ما يزال سيد الكرملين في موسكو، فلاديمير بوتين، قادراً على إثبات هيمنته “لاعباً” أوّل لدى كل منعطف جديد في الحرب السورية، اللاعب الذي يحتاجه بقية “اللاعبين”، ويتجنّبون الصدام معه، على الأقل في العلن، وما يزال يمارس لعبة الإمساك بعدة عصيٍّ من الوسط وفي آن واحد، ولو أن اللعبة باتت أكثر كلفةً وخطورة للجميع.
بالنسبة لتركيا، كما هو الأمر لبقية الأطراف، الخيارات في إدلب ليست سهلة، ولأي خطوة عسكرية أو سياسية ثمنها. تَرْكُ فصائل المعارضة المسلحة تواجه النظام السوري وحلفاءه في الميدان بدون دعم تركي أدّى إلى خسائر في الأرواح والمواقع، وأتاح للنظام وحلفائه الوصول إلى ريف حلب الغربي من جهة، وإلى مسافة 18 كم من مدينة إدلب، باستعادته مدينة سراقب، ذات الموقع الاستراتيجي من جهة أخرى، وعقدة المواصلات المشرفة على الطريقين الدوليين M5 الذي يصل دمشق وحماة بحلب وM4 الذي يصل اللاذقية بحلب. وقد أثارت هذه النكسات استياء حلفاء تركيا في المعارضة المسلحة السورية وانتقاداتهم، ونالت من “سمعتها” بوصفها القوة الضامنة والحامية للفصائل.
وبعد أن يئستْ تركيا من محاولاتها المتكرّرة لإقناع “الحليف” الروسي بلجم تقدّم قوات النظام وإعادتها إلى مواقعها التي حددتْها اتفاقية سوتشي 2018 لخفض التصعيد، حسم الرئيس أردوغان تردّده، وأرسل قوة كبيرة إلى إدلب (بما فيها عشرة آلاف جندي تركي وأكثر من 2500 آلية ومدرعة)، وهدّد النظامَ السوري بإجباره على التراجع، إن لم يفعل ذلك طوعاً في نهاية شهر فبراير/ شباط، إلّا أن الهجوم الموجِع على القوات التركية، والذي أسفر عن مقتل عشرات الجنود (التقديرات بين 34 إلى 55)، عجّل في الرد التركي الذي أتى ساحقاً.
المفارقة هنا أن الهجوم على القوات التركية كان، حسب بعض المصادر، من “الحليف” الروسي، رداً على عدة هجماتٍ، كانت فصائل المعارضة قد نفذتْها ضد القوات الروسية في قاعدة حميميم وفي مواقع أخرى، ولكن أردوغان أحجم عن لوم روسيا، ووجّه إصبع الاتهام إلى النظام السوري، كما صبّ جام غضبه على القوات السورية وحلفائها في هجومٍ انتقاميٍّ واسع بالمدفعية والطائرات المسيّرة، وادّعى أن قواته “حيّدتْ”، خلال أيام قليلة، أكثر من 2500 جندي ومقاتل ودمّرت أكثر من 150 دبابة، وحتى لو أخذنا بالحسبان حجم المبالغة، فإن خسائر الجانب السوري كانت بالتأكيد فادحة.
في موازاة ردّه العسكري، كثّف أردوغان من اتصالاته بالجانب الروسي وبوتين شخصياً من أجل الضغط على النظام وحلفائه للانسحاب، وبدا لعدة أيام كَمَنْ يستجدي الاجتماع ببوتين، وأشارت التسريبات الإعلامية إلى أن المحادثات الهاتفية بينهما، قبل انعقاد القمة في موسكو، بَلَغَتْ حد الصراخ المتبادل، وذلك يحدث للمرة الأولى بين “الحليفين”. ثم عقدت القمة، أول من أمس الخميس، وانتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، ولكن تركيا لم تحصل إلا على “تنازلات” محدودة من الجانب الروسي، أهمها إقامة “ممر آمن” بعمق 6 كم شمال وجنوب الطريق الدولي M4 تسير فيه دوريات روسية – تركية مشتركة، بدءاً من 15 مارس/ آذار الحالي، وهذا على غرار الدوريات المشتركة في الشمال السوري غربي الفرات، ولم تسفر الاتفاقية عن أي تعهد روسي بالضغط على النظام السوري، للعودة إلى مواقعه قبل الهجوم على محافظة إدلب، كما كانت تطالب تركيا.
وفي ما يتعلّق بالنظام السوري، كان من الواضح أنه، منذ البداية، حصل من الروس على ضوء أخضر ودعم جوي كثيف في عملياته العسكرية في إدلب وريف حلب وحماة، ولكن بعد الضربة التي تلقاها الأتراك في 27 فبراير/ شباط، أصرّ أردوغان على الثأر “لشهدائه”… ولكن من قوات النظام، وليس من القوات الروسية، وحيال الهجوم التركي المكثَف، وقفتْ روسيا يومين موقف المتفرج، وكأنها تعطي أردوغان الفرصة لاستعادة كبريائه أمام جمهوره التركي. والرسالة الروسية هنا تنطوي على أكثر من جانب، أن روسيا، مهما اختلفتْ مع تركيا، فإنها لن تحاربها إكراماً للنظام السوري، وثانياً أن روسيا هي التي تقرّر مسار المعارك وحدودها، وحين تسوّل للنظام نفسُه بالخروج عن إرادتها سوف يخاطر بتحمّل النتائج، ولن يفيده كثيراً دعم إيران وحزب الله والمليشيات الشيعية. وكان ملحوظاً كيف عدّل رأس النظام السوري أخيراً لهجته تجاه تركيا، إذ تَحَدَّثَ عن “الروابط التاريخية” بين الشعبين السوري والتركي، بل وعن روابط القربى والدم والوشائج العائلية.. وتشي هذه التصريحات بأن الرسالة الروسية وصلت إلى دمشق، وبأن النظام ليس في وارد تحدّي الإرادة الروسية بمزيدٍ من التصعيد مع تركيا.
إيران، الحليف “اللدود” لروسيا، كانت أيضاً معنيةً برسالة الكرملين التي هَدَفَتْ إلى تذكير إيران بأن عشرات آلاف المقاتلين الموالين لها (حزب الله، الفاطميون، الزينبيون ..) قد يصبحون فرائس سهلة للآلة الحربية التركية، إذا حرمهم الروس من الغطاء الجوي، وقد تكبدتْ هذه القوات أكثر من ثلاثين قتيلاً نتيجة ضربات “الثأر” التركية. أرادت روسيا تنبيه إيران، مجدّداً، بأن إمكانية تحقيق طموح النظام لاستعادة بقية الأراضي السورية من المعارضة المسلحة هي رهن المخططات الروسية المقترنة بمصالحها في الإطار الأوسع، بما فيها مصالحها مع “لاعب” مهم تحرص على ألا تخسره، وهو اللاعب التركي. والاتفاق الذي تم التوصّل إليه في موسكو بين بوتين وأردوغان، وإن كان يضمن للجانب السوري استخدام طريق M4، إلا أن الإشراف الروسي – التركي عليه سوف يضع المشروع الاستراتيجي الإيراني لإنشاء خط طهران – بغداد – اللاذقية تحت رحمة “شريكيها”، روسيا وتركيا، وهذا يجب أن يدفع إيران إلى التفكير ملياً قبل وضع العصي في عجلة مخططات روسيا، والتأثير على مصالحها.
ينبغي التشديد، أخيراً، على أن هذا التحليل يستند إلى الوضع الراهن، بمعطياته الحالية، وهي معطياتٌ متحرّكة، وربما تتغير لدى أي تحرّك مفاجئ من أحد اللاعبين، ما قد ينسف، جزئياً أو كلياً، اتفاق موسكو الذي جهد الطرفان، الروسي والتركي، في التوصل إليه. قد يتبين لأردوغان أن الاتفاقية بَخَسَتْه “حقه”، ولم تحلّ مشكلة المليون لاجئ الذين هربوا من القصف الروسي – السوري باتجاه الحدود السورية – التركية، ولم تُرْضِ الصقور السياسيين والعسكريين في دائرة محازبيه وأنصاره، وربما يقرّر استخدام القوة لإيجاد حقائق جديدة على الأرض. من جهة أخرى، قد تضغط إيران على النظام السوري، لخوض مغامرة عسكرية غير محسوبة، للعب دور “بطولي” وتحقيق المكاسب التي لم يضمنها له التفاهم الروسي – التركي، ومغامرة كهذه قد تودي باتفاقية موسكو، وتزجّ قوات النظام وقوات حلفائه في أتون معركةٍ جديدةٍ تعطي للأتراك ذريعتهم المرتقبة، وتخلط الأوراق من جديد. المعارضة المسلحة، من جهتها، قد تُقْدِم على مجازفة جديدة، وتستفز الروس بهجماتٍ على قواتهم، ما قد يتسبب في ضربات روسية انتقامية قد تقضي على اتفاقية وقف إطلاق النار، والعودة إلى الوضع الذي كان سائداً قبل اتفاقية موسكو.
المصدر: العربي الجديد