أقرّ الاتفاق في موسكو بين الرئيسين، الروسي بوتين والتركي أردوغان، الخميس الماضي (5 مارس/ آذار الحالي)، ما سبق وأنجزته المعارك أخيراً في الشمال السوري من تغييرات مطلوبة لحدود التماسّ بين الجيوش المتصارعة داخل سورية، والتي سبق أن اتفقوا عليها بين السطور في اتفاقات أستانة، وهو الأمر الذي سهّل للنظام السوري، تحت حماية الطيران الروسي، استرجاع أكثر من 170 قرية وبلدة ومدينة، من بين أيدي المعارضة التي تحتمي بتركيا في شقها السياسي وبجيشها ميدانياً، ما يعني أن الخسائر “البشرية” التي منيت بها الأطراف المتصارعة كانت مجرّد محابر دموية لخط خريطة كانت مرسومة المعالم، ومتفقاً عليها مسبقاً بنصوص اتفاقيات أستانة وسوتشي، وهو ما جعل الرئيس الروسي، في كل تصريحاته، يؤكد استمرار فاعلية الاتفاقات المسبقة، والتي تتضمّن شرعنة هجوم روسيا والنظام على كل المناطق الخارجة عن سيطرتهما، سواء تحت حجة مكافحة الإرهاب، أو تحت بند “السيادة السورية ووحدة أراضيها” المقرّة في كل وثائق الاتفاقات الثنائية والثلاثية والرباعية، وحتى في وثائق وقرارات جنيف.
وهذه المعارك، على الرغم من أنها لم تستطع أن تحقق للرئيس التركي، أردوغان، أياً من وعوده العسكرية، وهي لم تكن، بطبيعة الحال، معركة لأهداف سورية خالصة، كما يحاول بعض المتفائلين بالدور التركي أن يزيّنها، ولكنها أدّت دوراً وظيفياً في الداخل التركي، ولو لبعض الوقت، فقد استطاع أردوغان، خلال العملية العسكرية، أن يؤجل حالة الجدل التي تثيرها معارضته بشأن سياساته المتخبّطة في الملف السوري من جهة، ومن جهة ثانية محاولاته إنهاء الصوت المعارض له بعد الانقلاب الفاشل عام 2016، ومآلاتها السلبية على الواقع المعيشي التركي، وضمنه الاقتصاد الذي شهد تذبذباً غير مسبوق خلال العقود الثلاثة الأخيرة لحكم حزب العدالة والتنمية، وتمكّن أردوغان من الانفراد في السلطة رئيساً في نظام غيّر وجهه من برلماني إلى رئاسي بنسبة 51.41%، وهي الأقل في تاريخ لجوء أردوغان إلى الشعب التركي كحكم على سياساته. أي أن دخول الجيش التركي مرحلة الاستعداد لحرب “متوقعة” أثمرت ما يمكن تسميته تجييش الشعب، وجعله صفاً واحداً خلف إرادة جيشه، وانتزاع، ولو إلى حين، ما كان يتم تداوله بشأن انقسامات داخلية سياسية، كانت قد تؤدي إلى خسارة كبيرة لأردوغان وحزبه مستقبلاً، وهذا ما يجعل أردوغان، إلى حد ما، مقتنعاً بأنه لم يخسر على كل الجبهات، كما هو “الواقع الحاصل”، على الرغم من إخفاقه في تليين موقف بوتين لجهة القبول باجتماع رباعي مع فرنسا وألمانيا، وما كان يمكن أن يحقّقه أردوغان في فتح الحوار من جديد مع أوروبا حول مطالبه، أو حتى في إقناعه بالعودة إلى اجتماعاتهم الثلاثية مع إيران، واكتفى بما أعلن عن وقفٍ “هش” لإطلاق النار، يمكن أن ينظر إليه السوريون بإيجابية لجهةٍ إنسانية فقط، وهي تقليل عدد الضحايا الحاليين من السوريين العزّل، الذين تحوّلوا إلى مجرد أعداد يفاوض عليها أحياء وأمواتاً، ويعاد تدوير مأساتهم مع كل اتفاق، وفي كل خلاف.
تابعت المعارك في الشمال السوري، وإدلب تحديداً، ما أسست له معارك سابقة، في حمص والغوطة وريف دمشق والجنوب، من عمليات التغيير الديمغرافي في سورية، وهي إن هجّرت ما يقرب من مليون، وغيّرت وجه المدن والقرى التي هجروها، وحوّلتها إلى أثر بعد عين، كما حال معالم كل مناطق سورية التي نادت بالحرية والكرامة، وسط صمت دولي مريب، لا تغير أثره بضع تصريحات تنوح على واقع السوريين، ما يجعل ما تفعله اليوم اليونان على حدودها مجرّد تفصيل صغير في حقيقة الموقف الدولي من المذبحة السورية التي يشهدها العالم بالصوت والصورة، ولا تزال حفلة البث المباشر مستمرة، على الرغم من الاتفاق المهلهل لثنائي أستانة، الذي سرعان ما سيتم الانقضاض عليه، وتوسيع رقعة الأراضي المقضومة لمصلحة روسيا، وتسجيل أسماء جديدة على قائمة الضحايا، وبين أعداد المهجرين مستقبلاً.
في ظل ذلك كله، وضعت حكومات أوروبا مواثيق حقوق الإنسان في أدراج حرس حدودها، متحدّية تاريخها الإنساني، وادعاءاتها المتعاطفة مع أزمات الشعوب، وبرّرت ذلك بنقض تركيا التزاماتها في اتفاقية الحد من الهجرة غير الشرعية، وهو السرّ وراء القرار الجديد بمنع الإبحار للمهاجرين عبر بحر إيجة، بعد أن أطلقت العنان لهم، وفتحت أمامهم بعض الأمل في أن يتجاوزوا واقع معاناتهم، سواء في إدلب أو بعض مناطقها التي كانت تحت قصف النظام، أو قبلها تحت حكم جبهة النصرة وأمثالها، ولاحقاً في تركيا تحت وطأة العوز والحاجة، ما يجعل السؤال مشروعاً، على الرغم من أن المهاجرين استخدموا أدوات في معرض المفاوضات وتحسين شروطها، سواء من تركيا أو من روسيا المستفيدة الكبرى في عملية التهجير الأخيرة.
لماذا اختار السوريون أن يعيشوا مأساة طرق التهجير، بحراً وبرّاً، على التوجه إلى مناطق النظام، أو حتى الاستقرار في تركيا؟ أي أن الخيارات المتاحة لهم كانت بين الموت تحت التعذيب والفقر عند النظام السوري، أو الموت بحثاً عن إقامة تركية ولقمة عيش، وتقديم أوراق اعتمادهم “كبشر” عند بعض الأتراك الرافضين وجودهم، انطلاقاً من قناعات أيديولوجية أو من تجاذبات سياسية، أو حتى رغبة في منعهم من مزاحمتهم في بلدهم على لقمة عيش في ظروف اقتصادية خانقة.
التحدّي الأوروبي المعلن اليوم في وجه تركيا، في ما يتعلق بورقة الضغط التركية الخاصة باللاجئين، أسقطتها ورقة التهديد الأوروبية باعتبار أردوغان ميسراً للهجرة غير الشرعية، في حال استمرّ بالتهديد بفتح حدوده أمام الراغبين في الهجرة، ما يعني أن الحدود الآن ستغلق بإرادة الطرفين، وأن البنادق الأوروبية التي تسدّد نيرانها باتجاه صدور اللاجئين لن تكون فقط يونانية، أي أننا قد نكون أمام إنتاج حالة جديدة بين حدود البلدين، تعيدنا إلى فيلم “الحدود”، أبطالها من دم ولحم غرّر بهم، وقادهم حلمهم وحسن ظنهم كي يعبروا النهر والبحر، ليكون مصيرهم العيش بين تركستان ويونستان، من دون أن يتعاطف معهم جندرما من هنا أو بوليس من هناك.
المصدر: العربي الجديد