بينما يتابع الرأي العام العربي باهتمام شديد مسلسل ” التطبيع ” الجاري بسرعة غير معتادة بين أكبر فصيلين في الساحة الفلسطينية، سبق أن وقعت بينهما صراعات بالسلاح على مدى 13 عاما، يتساءل المراقبون عن مدى جدية المصالحة التي انطلق مسارها منذ اجتماع الأمناء العامين للفصائل الأربعة عشر في بيروت مطلع الشهر الماضي أيلول / سبتمبر .
كان الاجتماع الأول في بيروت مفعما بالحرارة ، وانتهى بتوصيات تشبه رزمة معجزات في وقت واحد ، شكلت فيما مضى عناصر تعقيد في العلاقات الفلسطينية – الفلسطينية ، طوال الفترة منذ 2007 حتى اليوم . أهمها :
1 – وضع نهاية فورية للانقسام بين حماس وفتح ، وبين غزة وسلطة رام الله .
2 – تحقيق الوحدة الوطنية على برنامج عمل تتفق عليه كافة الفصائل ، وتكون وحدة فتح وحماس قاعدته الصلبة .
3 – الاتجاه الى انتخابات عامة ، ورئاسية ، وانتخابات للمجلس الوطني لمنظمة التحرير .
4 – خوض الانتخابات بقائمة موحدة للفصيلين الأكبرين يمثل تأكيدا للتحالف الناشئ بينهما .
5 – انضمام حماس للمرة الاولى الى منظمة التحرير ، وتوقيع اتفاق يتضمن برنامج عمل يحدد رؤية حماس العقائدية المغايرة لرؤية فتح وبقية الفصائل ومواقفها السياسية من قضايا الصراع والمستقبل مع العدو .
6 – تدخل دولي – اقليمي مكثف يوفر نوعا من الضمانة لجدية الاتفاقات الحاصلة وتنفيذها من كل الاطراف ، برعاية تركيا وإيران وقطر ، ومشاركة أقل من جانب مصر .
وجاء الاجتماع الثاني الذي جرى في إستانبول يوم الثلاء 22 سبتمبر واستمر لنهاية الاسبوع بوفدين من حماس وفتح فقط ، ترأسهما صالح العاروري ، وعزام الاحمد ، ليؤكد تسارع وتيرة المصالحة في دفع الأمور العالقة ، والانتقال من التوصيات الى خطوات التنفيذ .
كما ظهر واضحا مدى التدخل الاقليمي ، وخاصة تركيا وإيران وقطر .. وبشكل أقل حزب الله ومصر .
ولكن ما يتداوله الرأي العام ليس سوى العناوين ، وثمة تفاصيل أخرى خافية تحتاج الإضاءة عليها لتقييم ما حدث ومدى امكانية الرهان على جديته واستمراريته ، والإجابة على أسئلة موضوعية من نوع : ما سر هذه الانعطافة المفاجئة واللهفة على المصالحة بين فتح وحماس بعد عناد وتعنت ونفور متبادل استمر 13 سنة كاملة ..؟ وما الذي جعل الطرفين يقبلان على التطبيع بينهما ؟ وما هي الاسباب الحقيقية لهذا التحول ؟ وهل يستمر أم يفشل كما فشلت التجارب السابقة ؟
مصادر خاصة كشفت للشراع المعطيات التالية التي تسلط الضوء على أبعاد الحدث ومقدماته ، وعناصره الداخلية ، والخارجية .
أولا – جاء التحول في موقفي الحركتين كرد فعل على مواقف الدول العربية ، بدءا باعتراف الامارات العربية والبحرين باسرائيل ، ثم تأييد دول عربية اخرى لهما ، ورفض مجلس جامعة الدول العربية ادانة قرار الدولتين كما طلبت فلسطين . فجاء تحرك فتح وحماس من أجل بناء جبهة فلسطينية موحدة في مواجهة الأنظمة العربية ، وتأكيد قوة الموقف الفلسطيني الوطني .
ثانيا – اتجاه كافة الفصائل الفلسطينية الى تركيا وقطر وايران ردا على الدول العربية أيضا ، وكان واضحا التنسيق بين قطر وتركيا وحزب الله في مسار المصالحة والتطبيع من ناحية وفتح وحماس وحزب الله من ناحية مقابلة ، كأن الصراع العربي الاسرائيلي يتحول صراعا ايرانيا – اسرائيليا ، بتدخل من تركيا وقطر أيضا .
ثالثا – للمرة الأولى تترطب العلاقات بين الرئيس الفلسطيني ونظيره التركي ، ويتبادلان الاتصالات والأحاديث الودية بعد الحملة العنيفة التي حرض عليها الرئيس عباس شخصيا ضد الامارات والبحرين ، ثم على جامعة الدول العربية كلها ، الى حد استفز كثيرين من القادة والمسؤولين الفلسطينيين فطالبوا الرئيس بعدم المبالغة في هجومه على العرب . الأمر الذي يؤكد أن الرئيس عباس أصبح جزءا من المحور الآخر المعادي للعرب .
هذا كله على المستوى السياسي الاقليمي . أما على المستوى الفلسطيني الداخلي ومستوى علاقات الحركتين ، والصراعات التي تدور بينهما وفي داخل كل منهما ، فقد أشار المصدر الفلسطيني الى المعطيات التالية :
أولا – تعاني الحركتان الكبيرتان أزمات عضوية وتنظيمية عديدة ، فكل واحدة منهما تشهد اضطرابات وانقسامات داخلية ، وعزلة أو غربة ، عن القاعدة الشعبية والاجتماعية ، تهدد مكانتيهما على الساحة الوطنية . ففي حركة فتح حاليا عدة تيارات متصارعة ، أبرزها تيار الاصلاح الذي يقوده محمد دحلان الذي أصبح هاجسا يقض مضاجع الرئيس ابو مازن ، خاصة أنه يقيم في الامارات ويتلقى الدعم منها ، ولا سيما بعد أن صرح مصدر اميركي دعم دحلان ليكون رئيسا بدلا من عباس .
أما حركة حماس فتعاني الآن صراعا على السلطة بين جناح العسكر بقيادة السنوار الذي يريد اقصاء هنية ومشعل ، وفتح ملفات فسادهما للإطاحة بهما والاستفراد بقيادة الحركة . كما تشهد الحركة تنافسا قويا بين مشعل وهنية ، وهذان يعملان للتخلص من يحيى السنوار في الدورة القادمة .
ثانيا – علاقات الرئيس عباس مع مصر ساءت كثيرا بعد دعمها للامارات ومنع الجامعة من ادانة الامارات . وكادت تسوء ايضا مع السعودية لنفس السبب لكن الموقف الذي أعلنه الملك سلمان تأييدا للموقف الفلسطيني أوقف تدهور العلاقة ، وجعلت عباس يرسل رسالة شكر للملك سلمان .
ثالثا – الرئيس عباس سيخرج من السلطة ولن يستطيع الترشح في الانتخابات القادمة بسبب تقدمه في السن ، وتدهور علاقاته الشخصية مع القادة العرب والغربيين ، ويريد انهاء حياته السياسية بدور البطل العنيد في دفاعه عن القضية الفلسطينية . وهذا أحد أسباب تصعيده .
رابعا – الرئيس عباس لم يكن ليوافق على اجراء الانتخابات العامة والرئاسية لولا ضغوط دول أوروبية وتهديدها له بقطع معوناتها للسلطة ، إذا لم تجر انتخابات شفافة ونزيهة ، لأن الرئيس الحالي غير شرعي ، وولايته منتهية منذ أكثر من عشر سنوات .
رابعا – المصالحة بين الحركتين واجتماعهما في إستانبول تحركها رغبة كل من القيادتين الاستقواء بالأخرى للتخلص من منافسيها في الداخل .
خامسا – التقارب السريع بين فتح وحماس مشكوك في دوافعه كثيرا ومشكوك في استمراره ، لأن الخلافات بينهما عميقة وعقائدية ، ولذلك فدوافعه مصلحية لا وطنية ومؤقتة ، ومن الصعب جدا أن يتفقا على الحصص في منظمة التحرير إذا صدقت حماس ودخلت منظمة التحرير ، لأن برنامجها يتناقض مع برنامج فتح .
سادسا – لا أحد من المحللين المختصين الذين يعلمون عمق وحجم اختلافات الحركتين السياسية والعقائدية ، وأكثر ما يكشف زيف ( شهر العسل ) بينهما هو زعم هنية أن حماس ستشارك في الانتخابات بقائمة واحدة مع فتح !.
سابعا – حتى الدول الاقليمية التي تدعم وتتبنى هذه التحولات في الحركتين ليست متفقة ، وهناك خلافات كثيرة فيما بينها ، ولذلك لا يتوقع أن تستمر حالة الوئام ، وستنعكس الخلافات على الاطراف الفلسطينية حتما .
ما حدث ويحدث على الساحة الفلسطينية حاليا هو عملية تطبيع فلسطيني – فلسطيني ، مقابل التطبيع العربي – الاسرائيلي خوفا من انعكاسه على العلاقات الفلسطينية – الفلسطينية ، والفلسطينية – العربية . وقد سبق أن شهدت الساحة الفلسطينية مثل هذا التطور الايجابي لكنه سرعان ما فشل مرة بعد أخرى ، فهل يثبت هذه المرة ؟