“الاقتصاد السياسي” في سورية: ترسيخ توجهات ما قبل الحرب

جوزيف ضاهر

غالباً ما يُقدَّم نموذج “اقتصاد الحرب” -الذي طرحه محللون كثر لوصف الوضع الحاليّ في سوريا- باعتباره شكلاً جديداً يُفترض أنْ يُمثّل انفصالاً وانحرافاً عن الديناميّات الاقتصاديّة التي كانت قائمة في سوريا قبل عام 2011. لكنّ الواقع هو أنّ الصراع الحاليّ ساهم في تفاقُم تلك الديناميّات الاقتصاديّة الموجودة سلفاً. فقد أدّى الصراع إلى تعاظُم السياسات والتوجّهات النيوليبراليّة التي كانت تنتهجها الحكومة السوريّة في فترة ما قبل الحرب وعزّز جوانب النظام الاستبداديّة الموروثة. كلّ ما حدث هو تغيُّر في شبكات الجهات الفاعلة المحلّيّة والأجنبيّة التي كانت تدعم النظام وتستفيد منه. فقبل عام 2011، كانت السعوديّة ومعها قطر وتركيا من أبرز الجهات الفاعلة المستفيدة من الانفتاح الاقتصاديّ في سوريا، بَينما الآن صارت روسيا في المقام الأوّل ثمّ إيران، لكنْ بدرجة أقلّ، هما المستفيدتَان الرئيسيّتان.

يسيطر نظام الأسد على 70 في المئة تقريباً من الأراضي السوريّة بعد أكثر من 9 سنوات على الحرب، وذلك بفضل المساعدات السياسيّة والاقتصاديّة والعسكريّة المقدَّمة من حليفَيه: روسيا وإيران. لكنْ على رغم هذا الدعم، لا تزال التحدّيات والمشكلات الاقتصاديّة- الاجتماعيّة التي تواجه دمشق تستعصي على الحلّ. فقد تراجع الناتج المحلّيّ الإجماليّ للبلاد من 60.2 مليار دولار أميركيّ عام 2010 إلى 21.6 مليار دولار أميركيّ عام 2019، بَينما تُقدَّر تكاليف إعادة الإعمار بنحو500  مليار دولار أميركيّ. وقد فاقمت الأزمة الماليّة التي يشهدها لبنان منذ عام 2019 ثم تفشّي “كورونا” مشكلات البلاد الاجتماعيّة والاقتصاديّة بشدّة، مع تخطّي مستويات الفقر حاجز 85 غي المئة حتّى قبل تفشّي الوباء في سوريا، وَفقاً للتقديرات.

في ظلّ هذا الوضع الاجتماعيّ والاقتصاديّ المتردّي، وضعت السلطات السوريّة سياسات اقتصاديّة ترمي إلى توطيد سلطتها وتعزيز شبكات محسوبيّتها الكثيرة، بالتزامُن مع إتاحة أشكال جديدة من تراكم رأس المال. كان أحد العناصر الرئيسيّة في هذه الاستراتيجيّة هو الترويج لنموذج من التنمية الاقتصاديّة يعتمد على الشراكة بين القطاعَين العامّ والخاصّ وخصخصة المنافع والخدمات العامّة بوصفها حجر الأساس لإعادة إعمار البلاد والسبيلَ لإنعاش اقتصادها.

في شباط/ فبراير 2016، أعلنت الحكومة السوريّة عن خطّة “التشاركيّة الوطنيّة”، بوصفها استراتيجيّتها الجديدة للاقتصاد السياسيّ التي حلّت محلّ نموذج “اقتصاد السوق الاجتماعيّ” المُطوَّر في 2005، الذي كان بالفعل أعطى الأولويّة للتحرّر الاقتصاديّ وتراكم رأس المال الخاصّ. يتمثّل أحد الجوانب المحوريّة للاستراتيجيّة الجديدة في إصدار قانون حول “التشاركيّة بين القطاعَين العامّ والخاصّ” في كانون الثاني/ يناير 2016، بعد 6 سنوات من صوغه. وقد سمح هذا القانون للقطاع الخاصّ بإدارة الأصول الحكوميّة وتطويرها في جميع قطاعات الاقتصاد بوصفه الشريك أو المالك الرئيس، باستثناء قطاع استخراج النفط.

