النقمة التي أثارتها تصريحات ومواقف الرئيس الفرنسي بشأن التمسك بنشر الرسوم الكاريكاتورية المسيئة، عملاً بمبدأ العلمانية وحرية التعبير والرسم والتصوير، كما تقول السلطات الفرنسية، أخذت تكبر ككرة الثلج المتدحرجة في العالمين العربي والإسلامي. ولم تعد مقصورة على المواقف والتصريحات المنددة، بل ترجمت إلى مظاهرات وإحراق صور، واشتعلت بها مواقع التواصل الاجتماعي، وصولاً إلى الدعوة لطرد سفراء ودبلوماسيين فرنسيين، ومقاطعة البضائع والمنتجات الفرنسية في كثير من أسواق البلدان العربية والإسلامية.
وبرز أمس موقف عن المملكة السعودية، إذ قال مسؤول في وزارة الخارجية إن المملكة «تدين كل عمل إرهابي أياً كان مرتكبه، وتدعو إلى أن تكون الحرية الفكرية والثقافية منارة تشع بالاحترام والتسامح والسلام، وتنبذ كل الممارسات والأعمال التي تولد الكراهية والعنف والتطرف، وتمس بقيم التعايش المشترك والاحترام المتبادل بين شعوب العالم».
أما في الداخل الفرنسي، فإن مواقف ماكرون تلقى تأييداً واسعاً، باستثناء بعض الأصوات الموجودة على أقصى اليسار، ممثلة بجان لوك ميلونشون رئيس حزب «فرنسا المتمردة» وبعض الأصوات اليسارية غير المسموعة، فيما اليمين واليمن المتطرف، رغم تأييدهما لماكرون، يريان أن ما يقوم به «غير كاف». وذهبت مارين لوبن، رئيسة حزب «التجمع الوطني» منافسة الرئيس الحالي في انتخابات عام 2017 الرئاسية، إلى حد الدعوة لتدابير أكثر جذرية، ولم تتردد في طلب إقامة «محاكم خاصة» و«تشريعات عرفية» لمواجهة ما تسميه «الغزو الإسلاموي» للبلاد.
وحتى اليوم، لا يبدو أن رئيس الجمهورية أو وزراءه بصدد تعديل مواقفهم. فجيرالد دارمانان، وزير الداخلية وشؤون العبادة، وبالتالي المسؤول عن التواصل مع الهيئات التي تمثل المسلمين، وعلى رأسها «المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية»، عاد للتأكيد أمس، في مقابلة صباحية مع إذاعة «فرانس إنفو»، أن فرنسا عازمة على «محاربة أعداء الداخل»، وأن «قراراتها سيادية»، نازعاً عن الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، أو رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان، أو غيرهما حق التدخل في الشؤون الفرنسية. وكانت لافتة ردة فعل الأخير، حيث عد أن ماكرون «يهاجم الإسلام». وبحسب دارمانان، فإن مسلمي فرنسا هم بالدرجة الأولى «فرنسيون»، وبالتالي لا حق للخارج بالتدخل في شؤونهم.
ويبدو هذا التوجه متوافقاً مع الخط الذي يسير عليه المجلس الفرنسي للديانة الإسلامي الذي التقى الرئيس ماكرون، بناء على طلب الأخير، في قصر الإليزيه مساء الاثنين. وجاء في تصريح لرئيسه، محمد موسوي، أن «فرنسا دولة كبيرة، والمواطنين المسلمين ليسوا مضطهدين؛ يبنون مساجدهم بحريّة، ويمارسون ديانتهم بحريّة». وأضاف موسوي: «ندرك أن مروّجي هذه الحملات يقولون إنهم يدافعون عن الإسلام ومسلمي فرنسا، ندعوهم إلى التحلي بالحكمة، إذ إن كل حملات التشهير بحق فرنسا تأتي بنتائج عكسية، وتتسبب بالانقسام». والأهم من ذلك أن موسوي حث مسلمي فرنسا على «الدفاع عن مصالح البلد»، في مواجهة الدعوة لمقاطعة المنتجات الفرنسية. بيد أنه رغم تأييده لحرية نشر الرسوم الكاريكاتورية، عدل موقفه بعض الشيء أمس في تصريحات صحافية، إذ عد أنه «يتفهم إحساس بعض المسلمين بالاستفزاز» بسبب الإصرار على نشر الرسوم الكاريكاتورية، داعياً إلى الابتعاد عن كل «إرادة متقصدة لإهانة المشاعر». وخلاصة موقف المجلس المشار إليه أن إعادة بث الصور الكاريكاتورية في المؤسسات المدرسية من أجل الترويج لحرية التعبير يجب أن تكون «مؤطرة».
تجدر الإشارة إلى أن قتل أستاذ التاريخ والجغرافيا في مدرسة تكميلية واقعة في مدينة كونفلان سانت هونورين، في 17 الشهر الجاري، وفصل رأسه عن جسده على طريقة تنظيم داعش الإرهابي على أيدي لاجئ روسي الجنسية، شيشاني الأصل، اسمه عبد الله إيزيدوفيتش أنزوروف، جاء -بحسب الجاني- انتقاماً من المدرس صامويل باتي الذي أبرز في الصف الرابع تكميلي رسوماً مسيئة للرسول الكريم سبق أن نشرتها صحيفة «شارلي إيبدو» الساخرة.
وقال موسوي أمس: «لا أعتقد أن إعادة إبراز الصور الكاريكاتورية هو الحل الجيد (لشرح) معنى حرية التعبير للأطفال، وأنا لا أتمنى أن يحصل ذلك، واعتقادي أن هناك وسائل أخرى» لهذه الغاية. كذلك يعد موسوي أن لا فائدة من وضع الصور المشار إليها على واجهات المباني الرسمية، بحسب ما تطالب به بعض الأصوات، وكما حصل في الأيام الأخيرة في مدينتي مونبوليه وتولوز (جنوب فرنسا). وتنوي وزارة التربية الطلب من الأساتذة والمعلمين لدى العودة إلى الصفوف الدراسية بداية الأسبوع المقبل القيام بإظهار الصور تعبيراً عن التمسك بالعلمانية، وحرية التعبير والرسم والتعليم، بحسب ما تقوله السلطات الفرنسية.
كم تبدو بعيدة صورة المسيرة المليونية التي سارت في شوارع باريس بداية عام 2015، عقب مجزرة «شارلي إيبدو» التي ارتكبها الأخوان كواشي، والتي سار في مقدمتها عشرات من زعماء العالم، تعبيراً عن الوقوف إلى جانب فرنسا، والتضامن معها بمواجهة المجزرة الإرهابية التي قضت على 12 رساماً وصحافياً وفنياً من العاملين في المجلة الساخرة المذكورة، بينهم كثير من مسؤولي العالمين العربي والإسلامي.
وقد تلقت باريس دعم مجموعة من القادة الأوروبيين، ومن رئاسة الاتحاد الأوروبي. فالناطق باسم المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل رأى أن الإهانات الصادرة عن إردوغان بحق الرئيس الفرنسي «تشهيرية»، وبالتالي «لا يمكن قبولها». وكتب رئيس الوزراء الهولندي مارك روته أن بلاده «تقف بقوة إلى جانب فرنسا في الدفاع عن القيم المشتركة للاتحاد الأوروبي، وأولها حرية التعبير، وفي مناهضة التطرف والراديكالية».
ومن جانبه، عبّر رئيس الوزراء الإيطالي جيوزيبي كونتي عن دعمه لماكرون، وكذلك فعل الرئيس القبرصي نيكوس أنستزياديس الذي رأى أن الإهانات الصادرة عن رئيس دولة مرشحة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي هي «إهانة فجة لمبادئ الاتحاد وقيمه».
وأعلن الناطق باسم المفوضية الأوروبية أن الاتفاقات السارية المفعول بين تركيا والاتحاد تنص على حرية تبادل السلع، وتعني أنه على تركيا احترام التزاماتها المنصوص عليها في الاتفاقات المذكورة، معتبراً أن دعوة إردوغان للمقاطعة «تبعد تركيا عن أوروبا»، علماً بأنها تسعى منذ سنوات للانضمام إلى النادي الأوروبي.
وحتى اليوم، بقيت دائرة الداعمين والمتفهمين ضيقة، فيما دائرة المنددين والناقمين، بمن فيهم أصدقاء تقليديين لفرنسا، تتسع في الدائرة العربية والإسلامية، ومعها تقوى الدعوات الداعية لمقاطعة المنتجات الفرنسية. ففي طهران، استدعت وزارة الخارجية المسؤول الثاني في السفارة الفرنسية للتعبير عن للاحتجاج على مواقف وتصريحات ماكرون، وكذلك فعلت باكستان، حيث ذهب رئيس وزرائها إلى اعتبار أن ما صدر عن الرئيس الفرنسي «إهانة للسلمين». وعبر وزير خارجية الأردن محمد الخلايلة عن احتجاجات بلاده. أما المغرب، فقد أدان «بشدة» إعادة نشر الصور الكاريكاتورية. وندد المجلس الإسلامي الأعلى في الجزائر بالحملة «الشرسة» التي تستهدف الإسلام.
ولا تبدو باريس عازمة على التراجع عن المواقف التي أكد عليها الرئيس ماكرون، بل إن الوزارات المعنية تعمل على صياغة مشروع قانون لمواجهة ما سماها الأخير «الانفصالية الإسلاموية». أما على الصعيد التجاري والاقتصادي، فإن آثار المقاطعة لم تظهر بعد، وتميل المصادر الفرنسية إلى التخفيف من وقعها. وأمس، قال وزير التجارة الخارجية فرانك ريستر إنها «ما زالت محصورة»، ولا تتناول سوى بعض المنتجات الغذائية. ويرى الوزير الفرنسي أنه ما زال من المبكر إعطاء أرقام حول مدى وقعها على الاقتصاد الفرنسي والتعاملات التجارية والاقتصادية مع الدول المعنية. وبالنسبة لدعوة إردوغان الأتراك لمقاطعة فرنسا تجارياً واقتصادياً، قال ريستر إن تركيا «بحاجة إلى فرنسا وأوروبا أكثر من حاجتهما إليها»، معرباً عن استعداد بلاده لإقامة أفضل العلاقات مع أنقرة «عندما تغير طريقة تعاطيها مع فرنسا والاتحاد الأوروبي». وندد ريستر بالمقارنة التي أقامها إردوغان بين وضع المسلمين في فرنسا اليوم ووضع اليهود في ثلاثينيات القرن الماضي في عدد من البلدان الأوروبية، معتبراً إياها «فضائحي
وبالتوازي، طلبت الخارجية الفرنسية من رعاياها التزام الحذر في عدد من البلدان، والابتعاد عن أماكن التجمهر.
المصدر : الشرق الأوسط