لعل منطقة الشرق الأوسط هي المنطقة الأكثر عرضة في العالم لمحاولات الهيمنة من القوى الخارجية، مردُّ ذلك لأسباب عديدة ليس أولها الاقتصاد وما تحتويه هذه المنطقة من ثروات فقط، وليس آخرها الموقع الجيوسياسي البالغ الأهمية، وما يعزز من إمكانية الهيمنة هو وجود عوامل كثيرة تسهل الطريق أمام من يريدها، فعدا عن بنيتها الاجتماعية الهشّة، المرتكزة على صدوع عميقة وواسعة لم يتم تجسيّرها لأسباب عدة – سواء أكانت موضوعية أو متعمدة – هناك تخلفها المستدام، وتراجع الهويات الجامعة لشعوبها مقابل صعود الهويات المذهبية والإثنية والطائفية والعشائرية، وهو الأمر الذي لا يزال الأداة الفضلى لمحاولي الهيمنة، وهناك أيضاً تبعية القيادات والحكومات المتعاقبة في دول هذه المنطقة، وعجزها عن إنجاز ما يمكن أن يحمي شعوبها من هذه الهيمنة.
بعد وصول ملالي إيران إلى سدة الحكم في إيران في عام 1979م، أي بعد انتصار ما سمي بـ “الثورة الإيرانية”، نشطت بؤرة صراع جديدة كانت خامدة إلى حد ما، ولم يكن لهذه البؤرة أن تنشط إلى هذا الحد وتصبح محوراً أساسياً في سياسات ومصير هذه المنطقة، لو أن سلطة “الملالي” اقتصر انشغالها على الشأن الإيراني الداخلي، لكنها ومنذ البداية، وبمنهجية مخطط لها، انشغلت إلى حد الهوس بمشروع هيمنتها على دول المنطقة، أدّى هذا إلى إضافة معركة أخرى لا تقل ضراوة عن المعارك التي كانت تشتعل في هذه المنطقة المنكوبة، لا بل أصبحت أخطرها.
كل محاولات الهيمنة تشكل خطراً على الشعوب المستهدفة، لكن لعل أخطر الاستراتيجيات المتبعة للهيمنة على هذه المنطقة هي الاستراتيجية الإيرانية، فهي عدا عن كونها تستعمل الأدوات الأخرى المستعملة من أطراف الهيمنة الآخرين، إلا أنها تعتمد على عاملين آخرين إضافيين هما الأخطر والأشد فتكاً:
العامل الأول هو الخصوصية المذهبية لغالبية الشعب الإيراني، واستنهاض هذه الخصوصية في كامل المنطقة، ليس بوصفها تنوعاً يُمكنه تقوية شعوب هذه المنطقة، بل بوصفه ثأراً تاريخياً يستوجب استعادة زخمه العاطفي والعصبي، وتحويله إلى صراع عميق ودائم محوره العصبية المذهبية.
العامل الثاني يكمن في استراتيجية تفتيت المجتمع المراد الهيمنة عليه، والتغلغل في كامل بنية إحدى عصبيات هذا المجتمع، الأمر الذي ينقل الصراع من حقل “الوطني/ الخارجي” إلى حقل “الوطني/ الوطني”، مع ما يعنيه هذا من مخاطر على الهوية الوطنية للمجتمع المستهدف، ومع ما ينتج عنه من تهتك في نسيج هذا المجتمع.
لنجاح الاستراتيجية الإيرانية في الهيمنة، رأت قيادة الحرس الثوري الإيراني المكلف ب “تصدير الثورة الإيرانية” أن إحكام القبضة على مجتمع ما عبر تبعية قياداته أو واجهاته السياسية والدينية والاقتصادية لن يكون كافياً، وأن الأفضل هو تفتيت المجتمع وإضعاف الدولة، على أن يترافق إضعاف الدولة بخلق صيغة موازية ركيزتها الأساسية عصبية ما يصعب تحطيمها أو تجاوزها، وتكون هذه العصبية هي أداة الهيمنة الإيرانية، “حزب الله في لبنان نموذجا”.
في سوريا، اعتبر الحرس الثوري الإيراني أن تجربته في إحكام السيطرة على لبنان عبر “حزب الله” هي الأفضل لتطبيقها في سوريا، لذلك سارع “قاسم سليماني” الذي أدار الصراع في سوريا منذ انفجار الثورة السورية إلى العمل وفق ثلاثة محاور مترابطة في سياقها العام، وتسير بالتساوق فيما بينها:
منع أي حل سياسي بين السلطة في سوريا وبين الشعب السوري، لأن أي حل سيغلق الباب أمام استكمال الخطة الإيرانية في الهيمنة الكاملة.
الدفع باتجاه انهيار الدولة، وخصوصاً في مؤسستيها الأهم والأقوى في سوريا، وأقصد مؤسسة الجيش، والقوى الأمنية، لهذا تم دفع الجيش السوري إلى مواجهة مكشوفة ومعلنة مع الشعب السوري باكراً، ولم تكن الوقائع الميدانية تتطلب ذلك، الأمر الذي تسبب في انقسامات داخله، وفي إضعافه، وهو هدف أرادته إيران لتنفيذ خطتها المتضمنة تشكيل بنية عسكرية وموازية، وبديلة تشبه في بنيتها ودورها بنية ودور حزب الله في لبنان، والتي تأتمر بأمر إيران، وهذا ما حاولته عبر ما سمي بـ “قوات الدفاع الوطني”، وعبر استقدام ميليشيات موالية لها من خارج سوريا “حزب الله، وميليشيات شيعية عراقية وغير ذلك”.
إزكاء الصراع الطائفي وتقوية العصبيات الطائفية، ومن أجل تعميق الانقسام الطائفي، فقد ارتكبت إيران والميليشيات التابعة لها، عشرات المجاز الطائفية الصريحة، ومارست تهجيراً طائفياً صريحاً في مناطق متعددة من سوريا.
لكنها، ورغم كل الفظائع التي ارتكبتها لم تصل الخطط التي وضعها الحرس الثوري الإيراني في سوريا إلى الأهداف الأساسية لها، فقد ساهمت التركيبة الديموغرافية في سوريا إلى حد كبير
في تعثر هذه الخطط، والمكونات التي حاولت إيران جعلها حاضنة بنيوية لمشروع هيمنتها، لم تر في الطرف الإيراني نموذجاً يمكنه أن يحقق مصالحها البعيدة، عدا عن تناقضها البنيوي مع جوهر المشروع الإيراني، ورغم أنها دعمته وانخرطت فيه لحاجتها له في حسم الصراع الدائر، لكنها لا تراه مشروعاً يمكن السير فيه في مرحلة ما بعد الحرب.
لا يمكن للشيعة الذين شكلوا ركيزة مشروع الهيمنة الإيرانية في كل من لبنان والعراق واليمن والبحرين، النهوض بمسؤولية كهذه في سوريا، فهم عدا عن أعدادهم القليلة جداً، هم متباعدون جغرافياً، وليس لديهم بقعة جغرافية يشكّلون فيها أغلبية كبيرة، كما أن العلويين الذين حاول الإيرانيون جعلهم جزءاً من مشروع هيمنتهم، لا يرون أنفسهم جزءاً من مشروع الولي الفقيه، سواء من الناحية الدينية أو من الناحية الاستراتيجية لوجودهم وحياتهم، وإذا ما فرض خياري الإيراني والروسي، فإن الاتجاه العام للعلويين يميل باتجاه الروسي.
باختصار، فإنه بغياب البنية الاجتماعية الحاملة لمشروع الولي الفقيه في سوريا، لم يعد أمام إيران سوى حماية حليفها الأهم، وربما الوحيد، وأقصد “عائلة الأسد”، وببقاء هذه العائلة فإن إيران تضمن بقاء القسم المؤيد لهذه العائلة من الجيش السوري ومن الشعب السوري معها، وهو الذي قد يكون ضمانة لمصالحها، لكن هذا يربط مصير مصالح إيران ومشروعها بكامله بمصير هذه العائلة، وبالتالي فهي تحاول ما تستطيع الإبقاء على هذه العائلة في موقع السلطة، وترفض أي مقاربات تنفتح على طي صفحة هذه العائلة.
هل يُمكننا قراءة مؤشر العلاقات الروسية الإيرانية من منظور مقاربة مصير عائلة الأسد؟ وهل يمكننا أيضاً قراءة المواجهات العسكرية التي حدثت في درعا بين الفيلق الخامس “أحمد العودة” وأهالي السويداء من نفس المنظور؟ وهل تدفع إيران إلى مواجهة مفتوحة مع الروس فيما إذا حاول الروس مقايضة رأس بشار الأسد بحل سياسي توافق عليه أميركا وإسرائيل؟
المصدر: موقع تلفزيون سوريا