بعد تشييع جنازة الرئيس جمال عبد الناصر وانتهاء مراسم توديع الجثمان حيث طلب الرئيس الروماني شاوشيسكو لقاء كل من السيد على صبري وأنور السادات كل على حدة. ونقل إليهما رسالة من رئيسة الوزراء الإسرائيلية في ذلك الوقت جولدا مائير. الرسالة التي نقلها الضيف الروماني جاء فيها وكما جاء في كتابه “هيكل”:
1- إسرائيل لن تستغل الموقف الناتج عن وفاة عبد الناصر والتصريحات التي أدلى بها المسئولون الإسرائيليون بعد وفاة الرئيس هي تصريحات جادة تمثل وجهة نظر الحكومة.
2- إن إسرائيل تتمنى أن يستمر المسؤلون الجدد على السير في نفس الطريق الذى سلكه الرئيس في الشهور الأخيرة الرامية إلى إيجاد حل سلمى للمشكلة.
3- لذلك فإن إسرائيل مستعدة أن تمد اتفاقية وقف إطلاق النار عند انتهائها لأجل غير مسمى.
4- إن إسرائيل مستعدة لإرسال مندوبين على أي مستوى تراه جمهورية مصر العربية لإجراء محادثات لا تتعارض مع المحادثات التي يجريها السفير يارنج.
5- وإذا كان هناك رد من المسئولين يبلغ إلى الجانب الروماني الذى يقوم بدوره بنقله للجهات الإسرائيلية.
هذه الرسالة رد عليها على صبري ورد عليها السادات.
أما رد على صبري – والذي كان يتمتع بنفوذ أدبي على كافة المسئولين في ذلك الوقت بالإضافة إلى اعتباره في نظر الغرب رجل روسيا الأول في مصر – على الرسالة الإسرائيلية:
إن مصر تسير على نفس الخط ونفس السياسة التي رسمها عبد الناصر في التعامل مع الصراع الإسرائيلي بصفة عامة ومع مبادرة روجرز بصفة خاصة والتي كانت تقوم إدارته للأزمة على أساس أن مدة وقف إطلاق النار تسعون يومًا مع بداية بناء جبهة شرقية قوية بين العراق وسوريا بالإضافة إلى تأمين العمق المدني وحماية غطاء مصر بحائط الصواريخ لحماية المدنيين هذا كله يعطى مصر الفرصة لإعداد عملية كبيرة وإن كانت محددة لعبور قناة السويس طبقًا للخطة جرانيت فى القوت الذى لن تقوم قوات الأسطول السادس الأمريكى بدورها التقليدى كاحتياطى استراتيجى إسرائيل فإن هذا سوف يؤدى إلى وجود معادلة جديدة فى المنطقة، وينقل قضية وشكل الصراع إلى وضع جديد. هذه كانت وجهة نظر عبد الناصر، والتى أدت إلى قبوله المبادرة فالحل كان مؤقتًا للقضية وليس نهائيًا فى قبوله. وهذا الرد جاء نتيجة قرب على صبرى من عبد الناصر والروس معًا.
ونجح عبد الناصر فى حماية العمق المصري وإعادة ترتيب الأوراق الداخلية كانت هذه السباب والنتائج التى استطاع عبد الناصر تحقيقها سواء على الجبهة الداخلية أو الخارجية هى الدافع وراء رد (على صبري) على الرسول الرومانى والذى قام بنقل وجهة نظر رفاق عبد الناصر ووجهة نظر السادات والذى أكد للرسول الرومانى من خلال إجابات دبلوماسية أن الباب موارب وإمكانية التسوية مرهونة بتغيرات خارجية وداخلية.
وجهتا النظر كما وصلتا إسرائيل وصلتا أيضًا إلى المخابرات الأمريكية وكانت التغييرات التى يراها السادات إمكانية تسوية فى الصراع العربى الإسرائيلى تتطلب إحداث تغييرات داخلية تتمثل أولا: فى التخلص من العناصر الناصرية المتشددة فى قيادات الحكم والتى تمثل محلة التجريف والبوار لكل المرحلة الناصرية ثم يتبعها مرحلة أخرى وهى مرحلة زراعة أفكار تقوم على قبول سلام مصرى إسرائيلي.
وهذه التغييرات كانت تتطلب أولا عدة مراحل كل مرحلة مرتبطة بالأخرى فالمرحلة الأولى كانت تقوم على التخلص من العناصر المتواجدة فى دائرة صناع القرار، وهذه المرحلة تتطلب تأمين الجبهة الداخلية أثناء التغيير خوفًا من تحرك الجماهير.
فى السياق ذاته كان لا بد وأن يتم تأمين الجبهة الخارجية خوفًا من قيام إسرائيل بأى مغامرات على الحدود المصرية. حتى إذا انتهت هذه المرحلة يدخل السادات فى المرحلة الثانية وهى مرحلة تغيير مصر الناصرية إلى مصر الساداتية.
ومن أجل تنفيذ هذه المراحل ظهر مثلث التعاون السعودى الإخوانى الأمريكى وكان لكل رأس من هذا المثلث وظيفة لتحريك تنفيذ السادات لمخططه. وكان وراء تحرك كل رأس دوافعه الخاصة. وتربطه بالإدارة المنفذة علاقة خاصة. فعلى مستوى العلاقة بين السادات والسعودية تؤكد اعترافات السادات والأسرة قدم هذه العلاقة.
ففى يناير 1968 أعلن رئيس الوزراء البريطانى (هارولد ويلسون) أن محدودية الموارد الملية تضطر الحكومة إلى سحب الوحدات العسكرية الموجودة فى منطقة الخليج العربى قبل نهاية 1971.
ومثل هذا الانسحاب من شأنه أن يحدث فراغًا اعتادت بريطانيا أن تملأه. كحامية للمنطقة ضد التمدد الشيوعى وأن إخلاء المنطقة من القوات البريطانية يعطى للروس فرصة لزيادة تواجدهم فى المنطقة.
فى الوقت الذى يوجد عدد من القوات والخبراء الروس فى مصر. بالإضافة إلى العلاقات المتميزة بين مصر وروسيا وارتفاع حدة العداء بين مصر والسعودية. هذه كانت الصورة من خارج السعودية أما عن اصورة من الداخل فقد كانت أكثر ضبابية.
ففى يونيو 1969 أحبطت السعودى مؤامرة عسكرية للإحاطة بالملك فيصل وإقامة نظام جمهورى وتم إلقاء القبض على نحو ألفين من أفراد الجيش والقوات الجوية. وإذا كانت واقعة محاولة الانقلاب الفاشلة قد اعتبرت دافعًا داخليًا لتحرك السعودية لإعادة النظر فى التفكير فى عمليات التأمين ضد التهديد الروسى المتمثل فى الخروج البريطانى من المنطقة وامتداد النفوذ الناصرى إلى الجيش السعودي. إلا أن هذه العوامل كانت محركًا خارجيًا بالنسبة للولايات المتحدة نحو اتخاذ خطوات أكثر جدية ناحية المنطقة العربية ومصر تحديدًا.
فقد أقدمت الولايات المتحدة على خطوة جريئة لإثبات تعهدها بتأمين السعودية واحتواء أى تمدد للنفوذ الشيوعي. وتمثل ذلك فى عقد أكبر اتفاقية تسليح تُعقد مع دولة حيث بلغت قيمة الصفقة وقتها 459 مليون دولار.
وقامت وزارة الدفاع الأمريكية بتدريب العديد من أفراد الجيش السعودى بالقواعد الأمريكية وتم تنشيط قاعدة الظهران الجوية. وكانت للخطوات التأمينية التى أقدمت عليها الإدارة الأمريكية ناحية السعودية أكبر الأثر فى استغلال الموقف ناحية تقارب مصر لإسرائيل.
ففى عام 1971 جرت أقوى محاولة لكسب تفهم السعودية لخطة السلام الأمريكية بمنطقة الشرق الأوسط حيث زار روجرز السعودية واجتمع مع الملك فيصل بالرياض وشدد على حسن النوايا الأمريكية ناحية الشرق، ثم شرح الملك فيصل العوامل الداخلية التى تحد من مرونة الولايات المتحدة فى اتخاذ خطوات متشددة وسلمه خطابًا من نبكسون يتعهد فيه باستعداد الأمريكان للعب دور مؤثر ومفيد فى التوصل إلى تسوية سليمة بالمنطقة. وغادر روجز السعودية مع ترك دعوة للملك فيصل لزيارة الولايات المتحدة الأمريكية – فى أى وقت – حسن النوايا الأمريكية ناحية الشرق والوعد الأمريكى بحماية الأراضى السعودية كان لا بد وأن ينقل إلى السادات الذى أظهر مرونة فى رده إلى الرئيس الرومانى حول رغبة إسرائيل فى إجراء تسوية مع مصر. وكان لا بد وأن يطبق السادات حسن نواياه والتى كانت تتلخص فى ضرورة التخلص من العناصر المتشددة والتى كانت تؤمن بأن الحل السلمى لإنهاء الصراع العربى الإسرائيلى لا تصلح.
وكانت عملية التخلص من العناصر الناصرية المتشددة ليست بالعملية السهلة وتتطلب عملية تأمين داخلى تتواكب مع عملية التأمين الخارجى الذى تعهدت به من قبل إسرائيل ممثلة فى الوعد الرومانى وحسن النوايا الأمريكية والتى نقلتها السعودية إلى مصر.
وإذا كان السادات قد نجح فى تأمين الجبهة الخارجية فكان عليه أن يبحث عن تيار يستطيع أن يواجه إمكانية تحرك المؤيدين لأفكار عبد الناصر، وكان التيار الوحيد الذى يستطيع السادات أن يعتمد عليه هو التيار الإخوانى الذى فرت عناصره القيادية إلى الخارج، وإن كانت جذورها ما زالت موجودة تحت الأرض. بالإضافة إلى أن هذا التيار يحمل ميراثًا عدائيًا مع الناصريين وأن الصدام بين التيارين من شأنه أن يؤمن الجبهة الداخلية ويضمن على الأقل فى ظل عدم تحرك إسرائيل فرصة للسادات لإقامة شرعية جديدة وبدأ السادات رحلة الاتصال لإعداد اتفاقية مع قيادات الإخوان المسلمين.
وبدأ الاتصال بالعناصر الإخوانية من خلال الملك فيصل بالخارج ومن الداخل عثمان أحمد عثمان والدكتور محمود جامع حيث سافر الاثنان إلى السعودية. وتحددت ليلة القدر لعقد اتفاقية عودة الإخوان. وبدأت عقب صلاة العشاء تحت نقطة الإذاعة وعلى يسار الحجر الأسود وعلى يمين حجر سيدنا إبراهيم وحضر من قيادات الإخوان الدكتور سالم نجم ومن الكويت عبد الرؤوف مشهور وعبد المنعم مشهور والدكتور يوسف القرضاوى والدكتور أحمد العسال. وبعد لقاء امتد قرابة ساعتين وضعت شروط الصلح وتضمنت عدة نقاط أساسية تتلخص في: الإفراج عن جميع المساجين والمعتقلين من الإخوان والسماح للهاربين بالعودة وإسقاط الأحكام الصادرة ضدهم وإعادة الجنسية لمن سحبت منه.
الشروط الإخوانية السابقة نقلها عثمان والدكتور محمود جامع إلى السادات وكان السادات يعتبر تنفيذها فى وقتها صعبة إلى حد ما وتتطلب أولا التخلص من العناصر الناصرية والشيوعية المتشددة والتى تمثلت فى على صبرى وشعراوى جمعة اللذين كانا يخشاهما السادات.
وفى مارس 1971 وضع السادات خطة للتخلص من رفاق عبد الناصر. واختار شهر مارس لتنفيذ مخططه
وبدأ التنفيذ عن طريق استدعاء ممدوح سالم من الإسكندرية وتأدية اليمين الدستورى أمام السادات ودار حوار صغير بينهم كان يتضمن تكليف ممدوح سالم بمهمة محددة هى ضمان عدم استخدام قوات الأمن المركزى والتحفظ على حجرة الشرائط بوزارة الداخلية، بالإضافة إلى التحفظ على اللواء حسن طلعت مدير مباحث أمن الدولة.. هذا عن الجانب الأول فى نفس السياق كلف الليثى ناصف وتحركت فى ليل (14) مايو قوات الحرس الجمهورى وقامت بالقبض على كافة القيادات بمن فيهم سامى شرف.
وبينما كان السادات ينتهى من الوجود الروسى بتنسيق مع السعودية ومباركة أمريكية كان هناك خط آخر مواز يمشى فيه السادات بالاتفاق مع السعودية إعادة قيادات الإخوان من الخارج.
وإعداد جيل من العناصر الإخوانية تعطى السادات شرعية فى الحكم. ففى صيف 1971 نجح الملك فيصل فى أن يرتب اجتماعًا بين السادات ومجموعة من قيادات الإخوان المسلمين المقيمين بالخارج. هذا الاجتماع عقد فى استراحة السادات فى (جانا كليس) بالإسماعيلية فى إطار من السرية التامة ولم يعلم به إلا الدكتور محمد جامع وعمان أحمد عثمان والملك فيصل، والذى تعهد للقيادات الإخوانية بتأمين دخولهم وخروجهم من مصر.
وبدأ الاجتماع بكلام السادات والذى أكد فيه للقيادات الإخوانية أنه يواجه نفس المشاكل التى يواجهها الإخوان من الناصريين والشيوعيين وأنه يشاركهم أهدافهم فى مقاومة الإلحاد والشيوعية.
وعرض السادات فى نهاية الاجتماع على قيادات الإخوان تسهيل عودتهم إلى النشاط العلنى وعقد تحالفًا معهم فى السياق ذاته كانت طلبات قيادات الإخوان من السادات إظهار حسن النوايا وجدية العرض.
وأن ذلك مرهون بالإفراج عن كافة الإخوان المسجونين وإسقاط الأحكام على الهاربين وقد وافق السادات على الطلبات الإخوانية ووافق الإخوان على عقد تحالف إخواني ساداتي.
ولتأكيد مباركة السعودية للاتفاق فقد قام الملك فيصل بتقديم منحة قدرها 100 مليون دولار إلى الأزهر دفع منها 40 مليون دولار تخصص لقيادة حملة ضد الشيوعية والإلحاد.. وبوصول دولارات الملك فيصل وبموافقة السادات والإخوان انطلق الطرفان في تنفيذ شروط الاتفاق.
المصدر: العربي اليوم