في الإطار نفسه، وفي اجتماع مع ممثّلي قطاع الأعمال المشاركين في معرض دمشق الدوليّ الذي انعقد في أيلول/سبتمبر 2018، أعلن عماد خميس، رئيس الوزراء السوريّ السابق، أنّ الحكومة قد تطرح 50 مشروعاً للبنية التحتيّة أمام المستثمرين من القطاع الخاصّ على هيئة مشاريع تشاركيّة بين القطاعَين العامّ والخاصّ. إضافةً إلى ذلك، وخلال جلسة برلمانيّة في تشرين الأوّل/ أكتوبر 2018، دعا فارس شهابي، البرلمانيّ السابق ورئيس “اتّحاد غرفة صناعة حلب”، إلى طرح مزيدٍ من المشاريع التشاركيّة في قطاع الصناعات العامّة بهدف زيادة الفرص أمام استثمارات القطاع الخاصّ. قد يمهِّد هذا الطريق لإنشاء سوق استثماريّة جديدة تسمح لرجال الأعمال بالاستثمار في قطاعات عامّة صناعيّة ربحيّة، مع تخلّي الدولة تدريجياً عن الصناعات الحكوميّة التي تعاني العجز. والآن تُعرض فرص هائلة أمام حلفاء سوريا الأجانب، خصوصاً روسيا وإيران، إلى جانب رجال أعمال تابعين للنظام، للاستثمار في الأصول العامّة وتحقيق أرباح طائلة من ورائها.

يُعَدّ العقد المُوقَّع عام 2019 مع شركة “ستروي ترانس غاز” الروسيّة لإدارة ميناء طرطوس وتشغيله مدّةَ 49 عاماً، مثالاً صارخاً على هذه العمليّة. وقد أوضح وزير النقل السوريّ أنّ شركة “ستروي ترانس غاز” ستستثمر خلال الفترة المنصوص عليها في العقد مبلغاً يقدَّر بنحو 500 مليون دولار أميركيّ، لا سِيَّما من أجل تطوير الميناء وتوسيعه وذلك للسماح بدخول سفن ذات حجم وحمولات أكبر، ورسوّها. سبَق أنْ وقّعت الشركة الروسيّة عقدَين مماثلَين في سوريا خلال السنوات الأخيرة لتشغيل معامل الفوسفات وإدارة معامل إنتاج الأسمدة، وقد وقّعت وزارة النفط والثروة المعدنيّة السوريّة، في أيلول/ سبتمبر  2019، ثلاثة عقود أيضاً مع الشركات الروسيّة في مجال المسح والتنقيب والإنتاج في قطاعَي النفط والغاز في المناطق الوسطى والشرقيّة من سوريا.

في المقابل، وعلى رغم المساعدة الهائلة التي تقدِّمها للنظام السوريّ، لم تمنح الحكومةُ السوريّة الجمهوريّةَ الإيرانيّة عقوداً ضخمة، إذْ لم يتمكّن الإيرانيّون من توسيع نفوذهم الجيوسياسيّ والعسكريّ المتزايد باستمرار ليشمل اقتصاد البلاد، خصوصاً مع استحواذ الاستثمارات الروسيّة الخاصّة على هذا المجال.

تستفيد أيضاً الجهات الفاعلة الخاصّة السوريّة المقربة من النظام من تلك الديناميّات. ففي كانون الثاني 2020، صدَّق بشار الأسد قوانين تمنح ثلاثة عقود لـ”مجموعة قاطرجي”، الأمر الذي يمنحها دوراً استراتيجيّاً في قطاع توزيع النفط في سوريا. وقد حصلت “مجموعة قاطرجي” على حقّ إنشاء مصفاتَي نفط، وتطوير مصب النفط في ميناء طرطوس وتوسيعه. ظلّ قطاع التكرير حكراً على الدولة حتّى ذلك الحين، على رغم أنّ الحكومة كانت تسعى قبل عام 2011 إلى اجتذاب الاستثمارات الخاصّة إلى هذا القطاع. فيما مضى، استفاد رجل الأعمال وسيم القطّان، الذي كان يمثّل على الأرجح واجهةً لماهر الأسد، من عقود حكوميّة متعدّدة للاستثمار في الفنادق والمجمّعات التجاريّة ومراكز التسوق.

لا يسعى النظام إلى الاستفادة من عمليّة إعادة الإعمار على الصعيدَين السياسيّ والاقتصاديّ فحسب، بل يسعى أيضاً إلى ترسيخ أمنه المفترض. فمنذ عام 2011، سنّ نظام الأسد نحو 50 خمسين قانوناً حول “الإسكان والأراضي والممتلكات”، الأمر الذي سمح للدولة في نهاية المطاف بهدم المناطق التي خضعت لسيطرة المعارضة في السابق. وقد وضعت الدولة أيضاً قوانين ومراسيم لمصادرة الممتلكات، ومن ثَمّ الاستفادة من تنمية وتطوير العقارات والاستثمار فيها.

لم يُنفَّذ حتّى الآن عدد كبير من المشروعات القائمة على الشراكة بين القطاعَين العامّ والخاصّ وبناء أو إعادة إعمار مشروعات العقارات الفاخرة في سوريا بواسطة الجهات الفاعلة الخاصّة السوريّة أو تعديلها وإعادة تقييمها. فقد ظلّت معظم هذه المشروعات حتّى الآن مجرّد تصريحات، الأمر الذي أظهر قدرة الحكومة المحدودة على تنفيذ هذه المخطّطات والقيود المتأصّلة في خططها الرامية إلى إعادة التنمية الاقتصاديّة. على سبيل المثال، فشلت الشركات القابضة التي أنشأتها محافظات حمص (2018) وحلب (2019) ودمشق (2019) في بدء تنفيذ أيّ عمليّة إعادة إعمار منذ تأسيسها.

يُعزَى السبب الرئيس وراء الفشل في إطلاق هذه المشاريع إلى نقص التمويل العام والخاص، اذ تواجه الحكومة تحدّيات متزايدة في التمويل ترتبط بالنقص في احتياطيّات النقد الأجنبيّ والانخفاض المستمرّ في قيمة الليرة السوريّة.

في الوقت نفسه، اتّبعت الحكومة تدابير تقشّفيّة من خلال خفض الدعم على بعض المنتجات الأساسيّة. ففي تشرين الأول 2020، ضاعفت الحكومة السوريّة سعر زيت الوقود وزادت سعر البنزين بنسبة 80 في المئة. وهو ما من شأنه رفع الأسعار بشكل كبير في مختلف قطاعات الاقتصاد وتقليل القدرة التنافسيّة للمصنِّعين السوريّين والقوة الشرائيّة للسكان.

يتمثّل التحدّي الثاني في عدم الاستقرار والانخفاض المستمرّ في قيمة العملة الوطنيّة، وبخاصّة منذ كانون الثاني/ يناير 2020، ما أدّى إلى إعاقة الاستثمار في البلاد. الواقع أنّ عجز الحكومة السوريّة ومصرف سوريا المركزيّ عن تحقيق الاستقرار في سعر الليرة السوريّة، على رغم الوعود المتكرّرة بالقيام بذلك، يُثير المخاوف بين المستثمرين الأجانب بشأن احتمال تكبُّد خسائر بسبب انخفاض قيمة العملة. لا تزال المخطّطات الرامية إلى تمويل مشروعات إعادة الإعمار أو غيرها من الاستثمارات في البنية التحتيّة، من طريق رأس المال الأجنبيّ غير واضحة وغير كافية، بخاصّةً في ظلّ مواجهة روسيا وإيران مشكلاتهما الاقتصاديّة العميقة بَينما يواصلان تقديم الدعم الماليّ والماديّ للنظام السوري على أعلى المستويات.

أتاح الصراع ظهور فاعلين اقتصاديّين جُددا، عادةً ما يرتبطون بالأجهزة الأمنيّة وينخرطون في القطاعات المختلفة لاقتصاد الحرب، ويسعون بشكلٍ متزايد إلى تحقيق عائدات سريعة ومرتفعة لاستثماراتهم. فهم يعملون كمهرِّبين ووسطاء تجاريّين لاستيراد بضائع معيّنة تحتاج إليها البلاد، أو يعملون كواجهة للشخصيّات المؤثّرة في النظام السوريّ. وفي نهاية المطاف، يستثمر رجال الأعمال هؤلاء في الاقتصاد الرسميّ، وبعضهم يعزّز نفوذه وسطوته من خلال شَغْل المناصب الرسميّة في مؤسّسات الدولة، كالبرلمان والغرف الاقتصاديّة المختلِفة ومنها غرف التجارة.

عادةً ما تتعارض المصالح الاقتصاديّة والتجاريّة لهؤلاء اللاعبين الجُدد مع إمكان تنشيط القطاعات الإنتاجيّة في الاقتصاد السوريّ، وبخاصة قطاعا الزراعة والتصنيع اللذان عانَيا بشدّة من آثار الحروب والدمار. أمّا قطاع التجارة -وخصوصاً الوارِدات- فقد أصبح مصدراً رئيساً للأعمال التجاريّة المربِحة في البلاد، بسبب الإنتاج الاقتصاديّ المنخفض للغاية وافتقار النظام إلى الاستثمارات والحوافز الاستثماريّة في القطاعات الإنتاجيّة، وبسبب الحاجة إلى منتجات معيّنة كالمواد الغذائيّة والأدوية والمشتقّات البتروليّة. وقد شكَّل التجّار التابعون للنظام شبكات احتكار لبعض المنتَجات، فيما قاموا أيضاً بتطوير أسواق للتهريب.

تسارعَت وتيرة الدور الصاعد لتلك الجهات الفاعلة الجديدة بفضل قرار الحكومة السورية القيام بالمزيد لتخفيف القيود على الوارِدات، ما أدّى إلى زيادة إسناد مسؤوليّة الاستيراد إلى القطاع الخاصّ. وفي آذار/ مارس 2020، قامت الحكومة بالمزيد من تخفيف القيود على استيراد الغاز الطبيعيّ للسماح للمزيد من الجهات الفاعلة في القطاع الخاصّ باستيراد الوقود والديزل لمدةَ ثلاثة أشهر، فيما سمحت في الوقت ذاته لجميع المستورِدين -بما فيهم الشركات الخاصّة- باستيراد الدقيق، بغضّ النظر عن بلد المَنشأ. ومع ذلك، فإنّ هذه التدابير لم تُلَبِّ النقص في احتياجات البلاد من القمح والوقود، لأسباب عدّة،منها العقوبات والفساد والاحتكار الذي يمارسه التجّار.

بدأ هذا التوجّه السياسيّ -في تفضيل الاستهلاك على الاستثمار في الإنتاج- بالفعل في بدايات العِقد الأوّل من الألفيّة، مع عمليّة تحرير الاقتصاد السوريّ وخصخصته، ولكنّ التجّارَ ورجالَ الأعمال الجُدد التابعين للنظام ضاعَفوا بشكلٍ كبير هيمنتَهم على الاقتصاد السوريّ في السنوات الأخيرة وعمّقوها.

ينشر هذا النص بالتعاون مع “مبادرة الإصلاح العربي”

المصدر: موقع درج

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى