كمشروع تحرر وطني لشعب يريد لنفسه حرية تقرير المصير ويريد وحدته، ويريد أن يلتقي بحركات تحرر الشعوب ويتعاون معها. وهو كما يقيم تصادماً بين الحركات الشعبية في المنطقة، يقيم الانقسام أيضاً داخل الشعب الكردي نفسه، كما يفسح مجالاً كبيراً للزعامات الإقطاعية والعشائرية والأسرية، ولتمسك بزمام الحركة الوطنية الكردية، من خلال نزعاتها العصبوية وعقليتها المتخلفة وإثاراتها الشوفينية، وهذا ما يترك السبيل ممهدة أمام تدخل اللعبة الدولية وصراعات النفوذ في المنطقة لتحكم مسارها ولتحرف هذه الحركة عن أهدافها الوطنية المباشرة، بما تشد إليه مثل هذه الزعامات من مصالح خاصة وفئوية، ومن علاقات تابعية ومن ارتباطات خارجية.
إننا نجد أنفسنا هنا أمام إشكالية سياسية واستراتيجية تطالب بإجابات عليها، وتفتح باباً للحوار، وتطالب بالوضوح وتحديد المقاصد والأهداف، القيادات السياسية والحزبية المتقدمة إلى ساحة الفعل والتأثير في كل من الجانبين. وإذا كان المؤلف لم يطرحها بصيغتها المباشرة في كتابه، فإنها تظل تطل علينا من كل جوانب عرض المسألة في الكتاب، وما أن نريد الوصول بها إلى غاية، وما أن نحاول الانتقال من سياق العرض التاريخي الذي يقدمه، إلى معترك الأحداث الراهنة في الساحتين العراقية والإيرانية وما بينهما، وكذلك على أرض كردستان تركيا. وإلا فماذا يبقى من هدف للكتاب بعد طول الشرح والتفصيل للجذور والمقومات القومية، إلا أن يضعنا أمام توجهات، وأمام معايير لتبديد هذه الإشكالات، ولإزالة أسباب التصادم بين حركتي التحرر العربية والكردية.
إن ما ورد في الكتاب لا يصل بنا إلى طرح محدد لهذه الإشكالية ولعله يتفاداها. بل هو يعترض طرحها وينفي مبرراتها من خلال التأكيد على العوامل والعلاقات الإيجابية، وهو يقف عند الحلول الراهنة التي يقدمها الحكم العراقي لتسوية المسألة الكردية ولوضع حد للصراع المدمر الذي دار حولها على أرض العراق، كتعبير عن هذه الإيجابية من غير أن يخوض في خلفيات ذلك الصراع ومجريات أحداثه وتطوراته. والمؤلف يأتي هنا ليؤكد مجدداً على التسامح العربي المنزه عن العصبية والتعصب، ويأتي ليدافع عن الموقف البعثي ” الأصيل “، وما أعطاه أو ما يقدمه الحكم البعثي في العراق لأكراده من فرص وإمكانات لتعزيز ثقافتهم القومية ووجودهم الوطني. وهو على هذه الصورة إنما يعطينا الجواب من غير الخوض في مقدماته ولا البحث في متمماته، فهل يكون بذلك قد أنهى الإشكال أو قدم حلاً للمشكلة؟
ليت أن الأمور كانت كذلك، ولكن ليعذرني إن قلت بأن عواطفنا الشخصية الطيبة ليس لها من دور فاعل في اللعبة السياسية الكبرى التي تطبق علينا وتجري من حولنا، وإن الإشكالية قائمة وهي تطالبنا جميعاً بالوضوح، وضوح الأفكار ووضوح المواقف والمقاصد.
ما أظن أن قناعات مؤلف هذا الكتاب أو منظوراته للقضية التي يعرضها يمكن أن تتوقف بهذه القضية أو أن توقف حركة تاريخها عند هذه النقطة الراهنة والحلول الجارية وكأنها محط الرحال، من غير تدارك لدروس الماضي ومن غير تحديد لمنظور مستقبلي لها. فهل أن التعقيدات السياسية الكثيرة التي تحيط بها وبنا في المرحلة التاريخية الراهنة التي تمر بها الصراعات الدائرة في المنطقة ولعبة التوازنات الإقليمية والدولية ولعبة المصالح الكبرى المتزاحمة، أصبحت تسد الطريق أمام الآمال القومية الكردية أو تبقيها معلقة، كما جمدت وعلقت الكثير من طموحاتنا العربية الوحدوية وطعنت أو فوتت علينا العديد من فرص تحقيقها… أم هل هي تجعل الخوض في هذه المسألة ضرباً من المخاطرة الذهنية أو بالأحرى السياسية، والتي لا تضمن عواقبها؟
لقد رضيت لنفسي هذه المخاطرة منذ أن رضيت التقديم لهذا الكتاب، والمسألة الوطنية الكردية واحدة من المسائل الوطنية الأساسية لهذه المنطقة، وفتح ملفها ودعوة القوى السياسية العربية إلى الحوار من حولها وتحديد لموقف منها، إنما يتناول بالضرورة قضيتنا القومية العربية ذاتها، ومقوماتها ومبادئها، كما يتناول مسائل وحدتنا العربية وسبل تحقيقها.
لقد بدأت من القول بأن مؤلف هذا الكتاب له التزامه الفكري السياسي بقضيته القومية العربية ووحدة هذه الأمة. ولكن قضيتنا القومية ذاتها هي اليوم أيضاً في مأزق صعب وأمامها تحديات كثيرة، ونحن عندما نبحث في المسألة الكردية ومستقبلها، فلما لها أيضاً من تداخل مع قضيتنا القومية ومن علاقة بها، وعندما نسأل عن مستقبلها فلأن له علاقته بمستقبلنا. هذا عدا ما يلزمنا به المنطلق المبدئي، الأخلاقي والإنساني، وما تلزمنا به الأهداف المشتركة لحركة تحرر الشعوب في العالم.
ولعل مؤلف هذا الكتاب ما دفع إليّ به لأقرأه وما طلب مني أن أقدم له إلا لما يعرفه من موقفي تجاه هذه القضية وبأنها تعنيني، هذا فوق ما بيننا من ودّ قديم. لقد جاء يذكرني بأيام خلت ومواقف لنا من هذه القضية وغيرها كانت مشتركة، عندما كنا رفاق درب واحدة، تحدونا آمال كبيرة باقترابنا من تحقيق أهدافنا القومية، ثم تفرق مسارنا وافترقت مواقفنا. وهو إذا ما ظل كما أحسب على الحنين إلى ” البعث ” القديم أو على الوفاء له، فإن منهج حزب ” البعث ” لم يعد نهجاً لي منذ زمن طويل، فلقد خرجت منه وخرجت عليه ووقفت في معارضته منذ عام 1963، أي منذ أن أصبح البعث دولة ونظام حكم، ثم أصبح نظماً مختلفة وشيعاً. ولقد جاء هذا الافتراق من خلال اجتهاد كان لي ومازال، في أن بعض قيادات حزب البعث منذ أن أخذ بها النزوع للسلطة والتفرد بها، وقفت لتعترض طريق المنهج القومي الناصري في إنجاز مهمات الثورة العربية كثورة قومية ديمقراطية، وليفوت على نضال الأمة فرصة تاريخية لتحقيق وحدتها، الفرصة التي توفرت لها بنهوض قيادة عبد الناصر التاريخية ونهوض مصر عبد الناصر، وما أمكن حتى الآن التعويض عن فوات تلك الفرصة، إلا بهذا التقهقر الكبير الذي تراجعت إليه قضية تلك الثورة وجماهيرها وقواها. وأنا اليوم من الذين مازالوا يعتزون بناصريتهم، ويأخذون بمنظور مستقبلي ومتجرد لها. وما أتيت على ذكر الانتماءات هذه وتحديدها، إلا توضيحاً للمنطلقات التي نتوجه منها إلى تحديد مواقفنا من القضايا القومية التي يعرضها هذا الكتاب، وأولها ما يتعلق بموقفنا كقوميين عرب من قضايا القوميات الأخرى والأقليات القومية الموجودة ضمن الحدود المرسومة للوطن العربي ولعدد من الأقطار العربية، ومن قضية القومية الكردية تخصيصاً. وأستبق ما سنأتي على سرده من أحداث مرت ومواقف مضت لها دلالتها بهذا الشأن، لأذكر بأن جمال عبد الناصر كان دائماً ينطلق من موقف وطني متفتح، ولقد جاء في عدد من مواقفه ومنذ عام 1959 أي منذ أن خرجت المسألة الكردية نفسها بشكل جاد على مسرح الأحداث في العراق وعلى العلاقات العربية والمشاريع الوحدوية، كان يؤكد دائماً على الإخاء العربي الكردي وعلى ضرورة إزالة كل أسباب التصادم بين الشعبين العربي والكردي، وكان يدفع دائماً لتأييد مشاريع التوفيق بينهما في العراق، كما كان في طليعة القادة العرب القوميين الذين أكدوا على مبدأ حق الشعب الكردي في الحصول على حقوقه القومية.
وعندما جاءني الأخ منذر بكتابه هذا، رحنا نسترجع معاً تلك المواقف التي سبقت تجاه هذه القضية، وعدنا نسترجع بعض الذكريات التي تدور حول المسألة التي يطرحها كتابه. ولقد كان حاضراً في ذهني دائماً الهواية الصحفية للأستاذ الموصلي، تلك الهواية التي أخذت كبيراً من اهتماماته وعمله في مرحلة مبكرة من شبابه، ومن قبل أن ينهي دراسته وأن يأخذ مواقعه المتدرجة في عمله كضابط وخلالهما. ولقد اشتركنا معاً عام 1956 في إعادة إصدار جريدة ” البعث ” الأسبوعية وبناءً على تكليف القيادة.. كنا أربعة قد تولينا هذا الواجب آنذاك. الرفيقان الآخران هما عبد الكريم زهور وجلال فاروق الشريف. ولما كنت أعهده بالمؤلف من هواية ودراية صحفية فقد طلبت منه أيضاً في آذار 1959 وألححت ليترك عمله كضابط وليأتي ويؤدي واجبه في مجال آخر ويأخذ مكانه إلى جانبي في العمل الصحفي رئيساً لتحرير جريدة ” الجماهير ” التي أصدرتها آنذاك بتكليف من الرئيس عبد الناصر أيام الوحدة. ولم تساعد الظروف على مشاركته، وتلك الجريدة لم أستطع الاستمرار بها لأكثر من مائة يوم. كما دعوته مرة ثانية للمشاركة معي واستلام منصب إعلامي كبير ” مدير عام هيئة الإذاعة والتلفزيون ” عندما استلمت وزارة الإعلام لفترة لم تطل، بعد حركة 8 آذار عام 63، وحالت الظروف في المرة الثانية أيضاً دون مشاركته. هذا ولا بدّ بهذا العرض من ملاحظة أن تلك الهواية الصحفية للمؤلف تبرز أمامنا في كثير من الاستطرادات التي يستطرد إليها في عدد من فصول كتابه. لقد بعدت تلك العهود التي أشرت إليها وباعدت بيننا ولكن تجربتها كان لها دورها في تحديد توجهات كل منا. وهو عندما جاءني اليوم بعد انقطاع طويل، لأشاركه قضيته في كتابه هذا لم أستطع أن أتخلف، ولا يحدوني في ذلك، تجديد المودة والتعويض عما فات، وإنما لأن القضية التي يعرضها تعنيني سياسة وفكراً، ولأدفع معه لما يدفع إليه من تجديد للحوار حول مسألة أشغلتنا معاً، وهي مازالت مطروحة وإن في صيغ قد اختلفت بالضرورة بتغير الظروف والأدوار، وهي مسألة العلاقات العربية الكردية وما يتشعب عنها من مسائل.
وإذا كنت قد أشرت إلى المنطلق ” البعثي ” الذي ينطلق منه المؤلف في منظوره القومي العربي وفي موقفه من قضية القومية الكردية والتعامل معها، وهذا ما يبرز أمامنا كمواقف يتخذها وأحكام يطلقها في عدد من فصول كتابه، فلأشير بالمقابل إلى أن حزب ” البعث ” في إطاره العام لم يكن دائماً موحداً في موقفه من هذه القضية، وهو مازال، شأنه في ذلك شأن العديد من القوى والأحزاب القومية العربية، لأنه لم يكن موحداً بالأساس من حيث منظوره القومي العربي ذاته. والدليل ما قام داخله من صراعات بين يمين ويسار، وحول قضية الوحدة والانفصال، ثم ما آلت إليه الأمور عند التطبيق وعندما أصبح حزب البعث حاكماً أو مؤثراً في الحكم في أكثر من قطر عربي. وكذلك ما كانت عليه مواقف أطراف أو حكومات بعثية من المطالب والتحركات الوطنية الكردية، وما سارت إليه في أشكال التعامل أو التقاتل معها.
لقد كان هناك في حزب البعث تيار أساسي يتطلع من منظور إنساني وديمقراطي تقدمي، في مقولاته القومية وفي العمل لبناء وحدة الأمة ودولة هذه الأمة، وفي التعامل مع القوميات الأخرى ومع حركات تحرر الشعوب في العالم. وذلك التيار لم يكن يقف عند الاعتزاز بأمجاد الماضي ودعوات الرجعة، وكان ينكر الشوفينية ويرفض العصبيات والتعصب والتمايز الفئوي وكل أشكال الظلم والاستغلال، وكان يتطلع من منظور مستقبلي إلى بناء دولة قومية ديمقراطية حديثة. وأذكر بهذا المعرض واقعة شهدتها في صيف عام 1957 عندما شاركت في وفد بعثي حزبي لمؤتمر عُقِد في أثينا للحركات الوطنية في دول البحر الأبيض المتوسط، تحت شعار التحرر الوطني ومكافحة الاستعمار، وكان الموضوع الأول في جدول أعماله التعاطف مع الثورة الجزائرية. ولقد دخل على ذلك المؤتمر نفر من القوميين الأكراد، راحوا يطرحون في كواليسه على الوفود قضيتهم ويوزعون عليها منشوراتهم وينددون بما يعانون من قهر واضطهاد في عدد من الأقطار. ولم تعرض تلك القضية في الجلسات الرسمية للمؤتمر واستُبْعِد طارحوها، إلا أن الجواب عليها من الجانب العربي، جاء في الكلمة التي ألقاها الأستاذ ميشيل عفلق الأمين العام لحزب البعث ومنظّره ذلك الحين، إذ وقف يتحدث عن المعاناة التي مرت بها ومازالت تمر الأمة العربية، من ظروف الظلم والاستعمار، وما فرض عليها من تجزئة وتخلف واستغلال وعما ترسخ في وجدان شعبها بحكم تلك المعاناة، من معان إنسانية عميقة ومن تطلع للتحرر الكلي للبشر. وكان في أقواله ما يعني أن حركة التحرر العربي، حين تتطلع من منظور قومي للمستقبل، وحين تحرص على حقها في الوجود كأمة وعلى تحررها الكامل ووحدتها، فهي بالضرورة لا يمكنها إلا أن تنظر من منظورها الإنساني ذاته لبقية الشعوب والقوميات المظلومة والمقهورة، فأمتنا العربية التي عانت التجزئة والاضطهاد والاستعمار طويلاً لا يمكن لها وهي تنهض اليوم مناضلة لتحقيق أهدافها، أن تقبل لنفسها اضطهاد قوميات أخرى تعيش في جنباتها أو على تخومها، وهي إذ تنشد حريتها فإنها تريدها في الوقت ذاته لشعوب العالم جميعها.
ولقد كان لتلك الكلمة وقع طيب على المؤتمرين، لما أسبغته من جو إنساني وروحي على المسائل، فصفقوا لها طويلاً، وتوقف الجدال والنقاش، وكأنها جاءت الرد والجواب.
تلك كانت مبادئ ومقولات، ومن بعدها جاءت ممارسات وضعت القائلين بها على المحك، وقامت لهم أنظمة وحكومات، ووقعت مفارقات وتغيرات. ولكن مؤلف الكتاب ظل على تلك المبادئ والأفكار، وظل على الولاء لذلك التيار الإنساني الديمقراطي في أحكامه على الأمور، ولم يبدلها مع تبدل المواقف والأزمان. وأنا مع المؤلف من حيث منطلقه المبدئي الرئيسي، وإن اختلفت معه حول عدد من التفاصيل. فقد أخذت عليه مثلاً العودة إلى مقولة ” الرسالة الخالدة ” في شعار البعث ليدلل على التمسك بالمبادئ والعهود، ورجوت أن يكون ذلك الشعار قد جرى على لسانه بحكم العادة كما هو الأمر بالنسبة لكثيرين غيره، ومن غير تمحيص، فمثل تلك المقولة ” الشعار ” عن الرسالة الخاصة للأمة وخلودها، تتنافى كل المنافاة مع النزعة الديمقراطية والإنسانية التي أخذنا بها، وتردنا إلى المنظورات القومية الشوفينية والامبراطورية، وتدفع للتمييز والتمايز وتبرر لنزعات السيطرة والشمولية والتسلط، وهي بذات الصورة التي تعطى بها صفة الإطلاق والمطلق للأمة تعطيها بالنتيجة أيضاً لحزبها ولزعامة الفرد. إلا أن ما جاء عليه المؤلف في كتابه، يدحض مثل هذا التوجه ويرفضه. وهو لا يقف عند الدعوة للإخاء العربي الكردي، بل ويؤكد على الانتماء الوطني وعلى المواطنية الحرة لكل من الشعبين، ويرفض الدعوات العنصرية والتمايزات الفئوية.
