
تعرّضت قسد لثلاثة اختباراتٍ مصيرية على مدار سنوات الثورة، رسمت ملامح استراتيجيتها، وعكست أفكار ومنهج قادتها. واليوم تقف أمام مفترق طرق يعيد طرح السؤال الأساسي: هل ستواصل العمل على سياسة الانفصال، أم تسلك منهج الشراكة بما يناسب حجمها الفعلي، وتتجاوز اللعب على المصالح السياسية الدولية الآنية، لتعمل بما يتوافق مع الصالح السوري العام؟
بدأ الاختبار الأول عام 2012، عندما اختارت بعض القيادات الكردية السورية التنسيق مع نظام الأسد وتجاوز القوى الكردية الثورية، بهدف تحقيق مكاسب سريعة يقدّمون بها أوراق اعتمادهم إلى الشارع الكردي؛ حيث انسحبت قوات نظام الأسد من مساحات واسعة في شمال شرقي سوريا لصالح وحدات حماية الشعب PYD/YPG، وتسلّموا مقارّ أمنية، وأسلحة، ونقاطاً سيادية، من دون مواجهات تُذكر مع قوات النظام، في وقت كانت فيه مناطق سورية أخرى تُقصف وتُدمَّر. ولكن كانت النتيجة أن تغلغلت القيادات القنديلية، وفرضت أجندتها على معظم التشكيلات الكردية، وأزاحت معظم الكرد السوريين عن مراكز صنع القرار.
وبذلك كان التغيير الجوهري أن التحالف مع نظام الأسد لم يعد وليد الضرورة أو تكتيكاً يهدف إلى تجنّب الصدام مع السلطة المركزية، بل شراكةً حقيقيةً بين نظام الأسد وقيادات كردية – تركية هدفها الأساسي تجيير المكاسب الآنية لصالح المشروع الانفصالي. وعلى هذا أُسّست “الإدارات الذاتية” الأولى، وتشكّلت الكانتونات، ليس بوصفها ثمرة حراك شعبي واسع أو توافق وطني أو حتى رغبة كردية خالصة، بل ككيانات نشأت في ظل تسوية أمر واقع مع نظام الأسد، الذي كان يهدف إلى فرض معادلة جديدة على أنقرة، ويهدّد بتفجير المنطقة إن لزم الأمر. وبذلك خسرت القيادات السورية الكردية قرارها الاستراتيجي لصالح القنديليين.
تحقيق “واشنطن بوست” أظهر بما لا يدع الشكّ أن قسد لم تفكّر أبداً في الانتماء إلى سوريا، بل وحاولت إقامة حلف أقليات، ودعمت، بالتنسيق مع إسرائيل، عناصر انفصالية.
ثم جاء الاختبار الثاني بالتحالف مع واشنطن في حربها ضد تنظيم داعش. في هذا الوقت، رفضت قوى الثورة السورية الشروط الأميركية، واشترطت قتال داعش والأسد على السواء، مفضّلة الحفاظ على حقّها في تحديد مسارها العسكري، وبالتالي الهدف السياسي النهائي، وهو إسقاط نظام الأسد وإقامة بديل سوري. أمّا قسد، فاختارت أن تعمل مع الأميركيين بشروط القنديليين: قتال داعش، والسيطرة على شرق الفرات، وإقامة كانتون مستقل ولكن غير معترف به سياسياً، محقّقةً انتصاراً عسكرياً من دون أي مكاسب سياسية.
لم تضطر واشنطن إلى خوض أي مفاوضات مع قسد حول مستقبل المنطقة، إلّا ربّما بعض الوعود الضبابية عن إمكانية تطوير العلاقة معها. حتى إنّها لم تقدّم أي وعد بالاستقلال كما كانت تردّد قسد على مدار السنوات السابقة. ولربّما من أهم الأسباب أن واشنطن كانت تتعامل مع قيادات متمرّدة اعتادت القتال في الجبال؛ نوع من العقلية الفصائلية قصيرة النظر.
اختيار العمل مع الأميركيين ضد داعش أضاف بُعداً آخر للأزمة؛ فقد عزّزت قسد الانقسام الداخلي، وتركت شعوراً بأنها قوة أجنبية أكثر من كونها جزءاً من النسيج السوري الوطني. هذا الانقسام لم يقتصر على العلاقات مع قوى الثورة فحسب، بل شمل أيضاً السكان المحليين الذين رأوا في قسد قوّة أمر واقع أكثر من كونها قوة وطنية مستقلة.
جاء الاختبار الثالث بعيد سقوط نظام الأسد، حيث لاحت فرصة كبيرة لقسد لتتخفّف جزئياً من عبء وعودها في دولة كردية بعيدة المنال، وتمدّ يدها إلى دمشق من جديد، حيث كان من الممكن، بلحظات الفرح والعفو وعدم انتشار الفوضى والانتقام، أن يُصحَّح المسار وتعود إلى أجندة المشروع الوطني بدل اقتصار وجودها الوظيفي على محاربة داعش، ووجودها الاجتماعي على القبضة الأمنية، وتنخرط مع دمشق في مباحثات سياسية تفضي إلى شراكة حقيقية وفاعلة.
كان يمكن الجدال طويلاً حول جرائم دمشق وتعصّب نظامها الإسلامي الطموح للتحكّم منفرداً بسوريا، الذي أفقد قسد الثقة بشركاء حقيقيين. ولكن تحقيق “واشنطن بوست” أظهر بما لا يدع الشكّ أن قسد لم تفكّر أبداً في الانتماء إلى سوريا، بل وحاولت إقامة حلف أقليات، ودعمت، بالتنسيق مع إسرائيل، عناصر انفصالية. وحاولت حتى قبل أحداث آذار بكثير (بعد أسبوع واحد فقط من سقوط نظام الأسد)، وحين كان الشرع يحاول إطفاء أي حروب انتقامية، أن تحمي عناصر الأسد الهاربين، وتزعزع استقرار النظام الجديد.
التاريخ السياسي يوضح أن التحالفات قصيرة النظر غالباً ما تؤدي إلى عزلة محلية ودولية في الوقت ذاته.
اليوم تقف قسد أمام الاختبار الأصعب. هناك حقائق جديدة على الأرض: نظام دمشق تغيّر بلا رجعة، وهو الآن معترف به دولياً، قريب من واشنطن، ويعمل بخطوات جادّة وفاعلة على تحمّل مسؤوليات ما أُنشئت قسد لأجله (محاربة داعش). وهناك رغبات إقليمية متضاربة بين من يريد استقرار سوريا، وبين من يسعى لإبقائها مهتزّة وضعيفة، ويبحث عمّن يؤدّي ذلك الدور. ومهما كانت الوعود التي ستُقدَّم لقسد، إلّا أن الحقيقة التي يجب أن تستوعبها هي أن تلك الوعود لن تتضمّن إنشاء دولة كردية، ولن يعدو دور قسد أكثر من أداة وظيفية تابعة.
الاستمرار في تبعية القوى الأجنبية استراتيجية محفوفة بالمخاطر السياسية والأمنية. التاريخ السياسي يوضح أن التحالفات قصيرة النظر غالباً ما تؤدي إلى عزلة محلية ودولية في الوقت ذاته. اعتماد قسد على الخارج يعني فقدان أي شرعية وطنية متبقّية، وجعل مصيرها رهناً لقرارات أجنبية لا تعكس مصالح السكان المحليين أو توجهاتهم السياسية.
استمرار هذا النهج يعمّق الانقسامات في الداخل الكردي ومع العشائر والمجتمعات العربية المحيطة، ويكرّس القيادة القنديلية الانفصالية التي لا يهمّها مصالح الأكراد السوريين ولا الشراكة السورية، بل تعمل على استمرار التوتر كي لا تخسر نفوذها ودورها الوظيفي. علاوة على ذلك، فإنها تُبقي قسد رهن صراع الإرادات والمصالح الإقليمية والدولية وتقلّباتها، والمحكومة بالصراعات البينية وعدم الاستقرار.
السؤال اليوم ليس إن كانت قسد ستوقّع اتفاقاً مع دمشق أو تهرب إلى الأمام وتبحث عن مظلّة جديدة، بل إن كانت قادرة على كسر هذا الخط المتكرّر من التحالفات الوظيفية، أم أنها ستعيد إنتاجه مرة رابعة، بثمن أعلى وهوامش أضيق. وبالتالي ستتحوّل إلى قوة تمرّد، تحكم قبضتها على الأرض، ولكن من دون أي مستقبل سياسي.
التوافق مع دمشق قد يبدو صعباً ومليئاً بالتنازلات المؤلمة (من وجهة نظر كردية)، لكنه يحمل فرصاً كبيرة لإعادة بناء الثقة مع المجتمع السوري، وتأمين وضع سياسي ودستوري أكثر استقراراً وديمومة، وبناء مكاسب لأهلنا الكرد لا يمكن للقوة العسكرية وحدها أن تحقّقه.
المصدر: تلفزيون سوريا






