تسعى روسيا إلى استنساخ تجربتها في مسار أستانة لـ”الحل السوري” بالالتفاف على المسارات الأممية القريبة من الرؤية الغربية والأميركية تحديداً، إذ إنها أخرجت ملف “مؤتمر اللاجئين السوريين” من خزانة في وزارة دفاعها بعد فشل الأخيرة في عقده عام 2018، لتعيد طرحه مجدداً، مع سعي وزارتي الخارجية والدفاع الروسيتين لعقده في موعد أولي بين 11 و12 من شهر نوفمبر/تشرين الثاني الحالي، ووسط اهتمام كبير من قبل الكرملين. فقد تحرك مبعوث الرئيس فلاديمير بوتين إلى سورية، ألكسندر لافرنتييف، بين كل من بغداد وعمّان وبيروت لحشد التأييد للمؤتمر، قبل أن ينتهي به المطاف في دمشق. وتزيد موسكو من جهودها الدبلوماسية لعقد المؤتمر وربما خلق مسار جديد يطول لجولات عدة عنوانه الرئيس “عودة اللاجئين”، مستغلةً الانشغال الأميركي بالانتخابات الرئاسية.
بيد أنّ واشنطن التقطت تلك الرسالة، وخرجت من حالة البرود واللامبالاة التي تعاطت بها حيال المؤتمر، وإن بشكل غير مباشر. إذ خرج الممثل الأميركي الخاص للتواصل بشأن سورية، جيمس جيفري، ليذكّر بأنّ الحل في سورية لن يكون إلا بموجب القرار 2254 الأممي (المتعلق بوقف إطلاق النار والتوصل إلى تسوية سياسية)، مشيراً إلى “وحشية النظام وحلفائه خلال الحرب ضد السوريين”، وفق ما ذكرته البعثة الدائمة للولايات المتحدة في الأمم المتحدة، عقب إحاطة المبعوث الأممي إلى سورية غير بيدرسن أمام مجلس الأمن في 27 أكتوبر/تشرين الأول الماضي. وأشارت البعثة إلى وقوف النظام عائقاً أمام جهود البعوث الأممي لعقد الجولة الرابعة من أعمال اللجنة الدستورية، وطالبت النظام بالتوقف عن استهداف السوريين الذين عادوا إلى مناطق سيطرته، وتهيئة الظروف التي تسمح للاجئين بعودة آمنة وطوعية وكريمة وفي الوقت المناسب إلى البلاد، في إشارة واضحة إلى صعوبة عودة اللاجئين من دون صياغة الحل النهائي. وربما ذلك ما جعل الحديث بين رئيس النظام السوري بشار الأسد ولافرنتييف في دمشق التي قصدها الأخير في 29 أكتوبر الماضي، يدور حول “التحديات التي تواجه المؤتمر، وخصوصاً محاولات بعض الدول منع عقده، وإفشاله، أو ممارسة الضغوط على دول راغبة بالمشاركة”، بحسب ما أعلنت رئاسة النظام في بيان حول اللقاء. وهو ما زاد من احتمالية التكهنات المتوقعة بتأجيل المؤتمر في حال لم ينجح الروس بكسب الدعم الكافي لعقده في دمشق أو خارجها.
وكان واضحاً تجنّب مبعوث الرئيس الروسي زيارة تركيا، التي تستضيف أكثر من نصف اللاجئين السوريين بحوالي 3.5 ملايين لاجئ، في طريق كسب التأييد للمؤتمر. وتقف وراء ذلك أسباب عدة، في مقدمتها عدم الرغبة التركية بالدخول بمسار جديد لحل الأزمة مخالف للرؤية الأميركية، وكذلك اختبار أنقرة لموسكو بخداعها غير مرة خلال مسار أستانة ومباحثات سوتشي المكررة التي لم تلتزم روسيا بمخرجاتها. والأهم أنّ الخلافات بين الروس والأتراك تعد اليوم في أكثر مراحلها تطوراً، نظراً لتعقد الملفات بينهما في سورية وليبيا وأذربيجان أخيراً، وقد انعكست الخلافات بين الطرفين على أرض الميدان في الأسابيع الأخيرة في كل من البلدان الثلاثة.
ضبابية بنود المؤتمر وعدم وضوح جدول أعماله وعدم مناقشته من قبل الراعي الروسي أو النظام، تشير إلى أنه محطة روسية جديدة لتمييع الملف السوري في أروقة المسارات المتعددة للحل. فاكتفاء لافرنتييف بالتنسيق مع العراق والأردن ولبنان، من دون المرور بتركيا وأوروبا اللتين تستضيفان الملايين من اللاجئين، مؤشر على عدم الجدية الروسية في حل مشكلة اللاجئين، بقدر استخدامها كورقة لكسب الوقت.
وسجّلت “المفوضية العليا لشؤون اللاجئين” التابعة للأمم المتحدة، حتى 14 أكتوبر الماضي 5,570,382 لاجئاً سورياً؛ 3,626,734 منهم في تركيا، و879,529 في لبنان، و659,673 في الأردن، و242,704 في العراق، و130,085 في مصر، و31,657 في دول شمال أفريقيا (تونس، الجزائر، المغرب، ليبيا، السودان)، وذلك استناداً إلى الإحصائيات الرسمية والأعداد المسجلة لدى المفوضية فقط، إذ تقول الدول إنّ الأعداد الحقيقية أكبر من ذلك، وإن جزءاً كبيراً من اللاجئين غير مسجّل.
ولا تشمل هذه الإحصائية اللاجئين في أوروبا، الذين يفوق عددهم المليون، إذ تستضيف ألمانيا بمفردها 600 ألف لاجئ سوري. هذا عدا عن النازحين داخلياً والمهجرين قسراً، الذين يبلغ عددهم نحو 6 ملايين، ما يعني أنّ نصف السوريين اليوم بعيدون عن بيوتهم.
وتسعى موسكو والنظام للتلاعب في الوقت على حساب اللجنة الدستورية، من أجل الوصول إلى موعد الانتخابات الرئاسية منتصف العام المقبل، وتمرير انتخاب الأسد قبل إنهاء لجنة صياغة الدستور عملها، وذلك كي لا يجد الساعون للحل الأممي مبرراً بإجراء الانتخابات وفق الدستور الجديد للبلاد، إذ يمنع الدستور الحالي معظم شخصيات المعارضة المقيمة في الخارج من الترشح للانتخابات. وكان وزير خارجية النظام وليد المعلم ووزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أفصحا بوضوح، خلال زيارة الأخير إلى دمشق في سبتمبر/أيلول الماضي، عن نوايا كل من النظام وموسكو بشأن التعامل مع مسار اللجنة الدستورية، وذلك بعدم ربطها بجدول زمني محدد، وفصل أعمالها وحتى نتائجها عن الانتخابات الرئاسية المقبلة.
وفي الآونة الأخيرة، علت الأصوات الأميركية والغربية بضرورة تطبيق القرار 2254، في ظلّ استمرار النظام بعرقلة أعمال اللجنة الدستورية، لا سيما وأنّ وفد النظام عطّل الجولة الثانية وفرض رؤيته على الجولة الثالثة بمناقشة ما أسماها “المبادئ والركائز الوطنية”، ويصرّ على ترحيل هذا المحور مضيفاً إليه “الهوية الوطنية”، إلى الجولة الرابعة التي لم يتمكن بيدرسن من الاتفاق على موعد لها خلال زيارته الأخيرة لدمشق، ولقائه المعلم والرئيس المشترك للجنة عن وفد النظام أحمد الكزبري. واتهم بيدرسن خلال إحاطته الأخيرة في 27 أكتوبر الماضي، وفد النظام بعدم التجاوب مع حلّ وسطي تقدّم به شخصياً للمقاربة بينه وبين المعارضة بما يخصّ جدول أعمال الجولة، مشيراً إلى تجاوب الرئيس المشترك عن وفد المعارضة هادي البحرة، مع مبادرته.
وعبّرت فرنسا وألمانيا صراحةً عن عدم اعترافهما بشرعية الانتخابات الرئاسية المقبلة في سورية مع مواصلة النظام عرقلة جهود الحلّ، وذلك خلال جلسة مجلس الأمن ذاتها التي قدم فيها بيدرسن إحاطته. واتفق المندوبان الألماني والفرنسي على رفض الاعتراف بانتخابات لا تجري تحت إشراف الأمم المتحدة، في حين طالب نائب المندوب الأميركي في مجلس الأمن ريتشارد ميلز، الأمم المتحدة بتسريع التخطيط لضمان صدقية الانتخابات الرئاسية المقبلة في إطار نتائج اللجنة الدستورية.
والواضح أنّ واشنطن تضمن الالتفاف الكافي حول رؤيتها في إنجاز أعمال اللجنة قبل استحقاق الانتخابات الرئاسية العام المقبل، إذ يدعمها موقف أوروبي مطابق لتوجهاتها، كان قد أعلن عنه الممثل الأعلى للسياسة الخارجية والأمنية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل في يونيو/حزيران الماضي، حين أشار في تصريحات إعلامية إلى أن قبول الانتخابات الرئاسية في سورية عام 2021 يرتبط بإجرائها وفق دستور جديد وبموجب القرار الأممي 2254.
وعلمت “العربي الجديد” من مصادر أميركية بأنّ واشنطن ستلوح بعد الانتهاء من الانتخابات الرئاسية الأميركية بورقة السلاح الكيميائي في وجه النظام بحال عدم مضيه بالحل السياسي، ويدعمها في ذلك إدانة فريق التحقيق التابع لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية في أبريل/نيسان الماضي، النظام بثلاث هجمات كيميائية استهدفت بلدة اللطامنة بمحافظة حماة عام 2017، بالإضافة إلى تقرير بات بحوزة الإدارة الأميركية يشير إلى استئناف النظام نشاطه بهدف تجديد وتطوير ترسانته الكيميائية. كما أنّ واشنطن ستدعم جهوداً أوروبية في مقاضاة أشخاص من النظام متورطين بانتهاكات وارتكاب جرائم باستخدام الأسلحة الكيميائية، وهذا ما بدأ فعلاً. وأشارت المصادر إلى أنّ ذلك لن يكون مرتبطاً بخلفية الإدارة المقبلة، موضحةً أنّ هذا التوجه أميركي حكومي غير مرتبط بأشخاص شأنه شأن “قانون قيصر”.
ولا تبدو الإدارة الأميركية بصدد إبداء أي ليونة في الوقت الحالي مع النظام، على الرغم من دخول ملف التفاوض على رهائنها معه على خط العلاقة المتوترة. وهذا ما عبّر عنه أخيراً وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، الذي قال إنّ بلاده لن تغيّر سياستها تجاه السلطات السورية لتأمين إفراجها عن الصحافي أوستين تايس، والأميركيين الآخرين المحتجزين لديها. والواضح أنّ واشنطن تسير باتجاه زيادة الضغط من خلال العقوبات، من دون الالتفات إلى الملفات الأخرى.
كل ذلك، سيصعّب من مهمة موسكو بالالتفاف على المسار الدستوري لصالح مؤتمر اللاجئين أو أي مسار آخر، فالغرب وواشنطن تحديداً يدركون عدم رغبة الأسد بإعادة اللاجئين من دول الجوار وحتى النازحين داخلياً، على الأقل ضمن الظروف الحالية، بعد أن كان برمج خطة متقنة لتهجير السوريين بتدبير ورعاية روسية. وهذا ما أشارت إليه وزارة الخزانة الأميركية خلال الحزمة الأولى من عقوبات “قيصر”، بأنها استهدفت أشخاصاً وكيانات يرتبطون بعمليات التغيير الديمغرافي والتهجير القسري للمدنيين.
وربما عدم تأكّد روسيا من نجاح جهودها بعقد مؤتمر اللاجئين في الوقت المحدد، دفع النظام لتفنيد كلام بيدرسن خلال إحاطته الأخيرة عن عمل اللجنة الدستورية بوصفه بأنه “غير دقيق”. وقد جاء ذلك التفنيد على لسان “مصدر دبلوماسي عربي” في دمشق، نقلت عنه صحيفة “الوطن” المقربة من النظام، قوله إن “بيدرسن عقد لقاءين مع أحمد الكزبري وقدّم اقتراحاً لحل الإشكال الذي وقع أخيراً حول جدول أعمال الجولة الرابعة التي لم تنعقد في الخامس من أكتوبر الماضي، وأن الكزبري أبلغ بيدرسن موافقة الوفد الوطني (وفد النظام) على ما قدمه من مقترح، وتم التوافق على تاريخ عقد الجولة المقبلة في 22 نوفمبر، وكذلك عقد جولة خامسة بعدها بأيام، إلا أن المفاجأة أن بيدرسن لم يعلن ذلك في إحاطته”. في حين رحب “الائتلاف السوري المعارض” بإحاطة بيدرسن مؤيداً كل ما ورد فيها، بحسب بيان للائتلاف.
ونجحت روسيا طيلة السنوات الخمس الأخيرة من عمر الأزمة في سورية، بالدفع باتجاه انتزاع الملف السوري من أورقة المسار الأممي للحل، وحصره بمسارها الخاص (أستانة) الذي اخترعته وسخّرت له كل الإمكانيات الدبلوماسية والسياسية. ذلك أنها وجدت في القرار الأممي 2254 لعام 2015 الذي تم تبنيه بدفع غربي وأميركي، بداية الطريق لإنهاء حكم النظام أو الأسد على الأقل، لا سيما بعد أن شرع المبعوث الأممي السابق إلى سورية ستيفان دي ميستورا، بتجزئة متطلبات القرار إلى أربع سلال للبدء بتطبيقها تدريجياً. غير أنّ موسكو تمكنت عبر دبلوماسيتها المعروفة بالمراوغة، وتمددها العسكري في سورية إلى جانب النظام، من بث الروح من جديد في جسد الأخير، الأمر الذي تنبهت له واشنطن متأخرة.
وفي بداية العام 2018، تورّطت موسكو في ولادة فكرة اللجنة الدستورية ضمن مؤتمر سوتشي أو ما سمي بـ”مؤتمر الحوار الوطني السوري”، إلا أنها ومع ذلك، دعمت مساعي النظام في سياسة “الإغراق بالتفاصيل” التي لم يخفها المعلم لتعطيل جهود المبعوثين الأمميين السابق دي ميستورا والحالي بيدرسن، وقد تطلب الإعلان عن ولادة اللجنة أكثر من عام ونصف العام من الجولات المكوكية. ولم يكن الإعلان ليصدر، لولا الضغوط الغربية على موسكو التي بدورها نقلتها للأسد. وعلى الرغم من انطلاق أعمال اللجنة في جنيف، استمر الوفد القادم من دمشق بعرقلة أعمالها بفرض محاور هامشية، بعضها لا يدخل في تفويض عمل اللجنة التي من مهمتها صياغة دستور جديد للبلاد.
ونهاية العام الماضي، صادق الرئيس الأميركي دونالد ترامب على “قانون قيصر”، الذي تقول الإدارة الأميركية إنه يعدّ وسيلة ضغط من خلال عقوباته الاقتصادية والسياسية وحتى العسكرية على النظام، لإجبار الأخير على الجلوس جدياً إلى طاولة المفاوضات لإيجاد حل للصراع بما يتناسب مع المعايير الأممية وعلى أساس القرار 2254. وتوالت حزم العقوبات بموجب القانون، لكن النظام تمادى أكثر بالتحايل على مسار اللجنة الدستورية، ما أزعج واشنطن بشكل واضح لدرجة إرسالها نائب مساعد وزير خارجيتها جويل رايبرن، وجيمس جيفري إلى جنيف قبيل انطلاق الجولة الثالثة من أعمال اللجنة في أغسطس/آب الماضي. وهو ما اتخذت منه دمشق وموسكو ذريعة في إطار مماطلتها، ووجهتا اتهامات لواشنطن بالتدخل بعمل اللجنة الدستورية.
المصدر : العربي الجديد