في ذكرى..الختيار

محمود خزام

يقول محمود درويش في رثائه للشهيد ابو عمار: ” في كل واحد منا شيء منه”..

ولو زدنا من عندياتنا شيء من هذا القبيل لأصبح لكل واحد عاش معه وعمل معه وناضل الى جانبه وربما التقى به مرة واحدة، حكاية شخصية منه ومعه. وما أكثرها من قصص وحكايات. بمجملها ماتزال شفهية تختزنها ” ذاكرة ” فردية تحتاج ل ” النبش ” والتوثيق..!

في مكتب القائد العام الصحفي عمل مثابر على مدار ساعات النهار والليل..

بوجود الأخ ابوعمار في مكتبه المجاور أو بوجوده في مكاتب ومواقع أخرى ، او بوجوده خارج تونس..باختصار هو جزء من ” آلية عمل ” غير تقليدية عابرة للدول والقارات..!

لكن ، لم يكن من بين مهمات المكتب الصحفي والاعلامي ، استلام ” كتب المساعدات ” التي يتقدم بها صاحبها للأخ ابو عمار..بل كانت من المهمات الرئيسة لمكتب ” الارشيف ” التابع لمدير مكتبه المباشر الأخ الدكتور رمزي خوري..

ذات يوم جاءنا شخص صاحب  ” رتبة عسكرية ” رفيعة سأل احد الاخوة العاملين معنا بالمكتب عن الأخ ابو الفهد..

دلّه عليّ..كنت في مكتبي أتابع عملي..

دخل بوجهه البشوش عرفني بنفسه…

ابتسمت له وقلت مرحبا : اعرفك جيدا..

تحدثنا قليلا ثم مدّ يده داخل سترته وأخرج ظرفا بنيّا وأعطاني إياه متابعا : جئت اليك خصيصا كي توصل مابداخله للأخ القائد العام..وقبل أن أستفسر عن محتواه باغتني :” قلولي أنك أمين منشان هيك جيت لعندك..وبتقدر تقرأ الرسالة لما أمشي “…فعلا تركني بحيرتي وخرج..

لم يكن الظرف مغلقا،كانت ورقة واحدة وبدأت بقراءتها..مرة تلو الأخرى وأنا في حيرة ..لغة ” ركيكة “..طلب بالمساعدة لسبب شخصي / بالنسبة لي مخجل / ولاتصلح لأن تقدم ليس للأخ ابوعمار بل لأي مسؤول أقل شأنا…

وضعتها جانبا وسألت نفسي لماذا جاء بهذه الرسالة الى المكتب الصحفي ولي شخصيات..ولماذا لم يذهب بها الى مكانها الطبيعية عند الدكتور رمزي…وضعتها في درج خاص وتركتها..

بعد اسبوع عاد للمكتب وسأل عني وترك لي نسخة أخرى من الرسالة نفسها..

وضعتها هي الأخرى إلى جانب سابقتها..

في زحمة العمل والسفر رفقة الأخ ابو عمار خارج تونس نسيت ان ابلغ الاخ رمزي بالموضوع…

بعد عودتنا من السفر وجدت أمامي نسخة ثالثة قمت بتمزيقها على الفور..

بعد بضعة أيام طلبني الأخ ابوعمار على عجل لمكتبه..ذهبت إليه مسرعا، فوجئت بوجود مجموعة من المسؤولين والضباط من بينهم الأخ صاحب الرسالة..

اقتربت من الختيار وجدته على غير عادته معي ” متوتر ومكشر ” اشار لي بالاقتراب منه أكثر وهمس بصوت خفيت

قللي: يابني وصلك شي كتب مساعدة موجهة الي من شي شهر..أجبته: نعم وصلتني رسالة واحدة تلت مرات…رد بتوتر اكثر : وينهم وليش ماجبتهم لعندي..اجبته : نسيت وبصراحة مزعتهم..

استشاط غضبا لكن من دون ان يلتفت حوله وقال : روح الآن وبعدين بطلبك ماتتركش مكتبك..أجبته : حاضر وانسحبت وعيني في عين الضابط المعني بالأمر…

بعد ساعتين وأكثر قليلا طلبني الختيار ثانية..ذهبت إليه وبيدي النسخة الأولى للرسالة..كان اكثر هدوءا وقال : ” ممكن تقولي ياخوي يابو الفهد شو اللي ماعجبك بالرسالة..أجبته..أول اشي لغة المخاطبة لاتليق..واللغة كلها ركيكة…

والطلب مخجل ..وكمان هو نفسه مش محتاج مساعدة..

أنا أتكلم والختيار يستمع وينظر لي من فوق ل تحت. يبتسم حينا وتحمر وجنتيه حينا أخر..وهكذا…

فجأة ، قام من مكانه وصرخ في وجهي : شو رأيك تقعد مكاني..فجأة دخل احد مرافقيه من دون استئذان..وبقيت أنا واقفا أمامه في دهشة غير طبيعية ولم أتصورها يوما..

عاد وصرخ بوجه المرافق طالبا منه المغادرة…

ثم جلس على كرسيه وطلب مني الجلوس أمام طاولة مكتبه…

ابتسم قليلا وأفاض بالقول: ” عارف ياخويا يابو الفهد ازاي أنا صرت ياسر عرفات وصرت قائد لشعبنا الفلسطيني العظيم..عارف ايه ولا اشرح أكتر..وقبل أن أجيب تابع : ” ياابني عشان تكون قائد لهذا الشعب العظيم..لازم تكون مسؤول عن كل طفل وبنت وشاب وسيدة ..كبير وصغير..اللي مشارك بالثورة واللي مش مشارك..اللي جوة فلسطين من التماني واربعين والضفة وغزة واللي برة في سوريا ولبنان والاردن ومصر والخليج وامريكا الشمالية والجنوبية واوروبا وكندا واستراليا وكل العالم..

أنا مسؤول عن الفدائي والمناضل والحرامي واللص والجواسيس..انت بتعرف انو احنا عنا هون في تونس كمشنا جواسيس وحاطينهم بسجن السبعطاش ومابدنا نعدمهم عشان بنعرف انه اكثرهم صاروا هيك بالضغط والحاجة وغيرها..

وبتعرف كمان اني أنا بقطعش معاش أي واحد منهم إذا كان عنده عيلة او اهل محتاجين…

وجاي اليوم أنت تقولي : لغة ركيكة ومش محترمة وطلب بخجل…

يابني مش انت اللي بتقرر ..أنا بشوف أسوأ من هيك وبعرف هادا الأخ وغيره مش محتاجين..لكن انا اللي بحدد..من شان هيك..أنا ياسر عرفات قائد هذا الشعب..بكل هذا الخليط..هاي شعبنا في كل اشي..وبقدرش انتقي على كيفي..

ولازم تعرف أنا بسكتش دائما ع الغلط..

شعبنا عظيم وطيب ومحتاج الصبر .. وانا ابن هذا الشعب….

بقيت صامتا واستمع وخفت من دموعي تخونني…

بعدها نهض واقفا وحضنني وربت على كتفي وقال: ياخويا يابو الفهد أنا كتير مبسوط انك معايا أنت واخوانك بالمكتب الصحفي…

عدت الى مكتبي وقلت في قرارة نفسي:

اليوم عرفت من هو ابو عمار..من هو ياسر عرفات…ولماذا هو ..الختيار….

لروحك مجد الذكرى والسكينة والسلام…يا صاحبي…. ياخويا…

المصدر: صفحة محمود خزام

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى