في اليومين الأول والثاني من توقيفي في الفرع 227، لم أعرف طعم النوم ولا طعم الزاد، وهذا لم يكن إضرابًا مني عن الطعام أو النوم، لكن فرَّ النوم من عيوني، كما أن الشهية لأي طعام أشاحت بنظرها عني، فلم يعد يعنيني الغذاء ولا النوم لهول ما عشت ورأيت، وقد حاول الكثير من زملاء الاعتقال إلى جانبي إجباري على الطعام مع شح ذلك هناك، إلا أن الأمر لم يكن سهلًا عليَّ، حيث انقطعت الشهية رغم الجوع. علمًا بأن للطعام في الفرع 227 قصة أخرى، فهو متواجد فقط حتى لا يموت المعتقل قبل التحقيق معه، أو بانتظار دوره في جولات التحقيق، وقد يطول الدور بين العشرة والعشرين يومًا، لبدء التحقيق الأولي مع الموقوف. كان يُعطى للمعتقل على الإفطار قطعة متيبسة أو متعفنة من الخبز مع ربع ملعقة مربى، أو ثلاث حبات زيتون فقط، أما وجبة الغداء فكانت عجينة صغيرة من البرغل ممزوجة بمرق يُعتقد أنه قد شَمَّ رائحة الباذنجان بلا أي دسم من زيت أو سواه. أما العشاء فكان ربع قطعة من البطاطا المسلوقة مع كسرة خبز يابسة بلا ملح. وكان المطلوب الانتهاء من الطعام خلال زمن أقصاه دقيقتين.
وبينما كنت أنتظر أن ينادوني للتحقيق، دخل (الشبك) وهو مهجع اعتقالي، رجل عريض المنكبين متهدل وضخم اللغاديد، يدفع أمامه بكرش كبير، قالوا إنه رئيس السجن. وكان على الجميع وخلال لحظات أن يقفوا وقد أداروا وجوههم شطر الجدار، حتى لا يروا هذه الشخصية الفذة. من تباطأ في الوقوف والدوران نحو الجدار كأمثالي من كبار السن لعدم القدرة على السرعة، فسوف يتحمل الجلد على جسمه العاري، بأداة كانوا يسمونها استهزاءً (الأخضر الابراهيمي) وهو عبارة عن كبل كهربائي أخضر ثخين. وبالطبع فإن مكان الضربات سيترك الأثر في الجسم لأشهر قادمة.
إلى جانبي كان الرجل المسن الذي قارب السبعين من عمره، وهو الدمشقي المزَّاوي الأصيل، معلم كار الخياطة، الذي آثر الدخول إلى المعتقل على أن يترك ابنه الشاب العشريني بين أيديهم لوحده. ولدى سؤالي له لماذا أنت هنا؟ قال والحسرة والتنهيدة تخرج من فيه: بينما كنت أنا وابني (وهو يشير إلى ابنه) في زيارة خاطفة إلى ابني الكبير المعتقل في سجن صيدنايا، وخلال دخولنا إلى المكان المقرر للزيارة، فتشوا ابني الذي برفقتي فوجدوا معه ورقة صغيرة عليها رسم بسيط. وهو في الواقع ما نسيه في جيبه منذ ما قبل ذلك بيومين، حيث تم رسم مخطط لإصلاح آلة الخياطة المعطلة في مشغلي، من قبل من أتينا به لإصلاح العطل، وهي ورقة جد عادية، لكن الأمن في سجن صيدنايا اتهم بها ابني على أنه يريد بها أن يُدخل مخططات داخل السجن لتصنيع (أسلحة ودبابات)؟!، أو من أجل الفرار. وهو اتهام واهٍ وغير معقول البتة. لكنهم أصروا عليه وقرروا إيقاف ابني الصغير، والذي لم يبق لي سواه بعد الله، وليس بإمكاني العودة إلى أمه بدونه، لأنها ستقول: كيف تركت الأول ثم الثاني وجئت إليَّ خالي الوفاض. فما كان مني إلا أن أصريت أنني لن أتخلى عن ابني، فقلت لهم: إن أردتم فخذوني معه. وهذا ما كان، حيث تم ايقافي معه في هذا الفرع. وكان هذا الرجل السبعيني يعاني من أمراض كثيرة في القلب وسواه، حيث يحمل الكثير منها قبل السجن، ثم تفاقمت بعده، ولم يكن ذلك يشفع له، فقد كانت تنهال عليه الشتائم من كل حدب وصوب، وبدون أي سبب. وكان ابنه كثيرًا ما يوصيني به فهو يخشى أن لا يتحمل عبء الاعتقال من خلال وضعه الصحي.
في الطرف الآخر لمكان وجودي في المهجع كان هناك طفل لما يبلغ من العمر 17 عامًا. غض الجسم ونحيله، وقد بانت عليه علائم الرفاه والدلال، والطفولة البريئة، كان الطفل وهو من محافظة درعا يخاف ويرتعد من مرور أي سجَّان أو عنصر أمن بالقرب منه، لأنهم جميعًا وقد شربوا الحقد، لا يمر أحدهم إلا ويقوم بلطمه أو ضربه والدوس عليه بالبصطار العسكري، وكثيرًا ما كانت أصواته وصرخاته تدمي قلوبنا، وتجعل العيون وقد انهمرت منها دموع الحرقة والألم، على تعذيب طفل لا ذنب له إلا أنه من درعا، وهو ابن لضابط سوري منشق، كان قد أعلن انشقاقه عن النظام منذ السنة الأولى للثورة ثم استشهد في حينها. كاد الطفل أن يفقد عقله لكثرة ما وقع عليه من عسف وظلم لا تحتمله الجبال، فكيف بطفل لم يعرف من الحياة سوى المدرسة والعلم والذوق الرفيع، وهو ذو الموهبة من رسم وفن تشكيلي أن يتحمل ظلم وقهر من لا يعرفون الرحمة.
في طريق الوصول إلى (البخشة) وعلى اليسار منها، يستلقي (أبو عدنان) الرجل/ الرجل العنيد المكابر، بروحه المتفائلة، وابتسامته التي لا تفارق محياه، رغم فداحة ما حصل له، فقد قُطعت يده ورجله نتيجة العدوان الأسدي على قريته، وهو المدني ومعلم المدرسة والوحيد لأهله، الذي لم ير الحرب قبل ذلك ولا يعرفها. وهو رغم إعاقته حديثة العهد والكبيرة، فهو لا يرى إلا وأن النظام المجرم إلى سقوط، ولا ييأس أبدًا، بل كان غالبًا ما يوزع جرعات التفاؤل على كل من حوله. وهو بالرغم من إعاقته الشديدة، لم يسلم من إهانات يومية وتعذيب يقوم به السجان (الأشقر) الأكثر حقدًا والأشد حيوانية والأقرب إلى حالة من اللا إنسانية تحتاج إلى الكثير من علماء النفس والاجتماع والأنثروبولوجيا كي يدرسوها ويعيدوا الغوص فيها كي يفسروا لنا ما يجري من إجرام فاق كل التصورات أو التوقعات. وطبعًا الحديث لم ينته بعد، فالأهوال مازالت تجري فصولاً في المعتقلات والسجون الأسدية حتى اللحظة والمجرم ما يزال طليقًا؟!.
المصدر: اشراق