لعلني خرجت عن موضوعات الكتاب ومقاصده المباشرة عندما أخذت هذا المنحى في الربط بينها وبين منظوراتنا القومية. ولكن أوليس المنحى الذي نتخذه في تصورنا لقضيتنا العربية ووحدة أمتنا، والنهج الذي تسير عليه قوانا السياسية وأنظمة الحكم في معظم البلدان العربية، في معالجة مسائلنا الوطنية، وما تقوم عليه العلاقات بين الحاكمين والمحكومين في أقطارنا، هي التي تحدد من حيث الواقع والنتيجة طريقة فهمنا للقوميات الأخرى وتعاملنا معها؟
فالقومية عندما تأخذ بها النزعة للشوفينية، لا تعود تنظر إلا بهذا المقياس للقوميات الأخرى، أي من خلال عصبيتها وتعصبها. والدولة القومية التي يقوم نظام حكمها على الاستغلال والتمايز الطبقي أو الفئوي، هي التي تنحو نحو استغلال الشعوب الأخرى واضطهادها. والنظم التي تقوم على التسلط والاستبداد، فهي بمقدار ما تضطهد شعبها ذاته وتفرض عليه هيمنة سلطاتها وتستخف بإراداته الوطنية الحرة، تضطهد أيضاً الأقليات القومية أو الشعوب القومية الأخرى المقيمة على أرضها أو على تخومها وتعمل لبسط السيطرة عليها وتستخف بحقها في تقرير المصير.
إن هناك نقطة مبدئية أعتقد أنني ملتق فيها مع مؤلف هذا الكتاب، من حيث منظورنا القومي الديمقراطي بل والاشتراكي أيضاً. فبمقدار ما نقترب من المفهوم الديمقراطي للوطن والمواطنة والسيادة الحرة للشعب في بناء نظمنا الوطنية وفي إنجاز مهمات تحقيق وحدتنا العربية، فإن مسألة الجماعات القومية غير العربية المقيمة في هذه المنطقة أو تلك من وطننا العربي، والتي لم تندمج بنا في الماضي وتحرص على وجودها القومي الخاص وخصوصيتها، لا بدّ أن تطرح نفسها علينا من خلال ذات المعايير الديمقراطية والإنسانية التي توجه مسارنا، ولا بدّ أن نقف منها الموقف الذي أردنا في تحررنا القومي، أي أن تكون لها إرادتها الوطنية الحرة وحقها في تقرير المصير.
كذلك، بمقدار ما نقترب من التطبيق الاشتراكي كصيغة في البناء الاجتماعي والاقتصادي لدولنا الوطنية أو لدولتنا القومية الموحدة، وكموجه للعلاقات بين القوى المنتجة ووسائل الإنتاج، والعلاقات بين المواطنين والدولة الناظمة لتلك العلاقات، أي بمقدار ما ينزل حكم الطبقة المستغلة والفئة المتسلطة وحكم الأسرة والعشيرة والفرد، ليقوم حكم الشعب والمصلحة العامة للشعب بالاحتكام لحاجاته الأساسية، أي بمقدار ما نقترب من المساواة بين المواطنين وتذويب الفوارق بين الطبقات ومن العدالة الاجتماعية، فإننا نقترب إلى صيغة سليمة وعادلة في العلاقات بين الشعوب والقوميات، وفي التقريب فيما بينها وإزالة أسباب تصادم مصالحها وأهدافها.
فلا بدّ أن تكون مثل هذه التوجهات واضحة، لا في مقولات أحزابنا القومية العربية والشعارات التي ترفعها فحسب، وإنما في ممارساتها والمواقف الفعلية التي تتخذها لكي نصل إلى إزالة أسباب التصادم، وإلى إيجاد صيغة للتعاون بل والتحالف الاستراتيجي أيضاً بين حركة التحرر العربي الوحدوية، وبين الحركة الوطنية التحررية الكردية، ولكي نصل من ذلك إلى الحلول المرحلية المناسبة للوجود القومي الكردي داخل الحدود المتعارف عليها دولياً لقطر عربي واحد بالتحديد أو لأكثر من قطر، ومن خلال منظور مستقبلي له ملامحه العامة الواضحة، بحيث لا يعترض سبيل برنامجنا القومي الوحدوي، ولا يقطع طريق التطلعات القومية الكردية، والتي لا تقف عند حدودنا العربية بل تتعداها في كثير إلى دول مجاورة وقوميات مختلفة. ومثل هذا التوجه يمكن أن يقدم حلاً أو طريقاً لحل، لا للمسألة الكردية في العراق وحده بل وللمطالب الوطنية والاستقلالية لمجموعات قومية أخرى كما هي الحالة بالنسبة لسكان جنوبي السودان. فالحركة القومية العربية حين تتركز مقوماتها الديمقراطية والإنسانية والتقدمية، وحين تسير كما سارت أيام النهوض الناصري في نهج قاطع ضد الامبريالية وضد كل أشكال السيطرة أو الهيمنة لشعب على غيره، ولدولة أو كتلة دول على غيرها، فإنها لا تقبل لنفسها ولا تريد بأية حال أن تفرض سيطرتها ولا الدمج والاندماج، على أي شعب آخر أو أية أقلية قومية تعيش في حيثياتها.
لقد أردت أن نبدأ بأنفسنا كعرب وأن نحاسب ونطالب أحزابنا ونظمنا، قبل أن نحاسب ونطالب الأطراف القومية المقابلة، وأن نراجع مواقفنا وممارساتنا بل وأفكارنا أيضاً بهذا الشأن، وأن نحدد أهدافنا القومية والمسار الذي نتبعه لتحقيقها، قبل أن نحاصر الطرف الآخر ونسائله ولعلنا بذلك نستطيع تضييق أسباب الافتراق والخلاف ونقطع طريق التناحر والاقتتال، ولعل الوضوح الذي نعطيه لاتجاهنا القومي يساعده على أن يكون هو أيضاً موحداً في اتجاهه وواضحاً. ولكن من المطلوب أيضاً من الطرف الآخر أن يراجع مساره وأن يحدد هو أيضاً أهدافه والمراحل التي يمكن أن يمر بها للوصول إليها والوسائل التي يتبعها لبلوغها. وإذا ما أشرنا إلى الأخطاء التي وقعت أو تقع فيها نظم أو قوى قومية عربية، فإن الحركات الوطنية الكردية وقعت في أخطاء وانقسامات أفدح، وسارت في مسالك متعثرة، ومرت بتجارب قاتلة، وخضع الكثير منها لقيادات عشائرية متعصبة ومتخلفة، وذهب بعضها إلى التفتيش عن مساندات له وتحالفات مع قوى خارجية معادية لحركات التحرر الوطني للشعوب، فلقد ذهبت ” الثورة ” البرازانية مثلاً في العراق خلال السبعينات، إلى أن تمد ارتباطاتها إلى عملاء الامبريالية لتستمد منها العون. وكثيراً ما سخرت أطراف منها نفسها، ومن غير بصيرة سياسية أو منظور استراتيجي ومستقبلي، في لعبة الصراعات الإقليمية، وخلافات النظم المتجاورة أو منازعاتها على الحدود. فهي قد لعبت دوراً في النزاع الإيراني العراقي أثناء حكم الشاه البهلوي، وبعضها مازال مستمراً بعده، وتقلبت بين هذا المعسكر أو ذاك، كما لعبت ومازال بعض منها يلعب أدواراً تابعة، أو يوظف قواه في خدمة الصراع المستحكم بين نظامي سورية والعراق، ذلك الصراع الذي لم يكن يوماً في مصلحة القضية القومية العربية، بل ولا في مصلحة الحركة الوطنية الكردية، هذا إذا ما نظرنا للأمور حسب المعايير القومية التي سبق ذكرها، أو من منظور استراتيجي هادف.
لعله كان مفروضاً من خلال ما يقدمه أمامنا هذا الكتاب، أن لا نصل إلى مثل هذا التعثر والضياع، فالتجربة التاريخية الماضية والروابط العديدة المشتركة بين العرب والأكراد، والتي أدت إلى أن الكثير من الأكراد استعربوا أو هم أخذوا مواقعهم الثقافية والاجتماعية والسياسية في عدد من الأقطار العربية كمواطنين سوريين أو مصريين أو عراقيين أو لبنانيين في غير لبس (وهذا الكتاب يقدم أمامنا العديد من الأمثلة على ذلك)، أو هم عندما لاحقهم الظلم والاضطهاد في مواطنهم الأصلية في تركيا بخاصة وفي إيران، وجدوا ملاذاً كريماً لهم في الأقطار العربية المتاخمة، كما أدت بالمقابل إلى أن مجموعات من العرب استكردت هي أيضاً في حقبات تاريخية مضت واندمجت بالأكراد في مواطنهم ومعاقلهم، استيطاناً وثقافة وانتماء.. كان من المفروض أن تقرب ولا تباعد، وأن تقدم لحركتي التحرر العربية والكردية قواسم مشتركة عديدة للاتفاق والتحالف، وأن تصل بهما إلى منظور مشترك لبلوغ الأهداف القومية لكل منهما. لقد كان مفروضاً أن يلقى العرب من الحركة الوطنية الكردية مساندة لهم في معاركهم التحريرية ضد الامبريالية والصهيونية (وهذا ما حدث أحياناً بالفعل) وأن يرى الوطنيون الأكراد في الوحدة العربية وفي قيام دولة عربية موحدة قوية، سنداً لقضيتهم ومساعداً على تحقيق تطلعاتهم القومية وكيانهم الوطني، لا أن يروا فيها اعتراضاً على وجودهم القومي أو تهديداً له، خاصة وأن الطلائع القومية الأكثر تقدماً لدى الطرفين، أصبحت تحمل في مبادئها وشعاراتها والأهداف التي تعلنها، رايات التحرر الوطني ومحاربة الامبريالية والصهيونية، بل وترفع معاً شعارات الديمقراطية والاشتراكية والوقوف في صف حركة التحرر العالمي.
هذا ما كان من المفروض، وهذا هو المعقول والمطلوب، ولكن الأمور لم تجر مع الأسف على هذا المنوال، ليحل الحذر المتبادل والتشكيك بالنيات المبيتة محل التفاهم، وليقوم تنازع واقتتال في هذا الموقع أو ذاك، وتقوم حركات تمرد وعصيانات وثورات..
وهنا يأتي بالضرورة مثال العراق ليفرض نفسه، والمسألة الكردية تمس القطر العراقي بالتحديد وإن كانت تعني الأمة العربية كلها من خلال أن العراق جزء لا يتجزأ من الوطن العربي، وكذلك من خلال منظورها الإنساني والتحرري. فمنذ أكثر من نصف قرن والمسألة الكردية جرح نازف في الجسم الوطني للعراق ويمتد به إلى ما حوله. وهو قد استنزف الشعبين العراقي العربي والكردي في غير طائل إلا إشغال العراق عن ممارسة دوره القومي والتحرري الصحيح. بل قد كان لذلك الصراع الدامي على أرض العراق دور مباشر في إثارة هذه الحرب المستعرة، والتي لا تعرف حتى الآن نهاية منظورة بين العراق وإيران. فمن خلال ذلك الصراع وبسببه ذهبت ” الثورة البرازانية ” إلى التحالف مع الشيطان، حين راحت تتواطأ مع النظام الإيراني وتستمد العون من النظام الشاهنشاهي المعادي للقضية العربية والمتواطئ بدوره مع الامبريالية الأمريكية والصهيونية، قبيل انهيار ذلك الشاه ونظامه. وهذا ما أدى بالحركة الوطنية الكردية إلى إسكات حركات تمردها في إيران نفسها وإسكات مطالبها الوطنية عندها، مقابل ما أخذت تستمده من عون وتسليح إيرانيين وما أعطي لها من حرية التنقل والحركة. كما أدى ذلك من جانب آخر إلى أن يقدم العراق ما قدمه من تنازلات للنظام الامبراطوري، حول الأرض والحدود والمياه، حسب اتفاقية الجزائر بين الجانبين، ليصل الحكم العراقي من ذلك إلى إخماد الثورة البرازانية التي أصبحت تهدد كيانه، ثم نشبت بعد ذلك الحرب العراقية الإيرانية عندما أخذ العراق يعمل لاسترجاع حقوقه بعد سقوط حكم الشاه وقيام الدولة الخمينية. وامتدت تلك الحرب ثم امتدت ليكتوي الجميع بنارها ودمارها.
بل ومثل ذلك، وفي مرحلة هامة من مراحل النهوض القومي لحركة التحرر العربي في الخمسينات والستينات، المرحلة التي تهدف تأميم قناة السويس وقيام الجمهورية العربية المتحدة وثورة 14 تموز في العراق (التي توجهت بالعراق أول ما توجهت نحو الوحدة ثم ارتد به نظام عبد الكريم قاسم عنها)، وشهدت حركة 8 شباط في العراق وحركة 8 آذار في سورية ومحادثات الوحدة الثلاثية بين مصر وسورية والعراق في نيسان عام 63، وما رافق ذلك أو أعقبه من أحداث ومتغيرات.. في تلك المرحلة التاريخية الهامة، التي أتيحت فيها لحركة التحرر العربي فرص كبرى لتحقيق إنجازات متقدمة على طريق بناء وحدتها القومية، وما كان لها بأية حال أن تقبل فوات هذه الفرصة أو اعتراض سبيلها، في هذه المرحلة بالذات طرحت القضية القومية الكردية في العراق ضمن معترضة أو اعتراض، وجاءت التهديدات الكردية بعد ذلك والتمردات والعصيانات لتعطي تبريرات إضافية أو لتستخدم كمبررات، سواء من قبل نظام عبد الكريم قاسم الذي وقف ضد تيار الوحدة العربية المتدافع بعد أن جاء إلى الثورة وإلى الحكم باسم تلك الوحدة، أو من قبل ” بعث 8 شباط ” الذي قام بثورته على ” قاسم العراق ” باسم إسقاط انفصاليته واستئناف مسيرة الوحدة مع عبد الناصر، ثم جاء في مباحثات الوحدة الثلاثية يطالب بالتمهل والتأجيل لأن لدى العراق معوقات ومشكلات داخلية لا بد من تسويتها أولاً، وكانت المسألة الكردية من أولى تلك المعوقات والمشكلات أو التبريرات. بل وبعد ذلك، وبعد أن انفرط عقد مسيرة الوحدة الثلاثية بين مصر وسورية والعراق، وضاعت فرصة تاريخية على الأمة أو ضيعت، ظلت هناك فرصة لقيام وحدة تعويضية بين سورية والعراق، بعد أن انفرد حزب البعث بالحكم فيهما وأصبح القطران تحت قيادة حزب قومي واحد. وهنا أيضاً جاءت الظروف القطرية ” الخاصة ” والإشكالات الإقليمية، وجاءت تلك المعترضة ذاتها تعترض الطريق، فلم يقم بين سورية والعراق وحدة ولا اتحاد، لا ولم يستطع النظامان البعثيان فيهما أن يرفعا الحواجز الجمركية بينهما، كل ما استطاعا عمله كمظهر من مظاهر ” النضال المشترك ” والوحدة، ذلك الجحفل العسكري الذي أرسلته الحكومة السورية تحت قيادة ” الأخ فهد “* والذي سمي بفوج اليرموك، ليقاتل إلى جانب الجيش العراقي ضد العصيان الكردي في شمالي العراق.
إنني ما أردت التذكير بتلك التجارب المتعثرة إلا لأدلل على مقدار ما جرته تلك الصراعات والتعارضات من خسائر على الشعبين وعلى القضيتين القوميتين معاً، العربية والكردية، وما جاء ذلك، إلا من خلال قصور كان لدى القيادات السياسية التي أمسكت بحركة تلك الصراعات من الطرفين، سواء من حيث حسها التاريخي أو من حيث منظورها القومي والاستراتيجي، وتقديمها ما هو آني وعارض، على ما هو استراتيجي ومستقبلي.
ولكن يبدو أن الأمور في الآونة الأخيرة، ومنذ عام بالتحديد حتى اليوم، بدأت تأخذ طريقاً أكثر استقامة وجدوى، فيما يتعلق بحل مسائل الخلاف والصراع بين حكومة بغداد والحركة الوطنية الكردية. فما كان وعداً في شباط عام 63 ثم ” اتفاقاً للسلام ” في 11 آذار عام 1970، ثم تجدد قراراً وإقراراً بالاستقلال الإداري أو الحكم الذاتي في آذار عام 75، من قبيل الحكومات البعثية المتوالية في العراق، قد أخذ طريقه إلى التطبيق أخيراً بعد تعديلات أدخلت عليه تنصف الأكراد أكثر وتجعل من ” كركوك ” مدينة للإخاء القومي وللمصالحة القومية، ولتقوم بوادر وفاق وطني عراقي – كردي، جاءت عبر الحوار الطويل بين الأطراف المعنية ومن خلال التركيز على المصالح المشتركة والأهداف المتوافقة، والأمل بأن يكون في هذا الاتفاق إنهاء لمرحلة طالت من الصراعات اللا مجدية، وأن يكون بداية لمرحلة جديدة من العمل الوطني المشترك والتعاون القومي المشترك أيضاً. ولكن أو ما كان مثل هذا الوفاق ممكناً منذ البداية. ثم أو ما كان من الممكن، لو وضحت التوجهات القومية لدى الطرفين، تفادي كل تلك الاقتتالات المنهكة وكل ذلك الدمار والتعطيل للقضيتين معاً، بل وتفادي هذه الحرب الدائرة بين إيران والعراق، والتي تتهدد وجودهما الوطني بالتمزق، كما تتهدد المشرق العربي كله، لتوضع القضية الكردية في العراق أخيراً على طريق حلها وتذليل ما وقف في وجه الحل من اعتراضات أو شكوك واحتياطات من هذا الطرف أو ذاك؟ والذي ساعد على ذلك لم يكن تغيراً في الحكم والحكام وإنما في المناخ الشعبي الوطني العام الذي أخذ يفرض نفسه لدى الطرفين كإرادة شعبية تدفع على هذا الطريق، والذي يجد مصيره من جانب آخر في صعود قيادات وطنية أكثر عقلانية وأكثر تجربة وتبصراً، على رأس الحركة الوطنية الكردستانية في العراق وإيران معاً أخذت تعطي للعمل القومي الكردي وللوحدة الوطنية الكردية هنا وهناك، صيغاً أكثر تقدماً وأكثر إفادة من التجارب الماضية وأكثر تلاؤماً مع معطيات الواقع والممكن، بل إن حركة (الكومالا) اليسارية التي تنهض من جديد وتنظم ثوارها الفتيان، حاملة معها ذكريات جمهوريتها التي قتلت عام 46 في مهاباد، تبدو اليوم أكثر بصيرة وتصميماً، وتأخذ مكانها إلى جانب حزب قاسملو ” الديمقراطي ” في تنسيق ووحدة نضالية، دفعاً على طريق دعم نهج الوفاق الوطني العربي الكردي في العراق، وإرساء قواعد ” الحكم الذاتي “، على اعتباره إنجازاً هو في مصلحة التحرر الوطني الكردي والحركة القومية الكردية عموماً.
ولكن إلى أين يمكن أن يمضي مثل هذا التصميم الوطني الكردي وما الذي يمكن أن يعترض سبيله من داخله أي من داخل الجماعات الكردية الأخرى أو ما يمكن أن يعترضه من خارجه وحوله في هذه الظروف الضاغطة والصعبة، فذلك ما ستجيب عليه حركة الأحداث القادمة، وذلك ما سيجيب عليه المستقبل القريب، وما نحن إلا شهود ومشاهدون.
ولعلي أخذت جانب التفاؤل، في ظروف تراكمت فيها الخيبات، ولكنه الرهان على اليقظة الوطنية للشعوب يبقى رصيداً، والأمل بعقلانية الرجال المثابرين، ممن عركتهم التجارب واستخلصوا عبرها…
لقد وجدتني هنا بحاجة إلى وقفة تأمل ومراجعة لبعض الذكريات، لئلا أمضي في تعقيباتي على القضية المطروحة، بعيداً عن مقاصد الكاتب ومخطط الكتاب فأحملهما ما لا يحملان وأقول عنهما ما لا يقولان. ولقد ذهب المؤلف مذاهب شتى في بحثه، ليعرض أمامنا المقومات الفعلية للقومية الكردية، بما في ذلك الوطن والشعب، والتاريخ والثقافة، وذهب من القضية الكردية إلى كل ما يجاورها ويتعامل معها وتفرع منه أو يفرع عنها. وأعطى آراء وأصدر أحكاماً، ولست معه دائماً في كل ما ذهب إليه. لست معه مثلاً في أن يطلق على الحكم العثماني، في البلاد العربية والإسلامية، اسم الاستعمار، فمثل هذه التسمية غير مطابقة للواقع التاريخي ولطبيعة العلاقات التي كانت قائمة، هذا إذا ما أخذنا بالمعنى الدقيق لكلمة الاستعمار أو الكولونيالية. ولست معه أيضاً في المقولات التي أطلقها على شعوب ومذاهب وأديان بشكل تعميمي، كتلك الأحكام التي أطلقها بشكل معمم على اليهودية واليهود، وكذلك في الوقوف عند خصائص الشعوب وطباعها وكأنها شيء ثابت، ولم يشر بما فيه الكفاية لما يحكمها ويحكم تشكلها وتغيرها من عوامل عديدة وخاضعة للتغير أيضاً. وأستميحه بذلك عذراً إذا ما وقفت عند الجانب السياسي من المسألة واسترسلت فيه وحده. ولكنني ما أظن أن المؤلف قد أرادني على التقديم لكتابه، إلا من حيث أنه يعرف اهتمامي بهذه القضية كمسألة سياسية ولما يعرفه من مواقفي السابقة تجاهها. وأنا لست مختصاً بعلوم الاتنولوجيا وتاريخ الأقوام لأخوض فيما جاء عليه بحثه منها، فما كان لي أن آخذ بالكتاب إلا من حيث مقصد كاتبه منه وهدفه. فهو أولاً وفي النهاية يطرح علينا مسألة سياسية. ويعرض قضية شعب هو الشعب الكردي، ويعرض مقومات وجوده القومي، ومطالبه وأهدافه. وهذه قضية نحن في تعامل معها كقوميين عرب، ونحن من جانب في تعاطف معها، كما نحن من جانب آخر وفي مواقع قومية كنا في تنازع معها وفي صراع.
وإذا كان المؤلف لم يضعنا أمام تصور مستقبلي للمسألة، ولا أقام طريقاً واضحة لحل معضلاتها، وإيجاد سبيل للتعامل معها، فإنه يحاول أن يستشف طريقاً، وأراد أن يفتح باباً للحوار. وكأنه يريدنا أن نبحث معه، وإن بالكلمة الملتزمة والتطلع بالآمال، سبيلاً لطرح تصور واقتراح حلول، لقضية هي ذاتها، وفي الظروف السياسية الراهنة للمنطقة والعالم، قضية صعبة ومعقدة وتتداخل فيها أطراف عديدة. إنها مسألة لم تبدأ من العراق ولا تنتهي عند العراق، ولا هي بين الأكراد والعرب وحدهم، بل هي تمتد للعلاقات مع دول وشعوب غيرهما، وخاصة تركيا وإيران، وهي ترتطم بالنظام الدولي القائم ذاته وتوازناته الاستراتيجية واستقطاباته الكبرى وتحالفاته.
ولقد جلست إلى مؤلف الكتاب نتحاور حول موضوع كتابه وأفكاره وما يواجهه الموقف السياسي تجاهها من صعوبات، وذهبنا معاً إلى استرجاع الحوادث والمواقف الماضية وذكرياتنا عنها، ووجدتني مع الذكريات وهي تسحبني إلى بعيد، وإلى الإحساسات الأولى التي تولدت في نفسي، عن وجود شعب كردي ثم مسألة قومية كردية، وكيف وجدتني بعد ذلك أتعامل معها أمام أحداث معينة، وأتخذ مواقفي منها. وأرادني المؤلف أن أسرد بعضاً منها في تقديمي لعلها تضيف شيئاً من الوضوح للتوجهات التي نحن بصددها الآن.
إن أول تجربة مررت بها، ووضعتني أمام وجود الأكراد كشعب آخر على أرض لقطر عربي، كانت مع نهايات ربيع 1941 وبدايات صيفه القائظ في العراق. عندما ذهبت ألتحق مع نفر من الطلبة العرب في جامعة دمشق بثورة رشيد عالي الكيلاني التي قامت ضد الاحتلال البريطاني في العراق إبان الحرب العالمية الثانية. وضمت شلتنا لبنانياً وفلسطينياً وأردنياً وأنا السوري، وكانت آمال التحرر العربي والوحدة ملء قلوبنا وأفكارنا. وعندما دمرت تلك الثورة وتقدم الجيش الانكليزي يقتحم ضواحي بغداد، وجدنا أنفسنا مضررين لمغادرة تلك العاصمة العربية هروباً إلى الشمال بعد أن قيل لنا أن المقاومة الوطنية تتجمع في كركوك. وأعطيت لنا سيارة صغيرة من تركات شركة النفط التي استولت عليها الثورة، ومضينا بها إلى كركوك حيث لم نجد من تجمع ولا مقاومة، إلا الغربة واستنكار المسؤولين عن إدارة المدينة لوجودنا فيها، ويممنا مع الصباح الباكر شطر الموصل متسللين بسيارتنا في دروب غير سلطانية. ولم يكن بيننا، وكلنا غير عراقي، من يعرف المنطقة أو له دراية بخارطة الدروب فيها. وانحرفنا كثيراً نحو الشمال بدلاً من أن نتجه غرباً، وتوغلنا من غير أن ندري في منطقة ” أربيل ” وبين الزابين الكبير والصغير. ووجدنا أنفسنا بعد سويعات من هذا التوغل التائه وقد تغيرت علينا كل معالم الأرض والسكان وملامح القرى المتناثرة وأزياء البشر وسحنهم، وأحسسنا أننا أضعنا المسالك ولسنا على طريق توصل إلى الموصل. وأخذنا نستوقف من نصادفهم على الطريق، ووقفنا نسائل من يعملون في الحقول. وكانوا يجيبون على أسئلتنا ويتحادثون فيما بينهم بلغة لا نفهمها ولا نعرفها. وما كنا نستطيع أن نفهمهم مقاصدنا عن طريق الإشارات وبتغيير اللهجة واللغات، إلا بعد لأي كبير، وأكثرهم كان يبتعد عنا في استغراب وكأننا قادمون من فلك آخر. وضاعت عنا معلوماتنا الجغرافية وحس المسافات، وحسبنا لوهلة أننا أصبحنا في الأراضي الإيرانية. وأخيراً وقفنا عند امرأة عجوز تعمل منفردة في إحدى الحقول، واستطعنا أن نفهمها أننا غرباء وقد ضللنا الطريق. فأشارت بيدها إلى بعيد حيث أبصرنا على إحدى الهضاب بيت يرفرف عليه علم ومن خلفه بضعة بيوت قروية وقباب. وكان مخفراً للشرطة العراقية ووجدنا فيه ضابطاً صغيراً استقبلنا بلسان عربي فصيح وأحسن استقبالنا وعرفنا منه أننا مازلنا على أرض عراقية وإنما في منطقة يقطنها قوم من الأكراد. وأبى إلا أن يرافقنا رجل من عناصره حتى الموصل كدليل. وفي الموصل التي وصلناها مع الغروب وجدنا أنفسنا شأناً آخر ولقينا حنو العروبة علينا بأكثر مما لو كنا عائدين إلى أهلنا وديارنا، وكذلك كان وداعنا. ومضت الأيام وبقيت في الذهن صورة راسخة أن في شمالي العراق شعباً آخر غير شعب بغداد والموصل، ولكن قضية ذلك الشعب لم تتبلور حينها في الذهن بأكثر من ذلك.
وتتوارد إلى الذهن ذكريات أحداث جرت قبل ذلك التاريخ وبعده، وتتعلق بحملات الاضطهاد والإبادة الجماعية التي قامت بها السلطات التركية ضد الوطنيين الأكراد منذ قيام دولة تركيا في عهد أتاتورك حتى اليوم، وما أدت إليه تلك الحملات من نزوح سكاني عن كردستان في تركيا ومن لجوء أفواج أثر أفواج من الأكراد إلى سورية ولبنان. وتطالعنا كتب التاريخ وقصص الأحلاف والمعاهدات، أن معاهدات سعد آباد الموقعة في 8 تموز عام 1937 بين تركيا والعراق وإيران وأفغانستان، والتي كانت نسخة بدائية عن معاهدة حلف بغداد فيما بعد، قد جاءت تقول بأن من أهدافها الرئيسية ” تنسيق الجهود بين تلك الدول لمكافحة الأعمال التخريبية في المنطقة “، وكانت موجهة بالدرجة الأولى ضد التحركات الكردية.
في أعقاب الحرب العالمية الثانية بل وقبل ذلك عند اقتراب نهايتها، كنا مشدودين إلى مسائل استقلالنا الوطني، فلم يشغلنا كثيراً ما كان يجري هناك على ” البوابة الشرقية ” للوطن حين مد السوفييت وجودهم إلى إيران وأقاموا جمهوريتهم الأذربيجانية الديمقراطية في تبريز وحولها، حين أعلن القاضي محمد بتاريخ 22 كانون ثاني عام 46 في مدينة مهاباد قيام أول جمهورية كردية مستقلة وحين وضع تشكيلات جيشها تحت قيادة الملا مصطفى البرزاني الذي انضم إلى تلك الجمهورية بعشيرته الوافدة من العراق وبمقاتليه.
ومن المفيد أن نسترجع الآن ذكريات تلك التجربة للحركة الوطنية الكردية لما لها من دلالة، ولما تعطيه من دروس، ففي النصف الأول من عام 41 وبعد إسقاط ثورة رشيد عالي الكيلاني وقع العراق كله تحت الاحتلال البريطاني من جديد، وفي آب من العام ذاته تم احتلال إيران حين دخلته الجيوش البريطانية من الجنوب والسوفييتية في مقابلتها من الشمال. وبقيت منطقة كردستان الإيرانية شبه طليقة بينهما، وتمتع سكانها بقدر من الحرية في إدارتها ذاتياً. وهنا أخذ عدد من القادة الوطنيين الأكراد وزعماء العشائر الكردية في تركيا وإيران والعراق يتلاقون حول فكرة إقامة دولة ” كوردستان الكبير ” لحسبانهم أن معطيات الحرب الدائرة وقرباهم من السوفييت والحلفاء تقدم فرصة مواتية، ووقعوا ميثاقاً فيما بينهم بهذا القصد في تشرين الأول عام 1944. وذهب وفد منهم برئاسة القاضي محمد إلى مدينة ” باكو ” في دعوة من الاتحاد السوفياتي، وهناك حاول المسؤولون السوفييت إقناعهم بأن مثل تلك الدعوة التي ينادون بها لقيام وطن كردستاني موحد ومستقل مازالت سابقة لأوانها، وهي غير واقعية ولا ممكنة ما لم تنتصر ” القوى الشعبية ” في تركيا والعراق بعد إيران. وكانت توجيهات السوفييت أن يقنع الأكراد في الوقت الحاضر بنوع من ” الإدارة الذاتية ” لكردستان إيران في إطار ” جمهورية أذربيجان الديمقراطية ” التي سيقيمونها وشيكاً في شمالي إيران تحت حماية الجيش الأحمر، ولكن ما أن استولى الأنصار الشيوعيون على السلطة في تبريز في منتصف تشرين أول عام 1945 وأعلنوا قيام ” تلك الجمهورية ” إلا وأخذ الأكراد يرتبون أمور جمهوريتهم المستقلة، فأعلنت حركة ” كومالا ” التي كانت على رأس الحركة الوطنية الكردية هناك تحولها إلى ” حزب كردستان الديمقراطي ” برئاسة القاضي محمد الذي كان قد انضم إليها. ومع إطلالة عام 46 قامت جمهورية مهاباد المستقلة، ولكن سياسة التوازنات الدولية والضغوط التي مارسها الحلفاء الغربيون على الاتحاد السوفياتي، جعلته يسحب جيوشه وجمهوريته الناشئة من إيران، وعاد العلم الإيراني يرفرف في مدينة تبريز، وقبل نهاية عام 46 بأيام، اقتحمت الجيوش الإيرانية معززة بالدعم البريطاني مدينة مهاباد. فقتلت من قتلت وشنقت القاضي محمد ومن معه، وقام الملا مصطفى البرزاني وما بقي من جيشه وعشيرته بانسحابهم الطويل إلى أرمينيا السوفيتية حيث أقام لاجئاً إلى أن عاد إلى العراق أيام حكم عبد الكريم قاسم، وهكذا انتهت تلك الجمهورية الكردية لتبقى في الأذهان تجربة وذكرى.
ومرت بعد ذلك سنوات سكتت فيها أو كادت، التفجرات الثورية في المناطق الكردستانية، إلا بعض التحركات والعصيانات المحدودة، لتحل محلها نشاطات سياسية وتشكلات حزبية، أخذ الكثير منها بالتمركس أيديولوجياً، كما خضعت لعمليات الانقسام والتعدد من غير أن تصل إلى صياغة ناجحة لوحدتها الوطنية. وبعد أن كان تركيز القوميين الأكراد على كردستان تركيا بعد الحرب العالمية الأولى، ثم على كردستان إيران أثناء الحرب العالمية الثانية وفي أعقابها، أخذت تحركاتهم واهتماماتهم بعد ذلك تنصب على كردستان العراق، حيث أخذت تتوالى المطالب والعصيانات وحركات التمرد على السلطة المركزية. ولكن المسألة الكردية لم تأخذ تطرح نفسها في العراق بشكل ملحّ وحاد إلا بعد ثورة 14 تموز عام 58 وسقوط الملكية.
وفي الحقيقة الزمنية التي مرت بين سقوط جمهورية مهاباد في إيران وقيام جمهورية عبد الكريم قاسم في العراق، وقعت تغيرات كثيرة وأحداث في منطقة الشرق الأوسط، استحوذت على كل مشاعرنا واهتماماتنا. لقد وقعت ” النكبة ” في فلسطين وقام كيان إسرائيل الصهيوني وسقطت نظم عربية وتحركت الانقلابات العسكرية، وجاءت ثورة يوليو تموز في مصر عام 52 لتحدث التغيير الكبير. ونهضت حركة الجماهير العربية أي نهوض وراء أهدافها في التحرر الوطني والتحرير، وفي التقدم والوحدة، ووجدت في جمال عبد الناصر قيادتها التاريخية، وفي مصر عبد الناصر مرتكز ثورتها القومية الديمقراطية. وبعد أن تحقق أول إنجاز كبير لحركة التحرر العربي في تأميم قناة السويس ودحر العدوان الثلاثي عام 56، واقتلاع أعتى ركائز الاستعمار القديم من المنطقة، اخترقت تلك الحركة مقومات كانت للنظام الشرق أوسطي ولهيمنة الامبريالية، وأخذت تدفع دفعاً حثيثاً على طريق الوحدة القومية، ونجحت تلك الخطوة الثورية الرائدة في إقامة وحدة مصر وسورية، ودمرت حلف بغداد في بغداد ووضعت القطر العراقي بثورة 14 تموز على طريق التحرر والوحدة. ولكن أمام هذا الدفع الجماهيري الثوري الوحدوي التاريخي، قامت تناقضات، وافترقت قوى وطنية كانت مؤتلفة، وتجمعت قوى حول حكم عبد الكريم قاسم وتجمعت مصالح فئوية أخذت تدفع به إلى الارتداد عن طريق الوحدة وتغذي ما عنده من نزعة إقليمية وفردية. وأخذت تغريه بأمجاد الزعامة الوحدانية والمزاودات التقدمية، وهنا جاءت المسألة الكردية تطرح نفسها من جديد على النظام العراقي، منذ أن جاء الدستور المؤقت في 27 تموز، أي بعد أيام من قيام الثورة ليقول ” بضمان الحقوق القومية للعرب والأكراد في إطار الوحدة الوطنية للعراق “. ولقد حاول النظام القاسمي (وكان أول نظام انفصالي قام في وجه المد الوحدوي) أن يكسب الحركة الوطنية الكردية إلى جانبه إقليمياً بعد أن حظي بدعم القوى الشيوعية، ومضى إلى تدمير وسحل القوى القومية العربية المنادية بالوحدة وبعبد الناصر، ولكنه ما أن استتب له الأمر إلا وتحول ضدها لتتلقى منه أقسى الضربات حين دمر في حملة واحدة أكثر من أربعمائة قرية كردية على رؤوس سكانها. وفي ربيع عام 1969، أخذت أنشر مقالات وتحقيقات صحفية في جريدة ” الجماهير “، كما كتبت قبلها في جريدة ” الصحافة ” في لبنان، ضد نهج نظام عبد الكريم قاسم الإقليمي والانفصالي وضد الشيوعيين الذين دفعوا به في هذا الاتجاه وتحالفوا معه. وكان بين ما تناولته بالبحث حينها المسألة الكردية. وأخذت أحذر مما يدفع إليه نظام قاسم من إقامة تناقض وصراع، بين التيار القومي العربي الوحدوي والحركة الوطنية الكردية، وكان تركيزي على ذلك بخاصة عندما قامت ثورة ” الشواف ” في الموصل ضد انفصالية قاسم، وعدت فيما كتبت إلى ذكريات التجربة التي مررت بها عام 41 في العراق، وأكدت على ضرورة أن يقف الوحدويون العرب موقفاً واضحاً من المسألة الوطنية الكردية، وأن يقفوا موقف الإيجابية والدعم لمبدأ حق تقرير المصير للشعب الكردي، وليوجدوا صيغة تحالف وتعاون مع القوى الوطنية الكردية، موضحاً أن طريق الوحدة العربية، وأن انضمام العراق إلى الوحدة القائمة بين مصر وسورية، سيعطيهم فرصاً أوفى لتحقيق أمانيهم القومية. ولشد ما آلمني حينها ما وجّه إلي من لوم وانتقاد على الموقف الذي اتخذته، من عناصر بعثية وقومية، وبعضها جاءني من عسكريين كان لهم فيما بعد أدوارهم البارزة في التغيرات التي وقعت، وأنظمة الحكم التي توالت.
وأدى نظام عبد الكريم قاسم الدور السلبي الذي أريد له أن يؤديه حتى نهايته. وعندما ضرب حزب البعث في العراق ضربته الصائبة في 8 شباط عام 63 تحت شعار الثأر للانفصال، دعيت بعد أيام قليلة من قيام ” ثورة رمضان المباركة ” إلى بغداد، ولست هنا بصدد سرد الانطباعات التي تولدت عندي عن مجريات الأحداث حينها، ولكنني رجعت إلى تلك الذكريات لأقف عند حادثة واحدة تتعلق بموضوعها، فلقد خلوت مع بعض الإخوان بنائب رئيس حكومة الثورة المرحوم علي صالح السعدي وهو على أهبة السفر إلى القاهرة بدعوة من الرئيس عبد الناصر لحضور احتفالات ذكرى الوحدة في 22 شباط. وطلبنا منه أن يوضح لنا النهج الذي تعتمده هذه ” الثورة ” في العلاقات الوطنية الداخلية والعلاقات العربية، ومسائل الوحدة. وبعد أن أوضح ما أوضح سألته: ماذا أنتم فاعلون تجاه الأكراد والمسألة الكردية في العراق؟ وكان توضحه بهذا الشأن ما يلي: ” لا أكتمكم أننا قد اتصلنا قبيل الثورة، بزعماء الحركة الكردية لنضمن هدوءهم عند قيامنا بحركتنا، وليؤيدوا ثورتنا. ولقد قطعنا لهم عهداً بتحقيق مطمحهم في الحكم الذاتي. ونحن مصممون على تحقيق بعض من مطالبهم، فإن قبلوا كان بها وإلا فنحن قد رتبنا أمورنا بحيث نستطيع القضاء على تمردهم والانتهاء منهم في مدة اسبوعين أو ثلاثة أسابيع “. واعترضت عليه وقلت له أرجو أن تكونوا أكثر وضوحاً، فموقفكم من هذه المسألة معيار وطني وقومي أساسي، وكلمة إرضاء بعض المطالب لا تكفي ولا تضع حلاً، أما تصور القدرة على الإجهاز على ثورتهم فذلك عين الخطأ، كما وأني أراه مستحيلاً لا في أسابيع بل ولا في أجيال، ومثل هذا التفكير لا يطمئن أبداً. وكان وعده ” خيراً سيكون ” وأقلع مسافراً. وبعد ذلك بأقل من شهرين، كانت محادثات الوحدة الثلاثية في القاهرة. وكان في رفقة الوفد العراقي الرسمي وفد استشاري ملحق من قادة الحركات الوطنية في العراق بينهم بعض القادة الأكراد وعلى رأسهم جلال الطالباني. وخلال محادثات الوحدة، وفي اللقاءات التي كانت تجري على هامشها طرح جلال الطالباني التصور التالي:
إذا كنتم بصدد إقامة اتحاد جمهوريات كصيغة للوحدة الثلاثية بين مصر والعراق وسورية، فإن مطالبنا كوطنيين أكراد تبقى كما هي، أي أن يكون لنا حكمنا الذاتي في المناطق الكردية في إطار الوحدة الثلاثية، أما إذا كنتم ستقيمونها جمهورية عربية واحدة متحدة، فنحن نريد لو تصبح المنطقة الكردية إقليماً رابعاً بين أقاليم هذه الجمهورية. ولقد كان عبد الناصر كما علمت مرتاحاً لمثل هذا الطرح لما فيه من تطلعات استراتيجية ومنظور مستقبلي يتفق مع تطلعاته ومنظوره، ولقد ظل الطالباني وإخوانه بعد ذلك على علاقات طيبة مع مصر عبد الناصر. إن الوحدة لم تقم لا كاتحاد جمهوريات، ولا كجمهورية عربية واحدة، وفي الواقع فإن المسألة الكردية لم تعترض سبلها في شيء، ولقد ظل عبد الناصر مع كل ما وقع من تقلبات في مواقف الآخرين، حريصاً على أن يظل العراق متماسكاً في وطنيته وموحداً، وظل يسعى بكل إيجابية ليكون هناك وفاق عربي – كردي فيه، ولكنه ظل في الوقت ذاته يؤيد حق الشعب الكردي في الحصول على حقوقه، بل وعندما عادت الصراعات تنفجر دامية في العراق ظل يعمل للوفاق الوطني والقومي فيه، وعندما قام اتفاق السلام بين الأكراد والبعث في 11 آذار عام 1970 على أساس الاعتراف بمبدأ وجود قومية كردية وحقها في أن يكون لها حكمها الذاتي أو استقلالها الإداري في كردستان العراق، وقف عبد الناصر دافعاً إليه ومؤيداً. وكذلك كتبت أنا يومها مؤيداً، ولو أن بعض ” القوميين ” الغفل أو التابعين للأنظمة، وقفوا ينددون بالإجراء العراقي ووصفوه بالتفريط في حق القضية العربية.
لقد وجدتني بحاجة لمثل هذا الاسترجاع للذكريات ومجريات ما مضى حول المسألة الكردية التي نحن بصددها لنتعلم من دروس الماضي، ولنستطيع استيعاب معطيات الواقع الحاضر الذي نتخبط فيه حول هذه المسألة وغيرها لعل هناك من يتلمس من خلالها مخرجاً وطريقاً نحو المستقبل، يخرجنا من دوامة الصراعات التي تستنزف قوانا الوطنية، ويخرجنا من الضياع واللا جدوى.
ويبقى أمامنا الواقع الراهن بوزنه الثقيل، ولا نملك في تعاطفنا مع قضايا تحرر الشعوب، ومع قضية تحرر شعبنا العربي ذاته وما يفرض عليه من تجزئة وانقسام وتابعية، وفي تعاطفنا مع المسألة الكردية كقضية من قضايا تحرر الشعوب، إلا أن نحاول فهم هذه المسألة والتعرف إلى حدودها، وإعطاء وضوح لتطلعاتها وإمكاناتها.
والحق أن المسألة القومية الكردية هي واحدة من المسائل المعقدة في العالم، فهي تتناول من ناحية الحقوق القومية لشعب متواجد كأقليات قومية موزعة في خمس دول متاخمة لبعضها وبينها حدود دولية فاصلة، وهي في الوقت ذاته تحمل تطلعات شعب يطمح إلى أن يكون أمة بين الأمم وأن يكون له كيانه القومي المستقل بين الكيانات القومية في العالم.
قضيته محاصرة بواقعه كشعب شاءت الظروف التاريخية والتحالفات الدولية أن تضعه هكذا موزعاً بين عدد من أقطار الدنيا، بل إن كردستان الأصلية والتي يحددها مؤلف هذا الكتاب في حدودها الجغرافية كأرض وطنية لهذا الشعب، وأياً ما ضيقت عليه هذه الأرض، فإنها تبقى محسومة في التحديات الإقليمية وفي الترتيبات الدولية، أراض واقعة داخل أطر دول مستقل بعضها عن بعض. فقضيته مازالت إذن أسيرة التوازنات والنظام الدولي، كما هي أسيرة للتوازنات والنزاعات الإقليمية، فليس حلها كقضية قومية عامة مرتبطاً بالعراق وحده ولا بالعرب كلهم، إلا في حدود، وإلا كمرحلة على طريق طويلة لم تكتمل معالمها بعد إلا إن كان في تصور بعض من يملكون حساً تاريخياً ومنظوراً تاريخياً للتغيير في هذه المنطقة من العالم وفي العالم.
إن النظام التركي قد رفض ومازال يرفض أن يكون للشعب الكردي أي وجود قومي على أرضه ولا يعطيه أي حق أو أية صفة لممارسة هذا الوجود، بل هو يسلب أبناء ذلك الشعب التسمية بالأكراد، وإذا أراد وضعاً مخصصاً لهم، فلا يقبل أن يسموا إلا بأتراك الجبال.
والحكم الإيراني فضلاً عن حملات التهجير والتنكيل المستمرة التي يمارسها ضدهم، لا يقدم لهم من حل إلا نظاماً من اللامركزية بالنسبة لمنطقتهم، ولا يعطيهم أي قدر من الاستقلالية أو الحقوق القومية، بل لا يعترف بوجودهم القومي.
ولكن يبدو أن الوفاق الذي يستكمل أبعاده اليوم بين الشعبين الكردي والعربي في العراق قد وصل إلى صيغة هي أكثر معقولية وأكثر إنصافاً من أية صيغة طرحت في الماضي، والأمل بأن يتواصل هذا النهج ويأخذ أبعاده. إلا أن الحل العراقي للمسألة يبقى جزئياً ومرحلياً، فالعراق وحده كقطر عربي لا يستطيع حمل عبء المسألة الكردية في كليتها القومية، إنه لا يستطيعه إلا في إطار أمته العربية الكبيرة، وفي إطار دولة عربية واحدة أو موحدة.
وأعود هنا إلى التصور الذي طرحه باسم إخوانه الأكراد جلال الطالباني عام 63 في القاهرة، ومن عوامل تفاؤلي لما يجري من توفيق أو وفاق في العراق، أن الطالباني وإخوانه ممن كانوا يحملون مثل ذلك التصور هم على رأس التحالف الوطني الكردي الماضي في هذا الوفاق. إن عراقاً ديمقراطياً وطنياً مستقراً منعتقاً من كابوس الحرب، يملك أن يعطي للشعبين ولكل أبناء الوطن قدراً أكبر من الحرية في كل المجالات ومن الإرادة الشعبية، ولكنه يظل لا يملك أن يعطي للشعب الكردي في إطار حدوده أكثر من الحكم الذاتي والاستقلال الإداري، ومن المساواة في المواطنية للجميع وإلا وضع وجوده ذاته في مهب العواصف التي يمكن أن تتوافد من الشمال والشرق، إلا أننا نملك تصوراً عربياً في إمكانية أن يكون للشعب الكردي كيانه القومي القائم بذاته في إطار الدولة العربية الموحدة سواء سميناه إقليماً أو جمهورية كردية. بل ونملك تصوراً في تعميم هذه الصيغة على بقية الأقليات في الوطن العربي، أي أن تكون هناك صياغة للوحدة العربية الشاملة كدولة موحدة متعددة القوميات، وأمامنا أكثر من تجربة ومن شكل في العالم لهذه الصياغة. أمامنا مثلاً دولة الاتحاد السوفياتي، بل ومن الممكن أن نذهب إلى أبعد من ذلك عندما يكون لأمتنا كيانها القومي الموحد، وكما نص عليه دستور جمهوريات الاتحاد السوفياتي، في أن يكون للقوميات غير العربية عندها حقها في الاستقلال الكامل وفي الانفصال، إذا كانت تلك هي الإرادة الوطنية لشعبها من خلال مبدأ حق تقرير المصير، أو إذا ما وجدت صيغة أخرى لتحقيق وحدتها القومية خارج إطار الوحدة العربية.
ولكن هذا كله يبقى مجرد تصور وتوجهات ودعوة للوفاق الوطني والحوار، والمنظور أو التصور لا يتحول إلى هدف تتحرك نحوه وإلى مراحل تقطعها لبلوغه، إلا إذا كان تصوراً لقوى فعلية تعمل لتغيير الواقع الذي نرزح تحت تناقضاته، وإلا إذا كانت وراءه حركة جماهير وإرادات وطنية حرة للشعوب وهذه مسألة أخرى تردنا إلى مشكلة واقعنا العربي الراهن وكيف نواجهه ولست هنا في مجال بحثه فما أنا هنا إلا أمام تقديم الكتاب، فلنقرأه أولاً ولنضع وعينا القومي أمام الوقائع.
وأعود في الختام لأقول: ليعذرني مؤلف هذا الكتاب إذا ما ذهبت إلى أبعد مما قصد، أو لما هو أكثر مما يريد، مقدراً له جهده السخي الذي بذله، منتظراً كتابه الثاني المكمل الذي وعد به حول هذه المسألة التي تبقى قضية شعب ووطن.