“في زمن الجوع لا يوجد خبز سيئ” كما تقول رواية الخبز الحافي للروائي المغربي محمد شكري، ولكن ماذا يأكل السوريون إذا لم يجدوا خبزاً سيئاً؟ بعد أن دخل رغيف الخبز في أسواق البورصة السورية التي يديرها أمراء الحرب ومرتزقة نظام الأسد، الذي سقط من يده شعار “الخبز خط أحمر” بعد أكثر من خمسين عاماً على استغلاله لإسكات صوت بطون السوريين من مبدأ “أنا أعطيكم خبزكم كفاف يومكم”!
سيطر نظام الأسد سياسياً وأمنياً من خلال حزب البعث العربي الاشتراكي، على القطاعات المهنية في سوريا وخاصة قطاع الزراعة، حيث أسس عام 1964 اتحاد الفلاحين كتعبير عن الانقلاب على الإقطاع الريفي، واعتمد على الجمعيات الفلاحية لشراء محصول القمح وغيره من المحاصيل الزراعية من الفلاحين، ورفع شعاره عن الخبز بعد أن سيطر على الدولة والمجتمع.
وبحلول عام 1974 كان هناك 12984 اتحادا فرعيا لاتحاد الفلاحين، يضم نحو 218 ألف عضو. تضاعفت عضوية الاتحاد لتصل عام 1985 إلى 466172 عضوا يمثلون 80 في المئة من العاملين بالزراعة بين مالكين ومستأجرين وعمال.
يقول المفكر الاقتصادي المصري سمير أمين إن “معظم الحركات الاجتماعية في الوطن العربي تندلع في مواجهة حكم قاس أو إفقار”، وتاريخيا كان الخبز رمزا للثورات، قبل اندلاع الثورة في فرنسا عام 1789 الفرنسية، كان هناك ثلاثة أنواع من الخبز، الخبز الأبيض للطبقة الغنية والخبز رملي اللون للطبقة المتوسطة، والخبز الأسمر “النخالة” للفقراء. وكان الجوع وصعوبة الحصول على الخبز سبباً في الاحتجاجات الشعبية التي انتهت بالثورة الفرنسية.
قبل عام 2011 كان الأهالي “الآباء والأمهات” يقولون ردا على أبنائهم المتأففين من الوضع الاقتصادي في سوريا والطامحين إلى الهجرة، “الخبز في فرنسا وفي أوروبا غالٍ وخبزنا رخيص وهو في متناول الجميع”، في إشارة إلى “الدولة” التي دعمت سعر الخبز في السنوات الماضية، ولكن هل كان الخبز وحده كافياً للحياة في سوريا؟
الخبز.. سيف بيد النظام
يقول الباحث السوري صفوان موشلي لموقع تلفزيون سوريا، إنه ومنذ عشرة آلاف سنة و”بمحض الصدفة ” تلقحت أولى سنابل الشوفان البري بنوع من أعشاب الشيلم على ضفاف الفرات (في موقع أبو هريرة) فأنتجت أول سنبلة قمح.
ومنذ زراعة القمح في أول قرية سورية، أصبح الخبز مصدر 80 في المئة من السعرات الحرارية اللازمة لحياة الإنسان السوري، أما الخضراوات والفواكه واللحوم فتغطي حاجته الباقية من السعرات الحرارية، واليوم في أكثر الدول تحضرا ما زال الخبز مصدر 50 إلى 55 في المئة من السعرات الحرارية على الأقل لدى مجمل المواطنين.
ويضيف “موشلي” أن توفير خبز الحنطة عبر الزراعة أو المقايضة والحفاظ عليه كان متوفرا للمواطنين والرعايا من أهم وظائف الإمبرطوريات القديمة والدولة الحديثة أيضا، ويستطرد “بالخبز خضع الشعب للملك وسار الجند إلى القتال، فمن أكل خبز السلطان ضرب بسيفه”.
ويتابع “في العصور الحديثة ثار الأقنان على أمراء المقاطعات، عندما أخذ الأمراء جل المحصول لإطعام الفرسان والجنود، حدث ذلك في فرنسا وبريطانيا ومعظم أوروبا وكذلك في الهند والصين وآسيا الوسطى، وعندما جاع الجنود ثاروا على ملكهم أوهربوا من معاركه، فالجنود تمشي على بطونها بحسب تعبير نابليون”.
احتكار الخبز يعد من أهم وسائل التدجين وفقدانه من أهم أسباب العصيان والثورة أيضا برأي “موشلي”، ويشير إلى أن العالم العربي والشرق الأوسط ليس إلا حلقة تشبه حلقات عديدة من سلسلة شكلت تاريخ الخبز أوالانسان، وقد تعلم الحكام العرب ممن سبقهم، وتوضح استراتيجيات القمع و لدى أجهزة الاستخبارات العربية منذ العصيانات المتكررة للانكشارية العثمانيين وحتى “ثورة الحرامية” حسب ما طاب للرئيس الراحل أنور السادات أن يسمي انتفاضة الخبز، والتي كادت أن تتحول ثورة تطيح بحكمه، احتجاجا على رفع اسعار الخبز نزولا عند توصيات صندوق النقد الدولي.
أما في سوريا بعد سقوط مناطق خفض التصعيد في حلب والغوطة وريف المنطقة الوسطى والجنوب، فأصبحت سياسات النظام الغذائية مختلفة، فقد تركزت سياسات النظام وداعميه الرئيسيين روسيا وإيران على محاولة حصر المساعدات الدولية في مؤسسات النظام لتمويل ميليشياته، بالإضافة لمحاولة السيطرة على مصادر القمح الخارجة عن سلطته في الجزيرة الفراتية مستعينا بالنفوذ الروسي. وعندما تعذر الوصول لهذا الهدف، بدأ النظام في تنفيذ الخطة باء والتي تبين أنها تقضي بإحراق محاصيل القمح لخلق إرباك في التوريد الأممي الذي سيستفيد منه بحسب “موشلي”.
ويشير إلى أنه لتنفيذ هذا الهدف شاركت القوات الروسية واستخباراتها بشكل فعال في إحراق محاصيل القمح قبل حصاده لعام 2020 وقد عولت على أن يتم استيراد القمح الروسي تعويضا عن نقص القمح الناتج عن تحطم شبكات الإنتاج الزراعي شرق الفرات أولا وعن حرق المحاصيل قبيل حصادها في الدرجة الثانية.
لكن ذلك لم يتحقق إثر تنفيذ قانون قيصر وانكشاف إفلاس البنك المركزي السوري لذلك توقفت روسيا عن إمداد السوق السورية بالقمح الروسي إلى ما بعد تسديد الديون المستحقة وإلا سيتم سداد هذه الديون من الأصول السورية على شكل أراض ومنشآت قائمة ومرافق سياحية كالمرافئ والمطارات.
ويلفت إلى أن سعر القمح لا يشكل رقما كبيرا أمام ما يصرف في سوريا لاحتواء الأزمة المستفحلة في دمشق، فالنظام لا يَعول عمليا إلا أقل من أربعة ملايين نسمة يشكل ثمن متطلباتهم من القمح أقل من 300 مليون دولار، يستطيع النظام أن يجبيهم من “أثمان” جوازات سفر المهاجرين واللاجئين، أو من رسم الدخول الجديد، ويضيف قائلا “بل تكفي تحويلات الأبناء لإنقاذ آبائهم من الجوع. ولكن النظام لم يفعل فهو لم يشترِ القمح عبر أذرعه المالية (رجال أعمال النظام غير المشمولين بالعقوبات)، من عوائد الجباية، ولا الروس أظهروا نذرا من المسؤولية فأمدوا السوق بحاجتها من القمح كقرض مؤجل”.
وفي 11 من آب الماضي، طرحت المؤسسة السورية العامة لتجارة وتخزين وتصنيع الحبوب التابعة للنظام مناقصة دولية لشراء 200 ألف طن من القمح اللين لصناعة الخبز من روسيا.
وقال متعاملون أوروبيون إن الموعد النهائي لتقديم العروض، في المناقصة التي طرحتها المؤسسة، هو 14 أيلول، حسب ما نشرته وكالة رويترز.
وأشار المتعاملون إلى أن الشحنات مطلوبة للتوريد خلال ستين يوما بعد الموافقة على الطلبية ويتعين تقديم الأسعار بالدولار الأميركي كما يتعين سداد المدفوعات بالعملة نفسها.
والجدير بالذكر أنه في 28 تموز الفائت أغلقت مناقصة سابقة لشراء 200 ألف طن قمح طرحها النظام وعبر التجار عن اعتقادهم أنه لم تجر أي عمليات شراء في مناقصة تموز.
وقال مدير المؤسسة العامة للحبوب في سوريا يوسف قاسم التابعة للنظام في 14 تموز الفائت لوكالة سبوتنيك الروسية إن “الحكومة الروسية قدمت عدة دفعات من المساعدات للشعب السوري وآخر دفعة كانت عبارة عن 100 ألف طن وصل منها 75 ألف طن ومن المنتظر وصول الكمية المتبقية خلال الشهر الجاري وهي كانت داعمة ورافدة للمخازن الاستراتيجية الخاصة بالمؤسسة السورية للحبوب لتأمين مادة الدقيق التمويني ومن ثم إنتاج رغيف الخبز”.
التجويع لتمرير الصفقات
أصدر نظام حافظ الأسد منذ سبعينيات القرن الماضي قسائم دعم المواد الأساسية مثل الخبز والسكر والزيت ومواد أخرى التي كانت إلى حد ما كانت متوفرة بأسعار مقبولة وكان معظم المواطنين وذوي الدخل المحدود يحصلون عليها.
ويوضح الباحث السوري طلال مصطفى لـ موقع تلفزيون سوريا، أن الخبز لم ينقطع تاريخيا في المدينة وفي الأرياف السورية، لأنها كانت تصنع محليا في كل بيت، لكن بعد عام 2011 بدأ النظام بالتخلي عن دعم المواد الرئيسية تدريجيا، وحصل ارتفاع في أسعار جميع المواد وأصبحت تتوفر بكميات قليلة، ثم بدأ النظام يستخدم البطاقة الذكية لبعض المواد الأساسية.
وكانت وزارة التجارة الداخلية في حكومة الأسد قد أعلنت، عن بدء توزيع المواد التموينية المدعومة عبر ما يُطلق عليها “البطاقة الذكية”، وفق نظام الرسائل.
ويشدد “مصطفى ” على أن المواطن السوري لم يتخيل أن يأتي يوم ويحصل على الخبز بالبطاقية الذكية، اليوم كل ثلاثة أفراد يحصلون على ربطة خبز.
ويتابع “هناك مسألة قيمية ومجتمعية مهمة، السوري اليوم لم يعد قادرا على دعوة صديقه إلى البيت لتناول الغداء أو غيره، نحن معتادون في المدن أن نستقبل الأقارب والأصدقاء من الأرياف لحاجات مختلفة، الآن العائلة لا تسطيع ذلك لأنها لا تملك الخبز وهذه إشكالية كبيرة في تاريخ المجتمعات”.
ويرى “مصطفى” أن ما يجري اليوم من أزمة في توفير الخبز، ليس مفاجئا للنظام بل هو عمل مقصود ضمن سياسة التجويع لأن النظام يريد من السوري أن يفكر ليلا ونهارا برغيف الخبز، كي لا يفكر بالقضايا الوطنية والسياسية والقضايا الكبرى.
وخلال الأشهر الستة الأخيرة وحدها تشير بيانات برنامج الأغذية العالمي إلى أن عدد الذين يقدر أنهم “لا يشعرون بالأمن الغذائي” في سوريا ارتفع من 7.9 مليون فرد إلى 9.3 مليون فرد.
ويضيف “مصطفى” أن “النظام مقبل على أفعال سياسية كبرى بما فيها ربما المصالحة مع الكيان الصهيوني.. عمليا هو باع وأجر المؤسسات الاستراتيجية ميناء طرطوس ومناجم الفوسفات في تدمر باعها للروس.. مقابل استمراره بالسلطة هذا النظام خلال 10 سنوات من خلال التهجير والقتل ليس مسؤولا لا عن مواطن ولا عن وطن وأجزم أنه بدون دعم روسي وإيراني يستطيع الحد من الأزمة الاقتصادية لو دفع من أرصدته كعائلة أسدية لكنه يقوم بشكل ممنهج بتجويع السوري وجعله عبدا، المواطن السوري أقل من العبد، العبد كان يعمل مقابل الحصول على الطعام السوري لا يحصل عليه وهي مسألة خطيرة ومقصودة”.
يرجح بعضهم قيام ثورة ضد نظام الأسد في مناطق سيطرته أو أن يثير تردي الوضع المعيشي احتجاجات، وبشأن ذلك يقول “مصطفى” : “ربما البعض يقول نحن مقبلون على ثورة الجياع.. الجياع لا يثورون المجاعات الأفريقية لم ينتج عنها ثورات بل حاول الجائعون الحصول على لقمة العيش بأي وسيلة وكذلك سيفعل السوريون، النظام يريد أن يعاقبهم”.
وبحسب دراسة أجراها “مصطفى” فإن 90 في المئة من السوريين في الداخل يعارضون نظام الأسد ويكرهونه لذلك يريد أن يجوعهم.
ويوضح “من خلال دراسة أجريتها على عينة من الشباب كانت حصة الداخل 200 شاب هم مؤيدون لكن عندما طرحت أسئلة تبين أنهم معارضون للنظام، وهو يعرف ذلك بوساطة أجهزته الأمنية لذلك يعاقبهم السوريون يعارضونه في الداخل والخارج ولا يحترمونه فبدا يعاقب الرمادي والصامت.
وبرأي “مصطفى” فإن ما بعد سياسة التجويع قد تكون صفقات سياسية ربما لها طابع استراتيجي وطني مثل التصالح مع إسرائيل والتخلي عن جزء من الجولان، النظام يريد أن يوهم المواطن قبل الانتخابات مقابل الصفقات بما فيها بقاؤه في السلطة أنه سيحسن المستوى المعيشي من خلال توفير المواد الأساسية أو زيادة الدخل، وربما سيشعر المواطن أن هناك تحسنا، وبالتالي يمرر صفقات النظام مقابل التحسن في المستوى المعيشي”.
يذكر أن لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا) قدرت في تقرير خسائر سوريا الاقتصادية خلال 8 سنوات من هام 2011 وحتى 2019، بما يفوق 442 مليار دولار.
وأشار التقرير إلى أن “هذا الرقم الهائل لا يعبّر وحده عن معاناة شعب أصبح 5.6 مليون منه على الأقل لاجئين، و6.4 مليون نازحين داخلياً، و6.5 مليون يعانون من انعدام الأمن الغذائي، و11.7 مليون بحاجة إلى شكلٍ من أشكال المساعدة الإنسانية”.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا