ما من نظام في العالم، ولا في التاريخ، استعمل (الاغتيال) وسيلة للتخلص من خصومه ومن أعوانه أكثر من النظام الفاشي المتسلط على شعبنا منذ نصف قرن. لقد تفوق على كل الأنظمة في التاريخ في اللجوء الى هذه الوسيلة أو الطريقة الإجرامية، حتى غدت علامة فارقة له، وبصمة تميزه. استعملها في الداخل والخارج، ضد معارضيه وضد مواليه ، وضد كل من يتحسس منهم خطرا ، سياسيين أو عسكريين ، وكتابا ورجال دين مسلمين ومسيحيين .. لا فرق ، فالجميع بالنسبة له سواء كأسنان المشط ! ( صلاح البيطار ، غازي كنعان ، محمود الزعبي ، حسن خالد ، رفيق الحريري ، صبحي الصالح ، مشعل التمو ، خلية الأزمة .. إلخ ) والقائمة تطول ، ولن تنتهي ، ما دام النظام المجرم قائما .
آخر الذين طالتهم يد النظام الغادر الشيخ عدنان الأفيوني مفتي دمشق وريفها ، بعبوة ناسفة زرعت في سيارته ، وانفجرت يوم الخميس 22 / 10 / 2020 ، وكان الرجل مصنفا بين المقربين للأسد ، ونظامه، وأجهزته ، ولم يعرف عنه أي معارضة أو انتقاد لممارساته الغاشمة ضد الملايين من شعبه ، مثله مثل غالبية مشايخ دمشق . بل يشهد له ( وعليه !) أنه لعب دورا رئيسيا في مؤامرة (المصالحات ) بين النظام وثوار الغوطة عام 2016 . وعندما أنجزت (المؤامرة) زار السفاح المعتوه مدينة داريا البطلة ، وصلى الاضحى خلف الأفيوني في مسجدها الذي كان كما المدينة خاليين من السكان والمصلين ، بسبب تهجيرهم جماعيا بعد أربع سنوات من الحصار والتجويع والقصف . وألقى الأفيوني خطبة عاطفية قائلا للسوريين ( ليس لكم والله غير المصالحة ) دون أن ينتبه الى أن هذه (المصالحات) مجرد خدعة ، ساهم في حبكها والتشجيع عليها بعض الشيوخ العملاء ، الذين خانوا الله ، وخانوا الأمانة ، أمثال بسام ضفدع ، ومأمون رحمة ، وأحمد حسون ، ومحمد عبد الستار السيد . وتجاهل الشيخ الافيوني مصير من كان أكثر قربا منه لآل الأسد ، وأعلى درجة ومنصبا في النظام ، الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي الذي قتله النظام عام 2013 بينما كان يعظ الناس في المسجد . ولم يشفع له ما قدمه للطغمة ، فقتلوه بطريقة وحشية على مرأى من الناس . ويقال إن البوطي اعترض على بعض فتاوي ومواقف أحمد حسون ، وهدد بمغادرة سورية ، استنكارا فعجّلوا بنسفه . بل ليت الشيخ الافيوني سأل الحسون عمن اغتال نجله سارية عام 2012 ليعلم هو وكل شيوخ دمشق وسورية بأن هذا النظام الفاجر الجائر ( لا صاحب له ويقتل كل من استعمله وفقد صلاحيته عنده) .
كل هذا واضح ويعرفه السوريون واللبنانيون والفلسطينيون ، ويعرفون أنه انتهك كافة الشرائع والمحرمات ، وحارب الله ورسوله ، قبل أن يحارب شعبه ، ولذلك لا تجوز موالاته ، والسكوت عليه ، بل يجب اعلان الثورة عليه من كل منابر المساجد في سورية شرعا وخلقا ومصلحة ووطنية ، وشق عصا الطاعة ، لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، وعلى الشيوخ أن يدافعوا عن شعبهم وعن دينهم لا أن يستمروا في الخضوع والرضوخ له وتنفيذ أوامره والدعاء له على منابر المساجد صدقا أو نفاقا أو خوفا .
تأتي جريمة اغتيال مفتي دمشق في موسم اغتيالات بالجملة مسرحه الجنوب السوري الذي شهد أكبر عمليات المصالحة بين فصائل ثوار حوران والنظام بوساطة ورعاية روسيا في صيف 2018 ، حصد حتى الآن زهاء 600 معارض سوري ممن وقعوا في شراك المصالحات ، قبل أن يكتشفوا حين لا ينفع الندم شيئا أن الروس ليسوا أقل من الأسديين غدرا وخيانة وخداعا ، فقد خانوا الاتفاقات التي توصلوا لها مع ثوار درعا وحوران قبل عامين ، ولم يحترموا التزاماتهم ، وهو نفس ما فعلوه في حالات سابقة في حمص والغوطة.
والمفاجأة أن جميع الذين تلاحقهم حرب الاغتيالات في ريف دمشق والجنوب هم من الذين صدقوا عهود النظام والروس . وغالبية الاغتيالات تمت بأساليب متشابهة ، بالرصاص ، أو بالعبوات الناسفة ، أو بالسم . وقد ارتفع معدل الاغتيالات في الشهور الستة الأخيرة، إذ بين موقع ( ايران وير) أن الشهور الستة الفائتة شهدت اغتيال 146 شخصا ، مقابل 186 شخصا طوال العام 2019 .
ما يعني زيادة كبيرة بلغت 42% عن العام والنصف السابقين .
وكشف الموقع بالأسماء والأرقام أن جميع أطراف التحالف الدولي المعادي للشعب السوري، أي أجهزة النظام وشبيحته ، والروس ، والايرانيون ، وحزب الله ، ضالعون في عمليات الاغتيال . وقال الموقع إن اللواء السوري حسام لوقا رئيس اللجنة الأمنية في درعا المعين من بشار الأسد شخصيا هو العقل المدبرللاغتيالات . ونقل الموقع عن ( عضو في اللجنة المركزية في درعا – وهي لجنة أهلية تقوم بعمليات التفاوض مع النظام والضامن الروسي لاتفاق التسوية – يعزو ارتفاع عمليات ومحاولات الاغتيال خلال الربع الأخير من التسوية إلى “سياسة النظام في التعامل مع الوضع في محافظة درعا ” .
وقال عضو اللجنة المركزية في ريف درعا الغربي مفلح الكناني إنه تعرض لمحاولة قتل عبر دس السم له في زجاجة عصير في مايو 2019 من قبل مكتب أمن الفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد أثناء وجوده في مكتب العقيد محمد عيسى في ضاحية درعا . وتعرض القيادي السابق يامن مناجرة لمحاولة اغتيال بمادة سامة من أمن الفرقة الرابعة أيضا في ديسمبر الماضي ، تسببت بإصابته بـ” شلل أعصاب دائم ” .
وروى أحد المعارضين المدنيين في درعا أنه تخلى عن نشاطاته المعارضة بعد المصالحة ، واعتكف في منزله بعيدا عن السياسة والسلاح ، ورغم ذلك جاءه قبل فترة شاب يحمل بندقية آلية وكمية من الطلقات ، وأخبره أن فرع المخابرات الجوية كلفه باغتياله ، مقابل 500 دولار . ما يعني أن النظام يلاحق كل من شارك في الثورة مدنيا أو عسكريا ، ولديه قوائم بهم ، ويعمل على قتلهم واحدا بعد آخر .
واتهم عضو مفاوض في اللجنة المركزية لمدينة درعا “الحرس الثوري الإيراني” بالوقوف وراء كثير من عمليات ومحاولات الاغتيال “عبر عملائه في المنطقة ومليشياته ، كالفرقة الرابعة ، والمخابرات الجوية، وحزب الله اللبناني، و”اللجان الوطنية” كفوج الجولان ، في خان أرنبة بريف القنيطرة، والفوج 313 في درعا – وهو ميلشيا محلية تابعة للحرس الثوري .
لقد وقع المعارضون المدنيون والثوار السابقون في مصيدة كبيرة خططت لها الأطراف المذكورة مجتمعة ، لتصفية آلاف المعارضين والمقاتلين الذين سلموا أسلحتهم وصالحوا النظام وقبلوا بالروس ضامنين لاتفاقات يثبت يوميا أنها بلا قيمة ، وأنها جزء من توزيع أدوار بين أطراف الحلف المعادي .
كل من شارك في الثورة أو المعارضة سيتعرض للتصفية، ولن تقبل توبته عند الأسد، ولن تشفع له المصالحة، وعلى هؤلاء الذين انطلت عليهم الخدعة أن يعيدوا حساباتهم، ويتصرفوا مع النظام على قاعدة المتنبي: (وإذا لم يكن من القتل بدُّ … فمن العجز أن تموت جبانا)!