يعتبر كتاب “الاقتصاد السياسي في سوريا” للباحث الألماني فولكر بيرتس ـ الصادر عن دار رياض الريس 2012 ـ وثيقة تاريخية هامة توثق وتشرح آليات التحول الخفيف من الاشتراكية إلى الاقتصاد المنفتح جزئيا نحو القطاع الخاص.
يركز الكتاب على البعد السياسي في العملية الاقتصادية، فالتحويل الاقتصادي يجب فهمه ضمن مقولات السياسة لا ضمن المقولات الاقتصادية المحضة، وبهذا الخصوص يرى بيرتس أن دراسة سوريا يمكن أن تنطوي على أهمية خاصة بغية الإدراك العام للدينامية الداخلية لعمليات التحويل الاقتصادي في بلدان أخرى.
الطبقة والطائفة والدولة
ينطلق بيرتس كغيره من الباحثين الغربيين بالتأكيد على مفهوم الصراع الطبقي لفهم البنى الاجتماعية، وبما أن الطبقات هي تشكيلات معتمدة على الاقتصاد، فإنها تتحدد أساسا بعلاقات الملكية، وبالنسبة إلى سوريا والمجتمعات العربية، فإن الأهمية الخصوصية لأشكال الملكية الخاصة خارج إطار الملكية الشرعية، كحقوق الانتفاع على سبيل المثال، يجب إعطاؤها الاعتبار الذي تستحقه.
وقبل هذا وذاك، فإن شكل البنى الطبقية عرضة للتأثر بتقلبات غير اقتصادية، مثل منزلة الأسرة واستقلال المركز المهني للشخص، والأواصر المناطقية أو القبلية أو المذهبية التي قد تحدد ما إن كان بمقدور شخص ما بلوغ السلطة السياسية، أو كيفية بلوغها، وما إن كان بمقدوره توفير “الواسطة” وكيفية وتوفيرها.
وهذه العوامل تؤدي دورا في توزيع الثروة لا على أساس أنها بقايا لنمط علاقات الإنتاج السابقة للعلاقات الرأسمالية، بل على أساس أنها خاصية قابلة للتكيف لشكل خاص من التطور الرأسمالي للعام الثالث وتشويهاته.
إن تحليل البنى الطبقية في سوريا مسألة معقدة لأن الحدود الفاصلة بين الطبقات مشوشة، لا بسبب الحركة الاجتماعية المتسارعة فحسب، بل بسبب أن الناس يعملون في أكثر من مهنة واحدة.
ويذهب المؤلف إلى أن التحالفات الموجهة سياسيا تنجم عن الصراع بين ممثلين مختلفين، منظمين بعض الشيء لمصالح اقتصادية/ اجتماعية متحدة، وفي هذا، تؤدي الولاءات المذهبية والعشائرية دورها.
لقد استغل الأسد الأب الزبائنية/ الاستزلام كي يضمن سيطرته الشخصية على نظام السلطة الفاشي، ولذلك، فإن نظامه طور بعض السمات الوراثية الواضحة.
ظهور اقتصاد الدولة وتحوله
أقيم التطور الاقتصادي في سوريا على مجموعة من اختلالات التوازن التي تمثل تمثيلا نموذجيا تلك البلدان التي انتهجت نهج التصنيع البديل للاستيراد بقيادة الدولة، فالميزان التجاري كان تقليديا في حالة عجز منذ عام 1970 وكانت البلاد مستوردا خالصا للمواد الغذائية، وفي منتصف الثمانينيات كانت الصادرات تغطي 40% من نسبة الواردات، ومع هبوط تدفق حوالات العمالة في الخارج والمعونة الرسمية، صار الحساب الجاري سلبيا ووجدت الدولة نفسها على حافة الإفلاس من القطع الأجنبي.
ومع أن القطاع العام استطاع عبر نهج التصنيع البديل تغطية الضرورات الاستهلاكية المتنامية، إلا أنه بحسب المؤلف لم يصبح بحد ذاته وسيلة لتراكم رأس المال، ففجوة الموارد، أي الفرق بين الاستثمارات والمدخرات المحلية وصلت إلى معدل أقل من 5% من إجمالي الناتج المحلي.
في ظل حكم البعث كانت المصالح السياسية والاجتماعية هي التي تتحكم بالسياسات الاقتصادية، فالبراغماتية في شؤون صنع السياسة الاقتصادية هي التي تدمغ حكم الأسد، إنها تعبير عن ذلك المنهج الذي يعتبر الاقتصاد وصيفا للسياسة.
ومع الأسد ظلت سوريا تنتهج منهج التصنيع البديل للاستيراد، ولو أنه كان منهج رأسمالية الدولة لا اشتراكية الدولة، فقد كان معروفا عن حافظ الأسد رغبته في التقليل من الاعتماد على الكتلة الاشتراكية والانفتاح على الدول العربية والغربية وداخليا على القطاع الخاص
ولكن ظل نمط الاستثمار والتطور العام في السبعينيات موضع نقد شديد، فتكاليف المشاريع كانت موضع مراقبة ضعيفة إضافة إلى العوائق المالية وقلة وسائط النقل والأيدي العاملة الماهرة، وفي الوقت الذي كان فيه الاستثمار كثيفا في التكنولوجيا المستوردة، فإن البحث والتطور المحليين ما كان لهما أي وجود، فمعظم الصناعات الجديدة كانت كثيفة رأس المال لا كثيفة العمل، كما أن التعيينات السياسية والزبائنية والهياكل البيروقراطية التي كانت تعاقب المبادهات وتتقبل الخسائر على أنها أمور طبيعية، فضلا عن الفساد والسرقة، كلها ساهمت في تفاقم الوضع.
غير أن التدفق الغزير للموارد المالية الخارجية أتاح لسوريا التعايش مع اختلالات توازن هيكلية الاقتصاد، وحين بدأ يتناقص تدفق المعونة العربية في منتصف الثمانينيات برزت أزمة خطيرة تمثلت في تقليص استيراد السلع الاستهلاكية والمدخلات الزراعية والصناعية بمعزل عن أي تخطيط.
بدأ الأسد في مطلع السبعينيات سلسلة تدابير تستهدف الحصول على ثقة القطاع الخاص، حيث أزيلت قيود الاستيراد عن بعض السلع، وصار مسموحا لرجال الأعمال الاستيراد دون تحويل القطع الأجنبي.
وفي عام 1977 أطلقت آخر خطوة هامة في عملية الانفتاح حين تعهد مقاولو عدد من المشروعات تطويرَ صناعة السياحة، لكن العوائق الاقتصادية والتدهور في ميزان المدفوعات دفع الحكومة إلى إعادة النظر في سياساتها التحررية التي جعلت الانفتاح يشرف على النهاية.
وفي منتصف الثمانينيات بدأت الدولة تحت ضغط تناقص الموارد الحكومية وميزانيات التقشف، بإطلاق عملية انفتاح ثان وإن كانت أسبابه مختلفة: الانفتاح الأول مطلع السبعينيات جاء نتيجة الوفرة المالية بسبب القطع الأجنبي الذي كان يدخل البلاد عبر المعونة الخليجية، أما الانفتاح الثاني فقد جاء بسبب ندرة الموارد المالية ووصول الدولة إلى حافة الإفلاس.
كانت سياسات الانفتاح الأول بمثابة الأداة لتوزيع ما تزايد لدى الدولة من عائدات نفطية وسياسية، في حين كان الهدف في الثمانينيات حشد الموارد المالية لدى القطاع الخاص للتعويض عن عجز الدولة لا الحفاظ على استراتيجيتها في قيادة النمو وحسب، بل تأمين إمدادات السلع الاستهلاكية ومدخلات الإنتاج المستوردة للقطاع الخاص والعام على السواء.
البنية الاجتماعية والعلاقات الطبقية
مع وصول حافظ الأسد إلى الحكم، كانت الزراعة هي المهنة الرئيسية لنصف سكان سوريا، لكنها سرعان ما تراجعت بشكل حاد بسبب الهجرات الكبيرة نحو المدن، على الرغم من “الإصلاح الزراعي” الذي استولى النظام بموجبه على أراض واسعة للملاك وقام بتوزيعها على الفلاحين.
وبحلول عام 1981، تزايد عدد صغار الفلاحين الملاك، لكن معظم هؤلاء الفلاحين كانوا في حالة فقر شديد منعتهم من امتلاك الموارد اللازمة لفلاحة الأرض واستثمارها، وكانت النتيجة هجران الأرض.
ما فائدة “الإصلاح الزراعي” يتساءل فولكر بيرتس؟ يجيب أن “الإصلاح الزراعي” كان الأداة الرئيسية بيد نظام البعث لتحطيم الهيمنة المطلقة التي كان يمتلكها أصحاب الأطيان، وكان من نتيجة ذلك، أن الخط الأساسي
السياسة الزراعية وإن خلقت عددا كبيرا من ملاك الأراضي، فإنها لم تخلق الظروف المناسبة التي تسمح لهم بالإنتاج
للصراع الاجتماعي، لم يعد ذلك الخط الفاصل بين الفلاحين من ناحية وبين أصحاب الأطيان والمقاولين الزراعيين من ناحية ثانية، بل صار ذلك الخط الفاصل بين الطبقة الوسطى الثرية وبين الطبقات الفلاحية الدنيا.
لكن، هذه السياسة الزراعية وإن خلقت عددا كبيرا من ملاك الأراضي، فإنها لم تخلق الظروف المناسبة التي تسمح لهم بالإنتاج، وشيئا فشيئا تحولت طبقة الفلاحين الصغيرة إلى بروليتاريا بعد تركها مهنة الزراعة.
بنية تسلطية
1ـ الأمن: القوات العسكرية وأجهزة الأمن هي أكثر الأدوات الموثوقة والموجودة تحت تصرف النظام، وهي أقوى اللاعبين الموجودين على مسرح المؤسسات، وعلى الرغم من المستوى الرفيع الذي بلغه التجييش الاجتماعي والتدريب العسكري للأجيال الشابة يجدر بنا الشك -والكلام للمؤلف- في أن يكون الجهاز الأمني قد استحوذ على قلوب وعقول أكثر من ربع السكان، لكن النظام استطاع -يتابع المؤلف- أن يتحكم بسلوك معظم السوريين بسبب تغلغل جهاز الاستخبارات في أعماق المجتمع.
إن مراقبة الاستخبارات للناس أمر مكشوف للعموم، غايته الحفاظ على مناخ من الخوف والإذعان، وليس هناك مؤسسة يستطيع المواطنون التقدم إليها بشكوى حول سلوكيات الأجهزة الأمنية تجاههم.
ومع تمتع جهاز الأمن بنفوذ كبير، إلا أنه لم يعد يتدخل بشكل مباشر في السياسات الاقتصادية أو غيرها من الميادين السياسية المدنية، ولا يسمح بالمقابل للحكومة التدخل في الشؤون العسكرية والأمنية، والصراع الذي نشب عام 86 بين رئيس الحكومة عبد الرؤوف الكسم والطبقة العسكرية يوضح طبيعة هذه العلاقة، حين اتهم الكسم مؤسسة الإسكان العسكري بتورطها بالفساد عبر شراء مبالغ ضخمة من القطع الأجنبي من السوق السوداء مما شكل عبئا على الاقتصاد، وتطور الخلاف إلى أن انتهى بإقالة الرجلين.
2ـ حزب البعث: كان حافظ الأسد في موقع الأقلية في القيادة الحزبية التي أطاحها عام 1970، وكان يقظا حيال الحزب ووطأته السياسية، وانتشرت شائعات آنذاك عن سعي الأسد إلى حل الحزب، لكنه قام بتحويله عبر إدخال مزيد من الأعضاء في صفوفه بغية تحييد الأعضاء المؤيدين للقيادة اليسارية.
يقول المؤلف إن أولى الخطوات كانت إزالة البنية الأيديولوجية عنه وإعادة بنائه كي يجد له مكانا في البنية السلطوية الجديدة وشبكة “استزبان” رئيسية للنظام، ومنذ عام 1970 انفتحت الأبواب أمام الناس حتى بعض العناصر السابقين من الإخوان المسلمين، وأعيد تنظيم الحزب على أسس هرمية شبه عسكرية، فلم تعد قيادات الفروع والشعب تنتخب انتخابا من قبل أعضاء المؤتمرات المحلية، بل تعين تعيينا من القيادة القطرية.
ومع تحوله إلى مؤسسة قوية بدأ يفقد عقائديته ولم يعد تلك المؤسسة القادرة على تعبئة الجماهير، حيث تحول إلى أداة للرقابة وشبكة للوصاية، فالخلايا الحزبية في معامل القطاع العام على سبيل المثال تقدم تقارير دورية إلى المكتب الاقتصادي في فروعها الحزبية عن أداء تلك المعامل.
إن تحول الحزب إلى مؤسسة رقابة جعله يقوم مقام جهاز الإنذار السياسي المبكر عن سوء الأحوال، إذ يزود القيادة بصورة عن واقع الرأي العام، وهنا تصبح الحدود الفاصلة بين الحزب كمؤسسة سياسية والجهاز الأمني حدودا مشوشة.
3ـ الجبهة الوطنية: يرى المؤلف أن المهمة الظاهرية للجبهة كان تجميع القوى الوطنية بغية الوصول إلى قدر أوفى من التلاحم، لكن تأسيس الجبهة أدى عمليا إلى ترسيخ النظام وتحييد المعارضة المحتملة، حيث وافقت الأحزاب غير البعثية على الكف عن أي نشاط سياسي بين القوات المسلحة وبين الطلاب.
وتمثل أحزاب الجبهة غير البعثية في البرلمان كما تمثل في مجالس المحافظات والمجالس المحلية، فضلا عن أن لكل حزب منصبا وزاريا صغيرا أو منصبين، ولا يحق لهذه الأحزاب أن تختار من بين أعضائها من سيكون وزيرا، بل تتقدم بمرشحين والرئيس هو من يختار من بينهم من سيكون وزيرا. لقد خسرت أحزاب الجبهة الشيء الكثير من صدقيَّتها من جراء ربط أنفسها بالبعث، وبلغ مستوى تزلفها للبعث أن وافقت على سياسات ناقضت مبادئها الأيديولوجية.
سوريا في عهد بشار الأسد
من المثير للاهتمام رؤية كيف أن بعض التطورات التي كانت في مرحلة بداياتها الأولى في ذلك الوقت ظهرت للعيان، ففي التسعينيات كان التحرر الاقتصادي لا يزال في بدايته الأولى، وكان الناس ما زالوا يناقشون ما إذا كان ينبغي السماح باستيراد السيارات الخاصة أم لا، ولم يكن هناك نقاش البتة حول البنوك الخاصة، أو شركات التأمين الخاصة، أو شركات الكهرباء الخاصة التي ظهرت في حكم الأسد، حتى البورصة أصبحت موجودة.
وعلى نحو مختلف عن التسعينيات أصبح القطاع الخاص إلى حد بعيد في الصدارة، وهنا يكمن الاختلال السياسي الكبير بحسب المؤلف، فما بدأ في حكم حافظ الأسد بطريقة حذرة جدا، تم التعجيل به وإعطاؤه أبعادا جديدة في ظل بشار الأسد.
ومع أن الطبقة الوسطى أصبحت أفضل حالا، إلا أن التفاوت الاجتماعي تزايد، وأصبح هناك فقر جديد في أسفل الهرم الاجتماعي، وظهرت بالمقابل طبقة جديدة من الأثرياء جدا، والفساد الذي هو مشكلة دائمة في سوريا ازداد أيضا، فقد كان مرضا في عهد حافظ الأسد واليوم أصبح سرطانا.
وبخلاف توقعات المراقبين السوريين والأجانب، لم يجر إصلاح الهياكل السياسية في سوريا، وأصبح للأجهزة الأمنية تأثير سياسي أكثر من أي وقت مضى، والسلطة القضائية غير مستقرة، وأقيمت بعض الوسائل الإعلامية الخاصة، لكنها ما زالت تتكلم بلسان حال النظام، وخابت الآمال بانفتاح سياسي، وهنا يرى المؤلف أن طريقة بشار الأسد كانت نوعاً من التحديث السلطوي.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا